التعبير الأكاديمي في إسرائيل: حريّة أم محدوديّة وانحصار
حرية التعبير الأكاديمي هي جزء من حرية التعبير بشكل عام وعليه فهي قسم من الحريات الأساسية في الفكر الديمقراطي الليبرالي (يوجد نوعان فقط من الديمقراطيات: الليبرالية والاشتراكية التي اختفت في القرن العشرين. ما يسمى بالديموقراطية الشكلية أو الشعبوية فهذه ليست ديموقراطيات). مصدر، او منبع الحقوق والحريات في الفكر الليبرالي مولود مع الإنسان وليس معطى له من قبل الحاكم (ميل, روسو).
دولة إسرائيل تأسست على يد حركة وفكر استعماري وتحولت لحركة قومية لكنها استمرت بتبني مبادئ قومجية ترى بالدولة هدفًا ساميًا له تخضع كل باقي القيم، وعليه نتساءل: هل ممكن وجود فكر قومجي ليبرالي؟ إذا راجعنا مبادئ أرنست رنان أو يوهن جوتفريد هردر مثلا سنرى أن هذا غير ممكن. محاولات لتهجين هذه المبادئ غير المتجانسة (كما حاول فعله يشعياهو برلين مثلا) فشل في النهاية. أساس هذا التناقض يكمن بالأساس - وليس فقط - في موضوع مصدر الحقوق والحريات: مولودة أم مكتسبة؟ دائمة أم قابلة للحد والمصادرة؟ هذا لب نقاش موضوع حرية التعبير، والتعيبر الأكاديمي في إسرائيل بشكل عام وفي زمن الحرب خصوصا.
الحرية الأكاديمية مهمة، بل وشرط أساس لتقدم البحث العلمي. الدليل على ذلك تطوره في الدول الليبرالية خلافا للدول القمعية، كالدول العربية مثلا. رأينا في التاريخ أمثلة للثمن الباهظ الذي ممكن أن يدفعه الباحث إذا خرج عن إيمان وعقائد المجموعة (وهناك مفكرون يعتقدون أن المجتمع هو النطاق الأول على الباحث اجتيازه -توماس كون مثلا. إذا لا وجود لبحث حقيقي وبعيد المدى دون قيم كالتنوير، حرية العلمانية وقدرة الفرد على نقض معتقدات وثوابت راسخة.
عندما نتحدث عن الحرية الأكاديمية فنحن نتحدث عن جانبين: حرية التعبير الخاصة بالأكاديمي كشخص، والثانية هي استقلالية المؤسسة الأكاديمية عن السلطة الحاكمة وانتمائها للمجتمع المدني، الذي من دونه لا تكون الحريات والأبحاث كما يجب. فصل المؤسسة الأكاديمية عن السلطة وانتمائها للمجتمع المدني هي من شروط التطور البشري والديموقراطية. هنا تجدر الإشارة للحاجة للتمييز بين الحرية الأكاديمية للأكاديمي كشخص وبين حرية المجموعة الأكاديمية (academic community)
منظمة الأكاديميين الأمريكية American Association of University Professors - AAUP ترى في الحرية الأكاديمية ثلاثة مركبات: حرية البحث العلمي، حرية التعليم داخل الجامعة، حرية التعبير الأكاديمي خارج الجامعة. المشكلة تكمن غالبا في المركبين الثاني والثالث، مع أن للمركب الثالث أهمية خاصة وهو ما أثار غالبية الخلافات من خلال استعماله في ظروف مختلفة، مثلًا: وقت الحرب.
النقاش في إسرائيل حول الحرية الأكاديمية كان يرتفع بحدته كلما كان هناك نقد لسياستها تجاه العرب، خصوصا أن الأكاديمية الغربية، وعلوم الاجتماع على وجه الخصوص، ترى بالأكاديمية الإسرائيلية جزءًا من منظومة الاحتلال: أقسام مثل دراسات الشرق الأوسط أو تاريخ الإسلام إلخ، تعد مؤسسات لتحضير رجال الأمن والاستخبارات، ومعاهد علمية تساهم في التسليح ودعم القدرات العسكرية. عندما اشتد الاحتدام ضد مساهمة الأكاديميا في ترسيخ الاحتلال كان هناك أكاديميون شجعان كفاية للانضمام لدعوات مقاطعة الأكاديميا الإسرائيلية مثل نيف غوردون من جامعة بن جوريون. هذا حدث عام 2014 وأدى لرد فعل قاسٍ من قبل الجامعة بعد توقيعه على عريضة تنادي بمقاطعة الأكاديميا الإسرائيلية. هنا طرح السؤال: هل يحق لأكاديمي بالمساهمة في "قطع الجذع الذي يجلس عليه"؟ أم أن هذا قسمًا من حقوقه (وربما واجباته) كأكاديمي؟
في هذا السياق نشرت إدارة الجامعة رسالة نشرت عبر الصحافة تنص على أن: "إدارة الجامعة تندد بالعريضة التي وقعها عضو الجامعة نيف غوردون". فضلًا عن الملاحقة من قبل الجامعة نفسها، نرى أن الملاحقة تتم من قبل مؤسسات وجهات، قسم منها فاشيّ بطبيعته مثل حركة "إم ترتسو" التي تلاحق حرية التعبير داخل غرف التدريس وليس فقط في الحيز العام، وتنشر أمورًا سيئة وأحيانا مخيفة ضد المحاضرين، خصوصًا العرب.
مع أن المؤسسة الأكاديمية في إسرائيل تتمتع باستقلالية وقسط كبير من الحرية إلا أنها نفسها تتميز بقسط عال من الرقابة الذاتية كما رأينا في عدة حالات مثل قضية المحاضرة نادرة شلهوب كيفوركيان ونيف غوردون. الرقابة الذاتية في الإعلام وفي الأكاديميا هي أكثر فعالية والأقل قابلية للرصد والحماية منها. يجدر الذكر أيضًا أن رئيس المؤسسة (ראש המל"ג) هو شخصية سياسية (وزير المعارف) وهو يعتبر لا سيما في السنوات الأخيرة طرفا فاعلا في الرقابة على الأكاديميين. مثالا على ذلك هو الوزير جدعون ساعر الذي ادّعى أن "الأكاديميين هم الذين يلاحقون الدولة، وهذا قنص مؤسس على اللاسامية الجديدة والتي انتقلت من نزع الشرعية عن اليهود لنزعها عن دولة إسرائيل، دولة اليهود" (الكنيست، 21.06.2010).
مهم توضيح الفرق بين الحرية الشخصية وبين ارتباط الأكاديمي بزملائه وبالمؤسسة الأكاديمية نفسها. فمثلا حالة كيفوركيان كانت نموذجا لارتباط هذه الحرية بالجامعة - التي لم تحترم حريتها وحقوقها كما يجدر بها، بل ساهمت في ملاحقتها من قبل الشرطة والنيابة العامة فيما بعد وبزملائها وبدعمهم لها.
الحقيقة أن للحرية الأكاديمية الشخصية الكثير من الجوانب غير الرسمية وأحيانا الخفية عن الأعين. الأكاديمي بحاجة لتوصيات من زملائه للتقدم وحتى للنشر العلمي. كل هذا يصبح محدودا بشكل غير رسمي وغير قابل للحماية والدفاع الفعال لكون الساحة الأكاديمية الإسرائيلية محدودة أحيانا (غالبا الجميع يعرف الجميع في كل مجال).
الحرية الأكاديمية كقسم من منظومة الحريات، غير محمية في قوانين الأساس في إسرائيل. حرية التعبير تستند على قرارات المحكمة العليا (בג"צ קול העם, 1953; שניצר, 1989; סרן ר' 2014). هذا ينبع من الأيديولوجية التي ترى بحقوق الأساس معطاه من قبل الأغلبية وليست مولودة كما هو الأمر في الفكر الليبرالي. الأيديولوجية الصهيونية قريبة من الفكر القومجي الذي جسده هردر رنان وغيره. هنا نرى أن الليبرالية تخضع نفسها طوعا لخدمة وتكريس الاحتلال والفوقية اليهودية في الداخل. لذلك إسرائيل تتصدى لحرية التعبير الأكاديمي في الولايات المتحدة بادعاء أنها لاسامية (وهذا تجَنّي يستوجب نقاشًا مستفيضًا).
حرية التعبير الأكاديمي لها علاقة وثيقة بمكانة الطالب لكونه جزءًا من هذه المنظومة وأكاديميًا مستقبليًا في بعض الحالات. وفعلا قانون حقوق الطالب ينص على الحق في التعبير والتظاهر (البنود 5 و 6 للقانون)، مع خضوعِه للتقييدات، وفي غالبية المؤسسات الأكاديمية يتعلق الأمر بموافقة رئيس المؤسسة والكثير من البيروقراطية وانعدام الشفافية.
الأحداث الأخيرة والمحاكمات الميدانية وطرد العرب (إلى جانب التسامح مع تفوهات عنصرية من قبل طلاب يهود) تثبت مدى خطورة الوضع الراهن. الأنكى من ذلك أن هناك من بين الطلاب اليهود من يلاحقون الطلاب العرب (كما حدث في كلية نتانيا مثلا)، بل أن مشروع قانون قدم مؤخرا بدعم لجنة الطلاب القطرية يطالب بالحد بشكل صارخ من حرية التعبير الأكاديمي وهي دليل آخر على ذلك. تجدر الإشارة إلى أن قسم من الطلاب اليهود يلاحقون بأنفسهم الطلاب العرب، خصوصا في التظاهرات.
طالما أن الفكر الليبرالي في تراجع أمام النزعات الفاشية، وطالما الاحتلال مستمر والحرب دائرة من جولة إلى أخرى، وطالما أن هناك أقلية محرومة الحقوق الأساسية ومصنفة كرعايا تحت سيطرة الأغلبية، فحرية التعبير الأكاديمي ستبقى محدودة ومشلولة إلى حدّ كبير.