اجتماع بايدن - نتانياهو المُحرج: هل عادت العلاقة لمجاريها؟

لا شك أن الولايات المتحدة وإسرائيل تتمتعان بتحالف وثيق وعلاقة حميمة خاصة منذ إعلان الأخيرة استقلالها في 14 مايو/ أيار 1948، ولكن العلاقات الثنائية بينهما شهدت تحديات عديدة خلال العقود السبعة والنصف الأخيرة. فقد واجهت الحكومتان الأميركية والإسرائيلية الكثير من الخلافات حول مسائل اقتصادية وسياسية واستراتيجية نتيجة توقعات متناقضة ومفاهيم غير متوافق عليها لقضايا جوهرية مختلفة، بدءا بأزمة السويس عام 1956، وامتدادا للخلافات الحالية حول صفقة التطبيع الضخمة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وتدهور الوضع الأمني في فلسطين، والعودة إلى خطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي) مع إيران، وتصاعد الاضطرابات الداخلية في إسرائيل بسبب الخطط التشريعية التي تتبناها حكومة بنيامين نتنياهو بخصوص الاصلاح القضائي الذي يرفضه الكثيرون داخل إسرائيل وخارجها، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي حذّر حليفه نتنياهو شخصيا من "الاستمرار في هذا الطريق". 

ومع هذا كله، وبالرغم من هذه المشاحنات العلنية، فقد تمكن التحالف الأميركي-الإسرائيلي من الاستمرار بشكل آمن وسالم دون أي تراجع يذكر. واستمرت الولايات المتحدة طوال هذه الفترة المتوترة تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية كبيرة لإسرائيل بسخاء لا يضاهى دوليًا، مما سمح "للدولة اليهودية"، كما تصف نفسها، بالسيطرة شبه المطلقة على الأمن الإقليمي من خلال الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي لمجابهة وردع أي تحدٍ محتمل من جانب أي طرف أو تحالف عربي أو غير عربي في المنطقة، حتى لو تم ذلك على حساب المصالح الوطنية الأميركية. وخلال اجتماعه الذي طال انتظاره مع نتنياهو في 20 أيلول/ سبتمبر في نيويورك، أعاد الرئيس بايدن التأكيد مجددا على اعتقاد ادارته بـ "الالتزام غير القابل للزعزعة بإسرائيل"، وذلك ارتكازاً على اقتناع الساسة الأميركيين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء أن "شراكة السنوات الخمس والسبعين قد بنيت على المصالح المشتركة والقيم الديمقراطية منذ البداية، بحيث أن الإسرائيليين والأميركيين متحدون بالتزامهم بالديمقراطية، والرفاه الاقتصادي، والأمن الإقليمي". ولكن النتيجة النهائية عمليا هي استمرار الحكومة الإسرائيلية بالتعنت والتحدي واعتبار علاقتها الخاصة مع واشنطن أمرًا مفروغًا منه غير قابل للتغيير، وتحديها للرئيس بايدن على أنه ضعيف للغاية وليس أمامه خيار سوى الانصياع للمطالب الإسرائيلية. 

ولكن على مدى الأشهر التسعة الماضية، ظهرت أزمة جديدة هزت ما يسمى بالعلاقة الأميركية-الإسرائيلية "غير القابلة للكسر،" على حد تعبير الرئيس بايدن وغيره من الساسة الأمريكيين، حيث عاد بنيامين نتانياهو ليشغل منصب رئيس الوزراء لولاية سادسة غير مسبوقة، وعلى رأس حكومة تعتبر الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ إسرائيل. وبصرف النظر عن التوتر والاحتكاكات العَرَضية مع واشنطن، جاء نتانياهو وحلفاؤه الفاشيون إلى الحكم بخطة "إصلاحية" طموحة للجهاز القضائي تهدف إلى تغيير الطابع السياسي لدولة إسرائيل، وذلك بالرغم من الغضب والرفض والشعور بالارتباك من قبل البيت الأبيض ومؤيديه في الجالية اليهودية والحزب الديمقراطي الحاكم. ومن الواضح أن وجهة نظر نتانياهو لإسرائيل لا تتطابق مع "المصالح والقيم الديمقراطية المشتركة" التي يتبناها صانعو السياسة الخارجية الأميركية في واشنطن. 

وردًا على ذلك، قام بايدن "بالتوسل" المتكرر من نتانياهو "ألا يستعجل بتنفيذ الانقلاب القضائي" وبإرغام الجمهور الإسرائيلي على الرضوخ له عنوة، كما وصفته وسائل الإعلام الأميركية. ولكن الحكومة المتشددة في إسرائيل أصرت بعناد على تمسكها بحساباتها الأيديولوجية وعلى رفض محاولات التسوية السياسية مع المعارضة فيما يخص التشريع القضائي، رغم مطالبة البيت الأبيض بذلك منذ بداية الأزمة. 

وبدلًا من تحدي نتنياهو ومجابهته حول هذه الخلافات السياسية المهمة، رفض الرئيس بايدن نهج القبضة الحديدية التي اقترحه بعض مستشاريه للسياسة الخارجية في البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، وفضّل بدلًا من ذلك استخدام مقاربة القفاز المخملي برفضه استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي في زيارة تقليدية معتادة إلى البيت الأبيض، والتي عادة ما حصل عليها كل الذين سبقوه في الوظيفة، كما حصل عليها هو في فترات سابقة. وبطبيعة الحال، لم يكن نتانياهو معجبا بهذا التوبيخ الخفيف، متوقعاً أن تتراجع واشنطن عن موقفها في نهاية المطاف وتضطر الى تغيير تعاملها غير الودي معه بخصوص هذه المسألة. 

ولسوء الحظ، أثبت نتانياهو كونه على حق طوال الوقت، إذ بعد تسعة أشهر على إعادة تنصيبه، وبعد سلسلة من الصدامات الحادة والعلنية مع الإدارة الأمريكية، حصل رئيس الوزراء الإسرائيلي على رغبته عندما وافق الرئيس بايدن، بعد طول انتظار مهين، على لقائه في العشرين من أيلول/ سبتمبر الحالي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. فاللقاء لم يكن نصراً كاملاً لنتانياهو، الذي قبل في نهاية المطاف بلقاء خاص مع بايدن في فندق "انتركونتيننتال باركلي" في نيويورك، وليس في البيت الأبيض، كما رغب منذ البداية. ومع ذلك فإن السؤال السياسي الجوهري في هذا الصدد ليس مكان الاجتماع، بل جدول أعمال وجوهر اللقاء بين الزعيمين. بمعنى آخر، ما الذي جناه بايدن ونتانياهو من هذا التصالح او التقارب الغريب؟ 

إن أسلوب نتانياهو السياسي المكيافيليّ معروف جيدا في إسرائيل وخارجها. فهو يسعى أولا إلى إعادة تأهيل صورته في مواجهة وتقليص الضرر الذي ألحقه  بإسرائيل ووضعها الاقتصادي، وتماسكها الاجتماعي وسمعتها الدولية، وخاصة علاقاتها مع حلفائها وداعميها الرئيسيين كالولايات المتحدة خلال الأشهر التسعة الماضية. ثانياً، يرفض نتانياهو الانتقادات اللاذعة من قبل معارضيه في الداخل بدعوى أنه أضر بالعلاقة الخاصة التي تربط بين تل أبيب وواشنطن. ولهذا، حاول مؤخرًا، كما سيحاول في عودته إلى إسرائيل، تصوير زيارته إلى الولايات المتحدة ولقاءاته مع بايدن وغيره من المسؤولين الأميركيين والدوليين بشكل إيجابي يخدم مصلحته الشخصية ليُقنع مؤيديه في جميع أماكن تواجدهم، أن إسرائيل بقيادته عادت بشكل كامل وبقوة تامة إلى الباحة الدولية.

ويصر بالتأكيد على أن دعم إسرائيل العالمي سيبقى قوياً كما كان عليه في الماضي. وثالثاً، نتانياهو سياسي وقح بامتياز، لا يشعر بالحياء أبدا ولن يتخلَّ عن رغبته في زيارة البيت الأبيض رسميا، ولن يقبل برفض أحد لأمنيته، وخاصة من شخص يبغضه مثل جو بايدن. ولهذا، سيستخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي زيارته إلى الولايات المتحدة ليضاعف من ضغوطه لتحقيق طلبه بمقابلة رئاسية، وسيخادع الإدارة بأكملها ليجد طريقه مرة أخرى إلى البيت الأبيض. ورغم ادراكه التام لنوايا نتنياهو وأسلوب عمله، فقد اختار الرئيس الأمريكي لسبب أو لآخر التنازل عن هذا الخيار مجانا أمام نتنياهو عندما التقى به في فندقه في مانهاتن قائلا: "آمل أن أراك في واشنطن بحلول نهاية العام".

في هذه الأثناء، يظل بايدن منهمكا كليا إلى درجة الهوس بالانتخابات الرئاسية في العام المقبل، وهو مشتت الأفكار ومتردد للغاية في مواجهة نتانياهو جديا. فالثمن السياسي لمواجهة نتنياهو علناً وبشكل فاعل يعتبر مكلفا لأي مرشح للرئاسة عام 2024، بحيث لا يمكن تصور مثل هذه المواجهة في البيئة السياسية الحالية في واشنطن. فأكثر ما يمكن للمرء توقعه في هذا الوقت هو المزيد من الانتقادات الخفيفة والتحذيرات غير المجدية لرئيس الحكومة كما شاهدنا منذ كانون الثاني/ يناير الماضي، بالإضافة إلى التلويح بمكاسب إضافية لاسترضاء نتانياهو واقناعه التقرب من مواقف واشنطن، كما شاهدنا في نيويورك هذا الأسبوع، مثل المزيد من الجهود المتسارعة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، وخصوصا المملكة العربية السعودية، أو الموافقة على المبادرة الإسرائيلية لإعفاء المواطنين الإسرائيليين من الالتزام بنظام تأشيرات الدخول الى أميركا. أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فالتنازل الوحيد الذي حصل عليه بايدن من حليفه الإسرائيلي نتنياهو يتعلق بإدراج الفلسطينيين بشكل محدود وهامشي في محادثات التطبيع مع السعودية أو غيرها من الدول العربية المطبعة مع إسرائيل، ولكن، كما شدد نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة، دون السماح للطرف الفلسطيني "بالاعتراض على ابرام أي اتفاقات في المنطقة" والتي وصفها رئيس الوزراء بأنها قد "تعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط".

وبعبارة أخرى فإن نتنياهو وشركاؤه هم بصدد تشكيل شرق أوسط جديد دون فلسطين.


صورة لنتنياهو وبايدن في لقائهما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول \ سبتمبر 2023. تصوير أفي أوحيون من مكتب الإعلام الحكومي.

د. خليل جهشان

أستاذ العلاقات الدولية ومدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن

شاركونا رأيكن.م