الفنار - التنظيم النّسوي الفلسطيني

ببداية التسعينات من القرن الماضي قمت بالمشاركة بإقامة الفنار - التنظيم النّسوي الفلسطيني. هذه التجربة أستمرت مدة 8 سنوات بدأت بالإعلان عن تأسيس التنظيم في بداية عام 1991 (بداية المبادرة كانت في نهاية عام 1990) واستمرت حتى عام 1998. تحليل الفنار وفهمه لسياسات النظّام الأبوي\البطركي والدّولة بكل ما يخص البُنى، الظّواهر والشرائح  الاجتماعية المختلفة التي تمثلت في تعزيز البنى البطركية \الأبوية في المجتمع الفلسطيني خاصة من خلال التحّالفات التي قام بها مع الشرائح الابوية التقليدية لتقوية مكانتها على حساب التوجّهات الأخرى (بينما تم ضعضعة هذه وحتى اجتثاث الكثير من الظّواهر لدى المهاجرين اليهود العرب خشية، إضعاف مدى اندماجهم  في المجتمع الإسرائيلي)، خلص  الفنار إلى نتيجة مبدئية رافقته طوال وجودة؛ قولا وفعلا! مفاد هذا المبدأ هو أن قضّية مكانة النّسّاء تشكّل  عنصرا  أساسيا  ومركزيا  من قضية التحرر الوطني. من هنا فقد رأى الفنار بالتّرابط المحكم بين القضيتين؛ قضية التّحرر القومي من جهة وقضيّة التحرّر الاجتماعي من جهة أخرى شرط أساسي للتحرر القومي الوطني. 

إحدى الظواهر الاجتماعية التي عكست للفنار هذا الفهم والتي كانت من الظواهر الاجتماعية المركزية التي حاربها حيث كان له دور ريادي في النّضال ضدها هي ظاهرة جرائم ما يسمى بالشرف المرتكبة ضد النساء. فكان عليه، وبطبيعة ربطه المحكم  بين النضال القومي والاجتماعي أن يناضل على الجبهتين: الاجتماعية من جهة، وضد مؤسسات الدولة من جهة أخرى.

عدا  النضال ضد هذه الظّاهرة، ناضل الفنار وحارب العديد من الظّواهر الاجتماعية الاخرى مثل زواج الأقارب، الزواج المبكر وغيرها، إضافة لظاهرة تشويه البنات المسماة "ختان البنات" والتي تمارس في بعض العشائر البدوية الفلسطينية في الجنوب (6 عشائر).

محاربة هذه الظاهرة والنّضال ضدها بدأ عام 1992 وذلك بعد نشر نتائج بحث طبي (في مجلة הרפואה 1.4.1992). 

أشكال النضال ضد الظاهرة كانت متعددة، مثلا:

  1. نشر وتوزيع المناشير التي تندّد بالظّاهرة وتطالب بكسر حاجز الصمت حولها. 

  2. نشر المقالات المختلفة في نشرة  الفنار وصحف عامة أخرى حول الظّاهرة والطرق التي يجب سلكها لمحاربتها واجتثاثها.

  3. التّوجه لمؤسسات وجهات مختلفة لتقوم هذه بدورها في العمل على اجتثاث الظاهرة:

  •  لمؤسسات حقوقية (خاصة حقوق الطفل) – للعمل على تقديم الحماية للفتيات الصغار ومحاربة الظاهرة.

  •  للمستشار القضائي للحكومة – مطالبين إياه بمقاضاة أي والد أو والدة وأي شخص يُجري او يوافق على اجراء مثل هذا التشويه بأي طفلة.

  •  للشرطة – للتّحقيق بهذه الظاهرة وتقديم لوائح الاتهام ضد مرتكبي هذه الجرائم وذلك بتهمة التّسبب في إحداث إعاقة جسدية ونفسية خطيرة لهؤلاء الطفلات.

  •  لنقابة  الأطباء والممرضين – مطالبا إيّاها بفصل اي طبيب\ه او ممرض\ه يشارك في ارتكاب مثل هذه الجرائم او يضفي عليها اي شرعيّة طبيّة مزيّفة.

  •  للّسلطة الفلسطينية ولجنة  المتابعة – مطالبا إياها بالتّنديد بالظاهرة واعتبارها جريمة خطيرة لا مكان لها في مجتمع يناضل من أجل المساواة والتحرر.

  •  لنقابة العاملين الاجتماعيين – بأن تصدر تعليمات للعاملين بضرورة رفع التقارير ضد كل حالة تصادفهم واعتبار الامتناع عن رفع التقارير مخالفة جسيمة.

نضال الفنار ضد الظّاهرة والضّجة الإعلامية التي أثيرت في أعقاب ذلك أدت بأحد الأطباء الذين شاركوا بإجراء البحث وهو د. عبد عسلي الى التصريح من على صفحات الصنارة بأن "الفنار استغل الظاهرة بشكل سلبي" ثم المطالبة (وهذا هو بيت القصيد..) بإجراء عمليات التشويه، أي الختان "في عيادات خاصة...لمنع المضاعفات"! رد الفنار على تصريح الطبيب والذي رأى به محاولة لإضفاء الشرعية على الظّاهرة لتكريسها بدل العمل على اجتثاثها أو اقتلاعها ثم محاولة نشر هذا الرّد في الصنارة، ُرفض من قبل الصحيفة المذكورة! الفنار، وبالطبع، قام بنشر الرّد بنفسه وبصحيفته هو، مستمرا بذلك في محاربة الظاهرة والعمل على اجتثاثها. السؤال الجدير بأن يسأل هنا، ما حل بهذه الظاهرة مثلا، مقارنة بالظاهرة الاولى – أي جرائم الشرف. أهمية طرح هذا السؤال تعود لأهمية فهم اماكن النجاح والفشل للعمل النضالي للفنار، كتجربة معينة في العمل النسوي. 

ما نعرفه جميعا أن ظاهرة جرائم ما يسمى بالشرف لا زالت مستمرة ولا تكاد تمر حتى بضعة أشهر قليلة، لنسمع عن جريمة قتل لامرأة اخرى! {على الرغم من استمرار الجمعيات النسوية في إسماع صوتهن ضد هذه الظاهرة والاحتجاج ضدّها (وإن كان بنمط وأسلوب آخر عن ذلك الذي اتبعه الفنار غالبا}.

هذه الظاهر لا زالت مستمرة في حين أن ظاهرة تشويه البنات المسماة ختان البنات تلاشت نهائياً من مجتمعنا الفلسطيني. ففي نهاية شباط عام 2009، نشرت الصُحُف نتائج بحث طبي آخر تم نشره في المجلة العلمية International Society for Sexual Medicine، توصّل الى نتيجة مفادها أن هذه الظاهرة وفي نفس الـ-6 عشائر التي تواجد بها قبل ما يزيد عن ال-15 عشر عاما، اجتثت كليا، ولم يبق منها أي أثر يذكر. المثير، أن أحد الأطباء (ليس عسلي، وانما بلمكار)، تذكر الضّجة الاعلامية التي اثيرت في حينها ولكنه لم يتذكر – ربما بطبيعة الحال – من قام بأثارة هذه الضجة ومحاربة الظاهرة مما جعله والصحفي يصرحان: 

"علينا الاّ نستهين بهذا الانجاز، رغم أنه من غير الواضح لمن علينا أن ننسبه" "אין "להקל ראש בהישג, למרות שלא ברור לזכות מי יש לזקוף אותו". رغم انّي وعضوات سابقات من الفنار نتذكر وعليه فواضح لدينا لمن يجب نسب هذا الإنجاز، غير ان السؤال المهم الذي علينا طرحه هو: لماذا؟ لماذا هذا الإنجاز وذلك الفشل؟ الجواب البسيط الذي أود ان اقترحه هو أن الظّاهره الأخيرة لم تخدم مصالح الدولة وذلك لعدم تعزيز الظّاهرة واستمرار وجودها من قوة الجهاز البطركي والبنى الاجتماعية المناهضة للتّحرر كما يفعل استمرار جرائم الشرف مثلا. من هنا، فمجرد وقوف مؤسسات الدولة جانبا وعدم وضعها للعراقيل في وجهة مسار التّحول الذي بدأ قبل 17 عام في إحداثه، واستمر بفعل الحراك التاريخي هو ما ادى الى هذا الانجاز والنجاح. 

نقاط اخرى للطرح:

  • استقلالية الفنار عن الأحزاب السياسية المختلفة – كما عن المنظمات النّسوية الإسرائيلية.

  • فشله في التوفيق بين مبدأ الاستقلال والحاجة للموارد المادية الأمر الذي أدى لتوقفّه عن النضال. 

  • رفضه لتقبل دعم مادّي (من قبل الصندوق الجديد لإسرائيل مثلا) لخشيته من المؤسسّة والأنجزة. 

عدا هذا، فأحد مخاطر الأنجزة – عدا تلك المتمثّلة بالتّدجين السياسي بسبب الرّضوخ لإملاءات الممّولين (التي تربطهم عادة روابط وثيقة بالحكومات الأمر الذي يتعارض مع تسميات NGOs على الاقل كمنظمات ترى بنفسها لا حكومية) هو التّمّاس الذي يكاد يكون حادّا – على مستوى القيادة على الاقل – بين العمل السياسي\النّسوي وبين العمل من أجل الحصول على الرزق. بمعنى ان غالبية اللاّتي يطلقن على أنفسهن تسمية "ناشطات نسويات" هن في واقع الأمر موظّفات (قد يكن نسوّيات). هذه الحقيقة تخلق مشكلة جدّية على مستوى التجنيد للنشاطات المختلفة حيث يؤدى الأمر لحقيقة أن المجتمع الفلسطيني في الداخل يشّكّل حالة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث حيث فقد  مجتمعا بأكمله (رغم كونه جزءاً من كلِّ بُتِر عنه)، الغالبيه الساحقه  لمدنه، ليغدو "بين ليلة وضحاها" مجتمعاً بلا  مدينة: مجتمعا يفتقد لعناصر أساسية وجوهرية  من مركباته الاجتماعية، مجتمعا فقد  شرائحه وطبقاته المدينية كالطبقة الوسطى مثلا، ومجتمعاً مُرَيّفاً  تحول الى حد بعيد، ولفترة طويلة، مجتمعا متجانساً. من هنا، يستحيل برأينا فهم هذا المجتمع، وهو البقية الباقية في وطنه الذي جرى احتلاله عام 1948، دون فهم غائبة، أو غائبته على الأدق ؛ تدمير حاضرة المجتمع الفلسطيني في الداخل  وتغييبها، الذّي تم  عام 1948 إبان الاحتلال والنكبة.  حيث قُضي  حينها على  الغالبية العظمى من مدن ذلك الجزء من فلسطين (الذي سيطلق عليه لاحقا إسم  المجتمع الفلسطيني في الداخل او في اسرائيل) والتي وصل  عددها الى 10 مدن من أصل  11 مدينة كانت لفلسطين عامة ولهذا الجزء خاصة (اضافة طبعا الى 8 مدن أخرى بقيت في الجزء الثاني من فلسطين أي؛ الضفة والقطاع لاحقا). لتدمير المركز الحضري  الفلسطيني وإجلاء مئات آلاف  سكانه المدنين كانت أبعاد اجتماعية، ثقافية، قومية واقتصادية خطيرة تمثلت في حدوث عمليات ترييف (De-urbanization) شاملة، حادة وعميقة   طغت على المجتمع الفلسطيني في الداخل، ولا تزال، حتى يومنا هذا. أحد أهم إٍسقاطات عمليات الترييف الاجتماعية على المجتمع الفلسطيني في الداخل، انعكس في  مكانة النساء وفي العلاقات الجندريّة (إضافة، وبالطبع،  طبعا الى   امور اخرى). 

د. منار حسن

محاضرة وباحثة وناشطة نسوية.عملت بعدة جامعات وكلّيات أكاديمية. حصلت على شهادة  الدّكتوراة  من قسم العلوم الاجتماعية والانسانية في جامعة تل أبيب وعلى لقب الماجسير من جامعة جرينيتش بلندن  بدراسات العرق والجنوسة في العلوم  الاجتماعية والانسانية عام 1995. تناولت  منار في رسالة  الدكتوراة بقسم العلوم الإجتماعية والإنسانية في جامعة تل أبيب؛ قضية المدن الفلسطينة المُغيّبة وعلاقات الجندر فيها وحملت الرسالة العنوان التالي: "منسيات: النساء، المدينة الفلسطينية والحرب على الذاكرة". من القضايا البحثية التي تهتم بها وتتناولها في ابحاثها؛ دراسات الحيز وعلم الأجتماع الحضري، دراسات الجندر، الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، الذاكرة الجمعية، العلمنة والعلمانية وغيرها.  أجرت ونشرت العديد من الابحاث منها: "سياسة الشرف: الأبوية، الدولة وقتل النساء بحجة ما يسمى  بالشرف". حسن، هي من مؤسسات التنظيم النسوي الفلسطيني الأول الذي أقيم في المجتمع الفلسطيني في الداخل وسُمّي؛ "الفنار – التنظيم النسوي الفلسطيني". 

كتابها الجديد واللذي  يحمل العنوان الآتي; المغيبات النّساء والمدن الفلسطينيّة حتى 1948. نشر من قبل مؤسسة الدراسات الفلسطينة بمدينة بيروت  عام 2022.


رأيك يهمنا