الصحة النفسية للمرأة العربية العاملة ما بين تحقيق الذات المساندة وضريبة التطور

المرأة عظيمة بكلّ ما تقوم به في الحياة، فالنساء منذ الأزل كنَّ صانعات قرار وعماد الحياة في هذا العالم. تلعب المرأة دورًا كبيرًا في المجتمع بالعديد من الاصعدة، فهي تقوم بالعديد من الأدوار في الوقت ذاته، سواء في المنزل أو خارجه، وبدونها قد يهدم المنزل، فهي ابنة بوظيفة كاملة، زوجة عاملة بوظيفة كاملة ومدبّرة منزل بوظيفة كاملة وفي بعض الحالات طالبة أكاديمية بوظيفة كاملة. هي المربية والطاهية، ومديرة المنزل بكلّ تفاصيله، تقوم بواجباتها المنزلية والاجتماعية، تتعلّم وتطوّر ذاتها ومع كل هذا لا تتوانى عن طموحها في تحقيق ذاتها، ذلك أن بعض النساء المتزوجات الموظفات أو الأكاديميات يدفعن ضريبة باهظة الثمن جراء الخروج من المنزل للقيام بأداء دورهن وواجبهن تجاه أنفسهن، أسرتهن ومجتمعهن، نتحدث لاحقًا عن التحديات والضريبة وقد تكون باهظة الثمن. إن دور المرأة في المجتمع كبير وعظيم ولا يجب تجاهل هذا الدور لأنه بدون المرأة ما ارتقت الكثير من الدول والحضارات.

المرأة العاملة تحقق ذاتها وشخصيتها ووجودها من خلال العمل. هي تشعر بالإنتاج والإنجاز والأهمية، كما أن العمل يمنحها الاستقلال المادي في ظلّ غياب مصدر دعم اضافي، أو تخرج للعمل نتيجة ظروف قاسية ألزمتها على العمل للعيش بكرامة أو قد تخرج للعمل لأنه جزء مهم من هويتها المهنية، وهذا مفهوم ضمنًا أن تخرج لتحقق ذاتها وقدراتها، وهذا يساهم في تنمية قدراتها الشخصية وثرائها من النواحي العملية والفكرية والاجتماعية والتي تعود بالفائدة على أسرتها ومجتمعها.

القيام بالعمل يشعر المرأة بالرضا والسرور والنجاح وفي ذلك مكافأة هامة وتدعيم لقيمتها وثقتها بنفسها من النواحي النفسية. ومما لا شك فيه أن العمل يجعل المرأة أكثر قوة وأكثر قيمة في مختلف النواحي الواقعية والمعنوية.

يشكّل العمل محورا رئيسيا في حياة الإنسان البالغ، العمل حاجة واستعداد في داخل الإنسان، ويرتبط بجوهر الحياة نفسها. أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمشكلات الحياتية اليومية التي تواجه مجتمعنا قد ساهمت في زيادة المتطلبات الاستهلاكية وفي زيادة النفقات والضرورات المادية التي تواجه الأسرة وذلك يؤدي إلى الاهتمام المتزايد بعمل المرأة المنتج.

المرأة جزء لا يتجزأ من المجتمع الإنساني، وهي تؤدي دورا أساسيا في تطويره وتنميته، إشراك العنصر النسائي في جميع مجالات التنمية ومراحلها أصبح من الأمور الضرورية والملحّة للتطور المجتمعي، حيث استحوذت قضايا المرأة ووضعها وموقعها من قضايا العمل والتنمية المستدامة على حيّز كبير، وتنامت المنظمات والحركات النسائية المستقلة بهدف نهضة وتطوير دور المرأة في التنمية، وتبني خطاب تمكين المرأة بهدف مشاركة المرأة في التنمية والعمل والاستقلال والاعتماد على الذات، حيث إن هناك تحوُّلا واضحا نحو الشراكة في النشاط الاقتصادي، والأكاديمي والاجتماعي وفي عملية التنمية التي ترمي إلى منح المرأة المساواة في فرص التعليم والتدريب والعمل.

وتشير الأبحاث إلى أنّ المرأة تقدّم مساهمة في إجماليّ الناتج المحليّ العالميّ، ويفتح تمكين المرأة المجال واسعًا أمام الإمكانات الاقتصاديّة على جميع مستويات المجتمع. تؤدّي استقلاليّة المرأة وخياراتها وحقوقها إلى نمو اقتصادي أكبر: الأمر بديهيّ بما أنّ المرأة تشكّل نصف سكان العالم. وهو نمو أكثر استدامة أيضًا، بما أنّ ركائزه أوسع نطاقًا ومنافعه أكثر تجذّرًا.

التحديات في ظلّ خروج المرأة إلى العمل أو التعليم

(ضريبة التطور والخروج من المنزل)    

اٍن خروج المرأة للعمل أو التعليم ينتج عنه تغيرات في الحياة الاجتماعية، وأهم هذه التغيرات هو ازدواجية مسؤولياتها المهنية والأسرية، إذ تكون خاضعة لضغوطات أدوارها الطبيعية (أم، زوجة، ربة منزل، ابنة، وقد تكون طالبة أكاديمية...) من جهة، وضغوطات عملها المهنية من جهة أخرى. في حين أن عدم مراعاة واجبات ومسؤوليات المرأة البيتية في العمل، أو عدم مراعاة مسؤوليات العمل والمهنية في البيت، قد تعرّض المرأة للضغوطات النفسية والاجتماعية وبالتالي فهذا يؤثر على صحتها النفسية والجسدية. وقد تتعرض المرأة العاملة، بالإضافة إلى صراع الأدوار، إلى مصادر أخرى تزيد من ضغوطها. بعد ساعات من العمل تقضيها المرأة في أداء دورها المهني داخل العمل تعود إلى بيتها مثقلة بهموم العمل ومُتعَبة لتبدأ عملها في الوظيفة المنزلية من تربية أطفال، وتدريس، وتحضير طعام، وتنظيف، وواجبات زوجية وغيرها وغيرها.

تعاني عدد لا بأس منه من النساء بشكل خاص من توقعات اجتماعية قاسية قد تهدد قدراتهن على خوض الحياة المهنية وتحقيق النجاح الوظيفي. ويشمل ذلك توقعات العائلة أو الزوج بأن تحقق الموظفات كافة متطلبات الحياة الاجتماعية دون أن يؤثر العمل في ذلك.

ومما يزيد من أثقال وأحمال المرأة العاملة أنّ المحيطين بها لا يعون التحديات والحمل الملقى على عاتقها وقد يزيدون الطين بلة في عدم إبداء التفهّم والتعاطف في تقديم الدعم أو المساندة والمساعدة للتخفيف عن حملها وضغطها، وفي هذه الحالة قد تتعرض المرأة لتحديات وضغوطات مضاعفة وقد يكلفها ذلك الكثير الكثير. ومن جهة أخرى فإننا نجد أن المرأة العاملة قد تعاني من قلق إضافي حول مدى نجاحها في عملها وفي أدوارها الأخرى المسؤولة عنها. ويرجع ذلك إلى حداثة عمل المرأة خارج البيت وإلى الضغوطات والمعوقات الاجتماعية المختلفة إضافة إلى تركيبة المرأة الخاصة من حيث حصانتها النفسية والكفاءات الشخصية.

فالضغوطات المهنية ظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية يتعرض لها الإنسان في مواقف، وظروف وأزمنة مختلفة قد تؤدي إلى الإجهاد النفسي، وتتطلب منه تحقيق توافق مع نفسه ومع بيئته حتى يجتاز هذه الضغوط ويحافظ على صحته النفسية.  بيّنت مجموعة من البحوث والدراسات أنّ النساء يبدين ردود فعل مختلفة عن الرجال، في مواجهة الإجهاد الناجم عن العمل، قد يكون السبب المركزي لضغوطات المرأة العاملة هو المسؤوليات المنزلية والتوافق مع الحياة الاجتماعية، إلا أن هناك أسبابا مرافقة مثل: القلق بشأن الأجور، وعدم الرضا الوظيفي (افتقار النساء إلى التأثير وفرص الترقّي في الوظائف)، وضغوط تنافسيّة في العمل، والفجوة بين الجنسين في الأجور.

في دراسة حول أسباب الاكتئاب في بريطانيا تبين أن عمل المرأة خارج المنزل هو من العوامل المهيئة للاكتئاب في حال وجود عوامل أخرى، وهي: وجود ثلاثة أطفال على الأقل يحتاجون إلى الرعاية داخل المنزل، وعدم وجود الزوج المتعاون الذي يساعدها ويعينها، إضافة لفقدانها للأم أو الأب عندما كانت في جيل الطفولة.

الصحة النفسية للأم العاملة، ما بين المقاومة والإحباط!

نتيجة لتعدد مهام المرأة، قد تكون عرضة لنسيان مهمة من جدولها اليومي، لذلك تكون في حالة تأهب كامل طوال الوقت، وهو ما يرهقها جسديًا ونفسيًا، ويجعلها في توتر دائم، والنتيجة غالبًا تتأثر قدرتها على الذاكرة والتركيز، والتأخر في إتمام الواجبات.

قد تخور قواها في يوم ما، فلا تطهو طعامًا، أو لا تتذكر موعد درس ابنها، أو حتى لا تستطيع إنهاء عملها فتضطر لاستكماله في المنزل، فتنتابها مشاعر مختلطة بالتقصير والإحباط والفشل.

بمجرد شعور الأم بسيطرة الإرهاق الذهني والجسدي عليها، يتأثر كلٌّ من زوجها وبيتها، فهي حجر زاوية المنزل ومصدر الأمل للبيت. فتدفعها مشاعر الحب والاعتزاز بعائلتها إلى مقاومة تعبها واستكمال دورها من جديد.

من أجل الوقاية من الاضطرابات النفسية فلا بد من الإشارة إلى ضرورة تقديم الدعم الكافي والمناسب (المعنوي والعملي) للمرأة العاملة ومساعدتها على التخفيف من الأعباء الكثيرة التي تتحملها وتوفير الظروف المناسبة والتي تتوافق مع عاداتنا وقيمنا وديننا. وأيضا المساهمة في حل المشكلات العملية التي تواجهها.

من التوصيات والمقترحات لتقليل الضغط النفسي وتعزيز صحة المرأة النفسية والأسرية:

●     زيادة الاهتمام بالمرأة العاملة وتهيئة البيئة الصحية لها في العمل. تحسين الأوضاع الاقتصادية للمرأة العاملة حتى يساعد ذلك في انخفاض معدل الضغوط لديها.

●     احترام المرأة وكيانها، تقديرها على المقدرة في العمل داخل وخارج البيت، تقدير شخصها وقدراتها وكفاءاتها، وتقديم الدعم المعنوي والمساندة والتعاطف معها وعدم تحميلها عبئا إضافيا بسبب الاتهامات بالتقصير والإهمال.

●     المساعدة والشراكة في الواجبات المنزلية، وغير ذلك يزيد من الضغط والتوتر وبالتالي ينعكس على جو الأسرة والأبناء.

●     المرأة العاملة لها حق على نفسها، تقع عليها مسؤولية التوازن بين العمل والحياة الشخصية، عليها رعاية نفسها وسلامتها النفسية والجسدية. تتحقق الرعاية الذاتية عند التوفيق بين مسؤوليات يوم العمل والحياة المنزلية والعلاقات المختلفة.

●     لا تقارن نفسها بأحد.

●     التدرب على إدارة الوقت بعد التخطيط الجيد لكل يوم.

●     زيادة المقدرة على التعافي من الإجهاد والوقاية من الإرهاق والتآكل.

●     تحقيق الترابط المعنوي مع أطفالها، وضع أهداف واقعية لتحقيقها، عدم التفكير في أكثر من مهمة في آن واحد واغتنام لحظات من الزمن لترفه عن نفسها.

المرأة القوية قادرة على تحدي ظروف الحياة القاسية، تجد المعادلة الصحيحة لأجل التوازن بين العمل المزدوج كما لا تجهر ولا تقصر في حق ذاتها وجسدها، فهي تصنع سعادتها بنفسها.

د. سهراب مصري

محاضرة أكاديمية وباحثة في مجال الاستشارة التربوية، معالجة زوجية أسرية ومعالجة سلوكية معرفية

شاركونا رأيكن.م