تشخيص وراثي ما قبل الحمل مراوحة ما بين الطب وبيننا
كنت قد اخترت موضوع المقال في اليوم الذي سبق الزلزال، إستكتبني القائمون على الموقع قبلها بيوم أو يومين. وها أنا أكتبه الآن بعدها ببضعة أيام، وما زال الناس أحياء وأمواتا تحت الأنقاض، سترافقهم تداعيات الكارثة العصيبة وتشكل حياتهم من جديد. حيوات الناس الهشّة أساسا بفعل الحروب واللجوء والفقر والعوز. هم السوريون مرة أخرى في عين المِحنة، مِحنتهم الممتدّة منذ عقد أو حتّى منذ عقود كما قد يعترض البعض على تحديد نقطة البداية. لِمَ هذه المقدمة؟ ولماذا هذا الإقحام في مقال معرفيّ عام؟ لأن سؤال الأولويات وغايات العلم تجتمع مع التقدّم التقنيّ وتوزيع الموارد وقيمة العدل لتلقي بظلالها الكثيفة على ما يلي من كتابة، بل وتحاصر الشغف -شغفي- وتحرجه. لهذا من الجدير التنويه أنّ على الطب والعلوم والتقنيات خدمة البشر وحاجاتهم. فما هي حاجاتنا؟ نحن من يكتبون بالعربية؟ قد يتحول الطب والعلم إلى "ترف"، طب الأغنياء والمجتمعات الغنية مقابل طب الفقراء والمجتمعات الفقيرة، طب الكوارث والحروب مقابل طب السلام والرخاء. هناك فرق والوعي به مهم، ففيمَ نقضي أعمارنا وماذا نخدم؟ هذه كلمة يجب أن تقال أو أن تكتب ومن ثم نبدأ.
مرّ عقد ونيف بين ولادة أول طفلة بعد علاج الإخصاب الخارجي وبين استخدام فحص الحمض النووي للجنين قبل نقله إلى رحم الأم، Preimplantation Genetic Testing (PGT). نتحدث عن بداية التسعينات من القرن الماضي، وقد تركّزت الأبحاث الأولى حول تشخيص أمراض متعلقة بكروموزوم X، والهدف هو منع نقل أجنّة ذكور ((XY يحملون صفات مرضيّة صعبة. هذه كانت البداية، ومنذ وقتها وحتى اليوم، حدثت ثورات في علم الوراثة والتقنيّات المخبريّة، أدت إلى اتساع كم ونوعيّة الأمراض التي يمكن فحصها، وإلى ارتفاع مستوى الدقة في نتائج الفحوصات وأمانتها. يتم أخذ عينة، خلية أو بضعة خلايا من الجنين في يومه المخبريّ الثالث أو الخامس، ومن ثمّ فحص الحِمْلُ الوراثي لهذه الخلايا، وهو يدلّ على المادة الوراثيّة للجنين ككل. وبهذا يتم تحديد إن كان الجنين سليما، حاملا للمرض أو مريضا. الهدف كان ولا يزال انتقاء الأجنّة السليمة لنقلهم إلى رحم الأم ومنع نقل الأجنّة المريضة، وبهذا منع ولادة أطفال حاملين لأمراض وإعاقات جسديّة وذهنيّة. بقيت فكرة التعديل الجيني مستبعدة لفترة طويلة، لكنّ الاكتشافات الأخيرة وتطوير تقنيّة 9CRISPR /Cas قد تكون فاتحة لقفزة أخرى عملاقة في هذا المجال. سننتظر ونرى أو سنرى دون أن ننتظر.
يعدّ فحص الجينات والمادة الوراثية للجنين في أثناء الحمل الوسيلة الأكثر شيوعا لتشخيص الأمراض عند الأجنّة. يتم إجراء هذا الفحص في حال توفرت إشارات إلى احتمال وجود مشكلة (مثل فحوصات المسح الجيني أو فحص سونار الأعضاء)، أو في حال معرفة وجود مرض وراثيّ لدى الأهل او في العائلة، أو لإجراء فحص مسح الكروموزومات وفق رغبة الوالدين. المعضلة الأساسيّة في هذه الفحوصات هي: ما العمل في حال اكتشاف وجود خلل وراثي؟ فلا يوجد علاج للصفة المرضيّة الوراثيّة. والمعنى أن الأهل أمام خيارين، إما الاستمرار بالحمل مع العلم أنّ في نهايته سيولد مولود مع مشكلة صحية عقليّة أو جسديّة. أو اتخاذ القرار بالإجهاض مع كل الثِقَل العاطفيّ والدينيّ والأخلاقيّ لمثل هذا القرار. يمكِّنُ التشخيص ما قبل الحمل الأزواجَ من تفادي هذا الموقف. لكنه ككل تِقنيّة تصحب مع فوائدها مشاكل وآفات كامنة فيها أو في كيفية استعمالها.
من المشاكل التي تناقش بشكل دائم بين العاملين في المهنة: دقّة النتائج ومعناها في حال لم تكن معروفة، وهذا نقاش حيوي ومهم وفيه سعي دائم للتحسّين. كما أنّ مراجعة مصداقية تعريض أزواج مع خصوبة طبيعية لعلاج إخصاب خارجي وتدخلات طبية معقدة لهي أمر مهم قبل الإقدام على العلاج. من المتفق عليه أنّ استخدام تشخيص ما قبل الحمل يجب أن يقتصر على الأمراض الصعبة التي تظهر في جيل الطفولة. لكن ما كان واضحا منذ البداية أنّ هناك دائما من سيحاول دفع الحدود وتوسيع الأسباب، وهذا يضيف على الطب أحمالا اجتماعيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة، لا يعود فيها الطبيب واستشاري الأمراض الوراثية العنوان الأخير. ولا أدلّ على هذا التعقيد من الاختلافات القائمة بين لوائح التعليمات والقوانين في هذا الخصوص في الدول المختلفة، مع انعدام وجودها في أخرى، إمّا إهمالا او لعدم توفّر العلاج. بعض المجتمعات تستهلك التقنيّة بكثرة لانتقاء نوع الجنين مع تفضيل واضح للذكور، والبعض يدفع لتصميم أجنّة خالية من احتمال المرض في عمر متقدم. ومؤخّرا تقترح بعض المؤسسات الطبيّة تدريج جيني للـأجنّة وفق احتمالية مرضهم بأمراض مختلفة في المستقبل، أمراض نعرفها نحن اليوم كأمراض مزمنة يتعايش معها الناس عشرات السنين.
في القرنين التاسع عشر والعشرين، اكتسب ال EUGENICS شعبية في بعض الأوساط العلميّة والسياسيّة الغربيّة، بالتوازي مع اكتشافات وأبحاث في طب الإنسان والأعراق وتطوير نظريات اجتماعيّة جدليّة عنصريّة وفوقية. اقتنع أصحاب هذا التوجه بمقدرتهم على تحسين الكائنات البشرية ومنع تناقل آفات اجتماعية بواسطة التحكّم بالوراثة وتهجين البشر، وتم تطبيق سياسات عمليّة في هذا الاتجاه. تراجع الاهتمام بهذا المذهب ولم ينتهِ مع الحرب العالمية الثانية وفظائع النازية وبداية إنهاء الاستعمار الأوروبي التقليدي. فهل منع ولادة أطفال مع أمراض معينة أو إعاقات ذهنيّة وجسديّة صعبة هو مقدّمة نحو تصميم الأطفال ومنح الأولويّة لصفات بذاتها دون غيرها، وتفضيل ما تروّج له الثقافة المهيمنة في حينه ووقته؟ كالعادة اعتقد أن الحلّ هو في اشتباك فاعل للمجتمع وقيمه مع التقنيات والعلوم، وعلى رأسها الطب وعلم الأحياء. إنّ طرح المقارنات هنا لا يأتي من باب التهويل والإخافة بل على العكس، فالقياس -إذا صلحت الاستعارة من أصول الفقه- هو وسيلة ناجعة ومهمة للفهم والتمحيص والدفع والتدافع، وإلّا كالعادة ستبقى أمم تنتج وتصمّم كما تريد، وأمم تستهلك ولا يهمّ أبدا ما تريد.
د. نيڤين سمارة
طبيبة نساء وأخصائية في مشاكل الإنجاب والإخصاب الخارجي. تحضر حاليا للقب ثاني في مجال الاخلاقيات الطبية