بين الرقابة الذاتيّة وسيف الرقابة العامّة
لحرية الصحافة المنبثقة عن حرية التعبير أهميةٌ على مستوى الفرد والمجتمع على مدار التاريخ والعصور، وقد قال فولتير: "أنا لا أوافق رأيك، ولكني سأدافع بحياتي عن حقك بأن تعبر عنه"، أما جوهن ستيوارت ميل، فقال في كتاب "الحرية": "إذا كانت البشرية كلها على رأيٍ وكان إنسانٌ واحدٌ على رأيٍ آخر، لا يحق إسكاته. في الوقت نفسه لا يحق إسكات البشرية عن رأيٍ أمام إنسانٍ آخر له رأيٌ آخر، حتى لو كانت السلطة والقوة في يد هذا الإنسان"، وقال جون ميلطون: "امنحوا لي الحق في المعرفة، التأمل والنقاش بحريةٍ وفق ما أؤمن به فوق كل الحريات الأخرى". هكذا تطرق بعض الفلاسفة لحرية التعبير، وربطوا بين هذه الحرية وكرامة الإنسان في المجتمع.
تعتبر حرية الصحافة من المقومات الأساسية في الدولة ذات النظام الديمقراطي، إن لم تكن المقوم الأهم، بل هي شكلٌ من أشكال حرية التعبير عن الرأي المنبثقة عنها حرية الكتابة والقراءة، وحرية تلقي المعلومات والرد عليها، وكذلك حق الجمهور في المعرفة.
تشمل حرية الصحافة الحق في التعبير دون تقييداتٍ تفرض على مضمون التعبير أو طريقته، كما تشمل كل تعبير صحافيٍّ ممكن، كالخبر، ومقال الرأي، والمقال التحليلي، والتحقيق الصحافي، والصورة، وكذلك كل معلومةٍ يحولها الصحافي للجمهور بهدف التأثير على واقعٍ ما في المجتمع. وتشمل حرية الصحافة في الوقت نفسه حق تلقي المعلومات وتحويلها إلى الجمهور، وكذلك الحق في قراءة الصحف والاستماع إلى النشرات الإخبارية.
حرية الصحافة تشمل كل تعبيرٍ في السياسة، والحياة والمجتمع، والفنون، والفلسفة، والاقتصاد، أو أي مجالٍ آخر، ويمكن للتعبير أن يكون مقبولًا أو غير مقبولٍ على الآخرين، ولا فرق إذا كان التعبير جميلًا أم غير ذلك، المهم أن يكون تعبيرًا، ولا يهم مضمونه أو شكله، إذ تدخل في مجمل التعابير أيضًا تلك التي تتصف بالطابع التحريضي أو المسّ بالخصوصية الشخصية.
يرتبط مبدأ حرية التعبير ارتباطًا وثيقًا بالنظام الديمقراطي ومبادئه، ويُعْتَبَرُ الشعب في دولة هذا النظام حجر الأساس لمقومات النظام والحكم، ويحق للشعب أن ينتقد سياسات الدولة ومؤسساتها على أمل أن تقوم الدولة بتصحيح أو تعديل السياسات الممنهجة، وفي بعض الأحيان يمكن أن يؤدي الأمر إلى اتخاذ قراراتٍ مصيريةٍ يمكن أن تؤثر على الفرد في المجتمع.
تتضاعف أهمية حرية الصحافة بالذات عند الحديث عن المصلحة العامة التي تتطلب سوقًا حرةً للآراء والمعلومات التي تهم المجتمع العام، ولا يمكن ضمان الحريات الجماعية والفردية، وتطهير الشوائب في سياسات أنظمة الحكم، وفضح الفساد في مؤسسات الدولة المختلفة، والقضاء على آفات المجتمع، إلا إذا ضمنّا للصحافة وللصحافيين حريةً ومساحة حراكٍ تمكنهم من مزاولة أعمالهم ومهنتهم بموضوعية وبالمستويات السليمة.
وهذا ما يقودنا إلى اليوم، بعد أكثر من 117 يوم على اندلاع الحرب، فعلى ما يبدو أنّ كل ما ذكر أعلاه من أدبيات ونظريات باتت مُنعزلة عن الواقع، فعلى الرغم من أنّ حرية الصحافة نالت اعترافًا رسميًّا منحها مكانةً قانونيةً قويةً في القانون الدولي، وعلى الرغم من الادعاءات الإسرائيلية أنّ حرية الصحافة في إسرائيل تنال قيمةً عليا وأهميةً مركزيةً، ورغم اعتبارها شرطًا أساسيًّا لأن يكون النظام ديمقراطيًّا، إلا أن المُشرّع الإسرائيلي اثبت مؤخرًا أنّ الصحافة في إسرائيل مرهونة وبشكل كبير بالتطورات الأمنية، وهذا ما ادّعاه عدد من الباحثين على مر السنوات ايضًا، وحقيقةً، هذا قد لا يخيف بقدر المعرفة أنّ هنالك صحافيين اضطروا في الآونة الأخيرة لتفعيل رقابة ذاتيّة، ففيما يكون القيد الأول (الحكومي) قابلًا للتجاوز والكسر بسبل نضاليّة مُختلفة فأن القيد الثاني اشد قوة ومسًا بالعمل الصحافي، ومن المؤسف أنّ كسره قد يتحول إلى مهمة مستحيلة.
أدت التطورات الأخيرة إلى فرض أوامر رقابية على النشر الصحافيّ، على الرغم من أنّ الحديث عن فترة تشهد طفرة تكنولوجية تتيح سريان المعلومات بسرعة وكثافة وتحوّل العالم إلى ساحة واحدة دون أبواب عزل، فقد طاولت الأوامر الرقابية ليس فقط منعًا لنشر بعض المعلومات، إنما منعًا لاستعمال مصطلحات أو مقابلة أفراد قد تعتبرهم الدولة "معادين"، حتى وإن كان الحديث عن ضحايا من أهالي غزة يناشدون العالم بوقف الحرب وإمدادهم بأبسط المقومات البشرية- كالماء والوقود والطعام.
أما الأمر الخطير الآخر فيتجلى في محاولات بعض الصحافيين تفعيل الرقابة ضد زملائهم وتوجيه الاتهامات لصحافيين لا يخضعون لقواعد اللعبة والإجماع العام المُتخيل او بلغته المُتعارفة (الانحياز الإجماعيّ)، والذين يعبّرون عن آرائهم الحقيقية جهارة، ويغردون خارج السرب المتفق عليه إسرائيليًا، أو على خلفية انتماءات قوميّة أو سياسيّة، ومثال على ذلك محاولات تحريض عن طريق كتابة مقال للصحافي ليبسكيد ضد الصحافي محمد مجادلة.
لقد لاحقت الجهات المختلفة "حكومية ومنها أفراد" كل وسيلة إعلام قامت بالدور المتوخى منها، وهو إسماع صوت الضحيّة بغض النظر بأي طرف كانت، فهل أثرت هذه الملاحقات على الصحافيين؟!
أفضى استطلاع سابق قام به مركز "إعلام" (نيسان، 2022) وقام بفحص الأداء الإعلامي لعددٍ من الصحافيين إلى عدد من النتائج تتعلق بمسألة الرقابة، منها أنّ 67% ممن شاركوا بالاستطلاع أكدوا أنّ مؤسساتهم الإعلامية لم تشطب مواد لهم بسبب الرقابة لكن في ذات الوقت أكد 60% منهم أنّهم يقومون بتفعيل الرقابة الذاتية بشكل تلقائيّ، وخاصة عند تناول الموضوعات ونشر المواقف على مواقع التواصل الاجتماعي.
وإن كانت هذه النتائج قديمة بعض الشيء، ولا تأخذ بالحسبان التطورات الأمنية الحالية، فقد قمنا باستطلاع قصير تم تعميمه بين الزملاء الصحافيين وسأل عن مدى تفعيل الرقابة الذاتية مؤخرًا لتكون الأجوبة: "مؤخرًا، قمت بإغلاق كافة صفحاتي في مواقع التواصل الاجتماعي، على ما يبدو هذه ليست الفترة المناسبة للحديث عن حريات إعلامية، هنالك تخوف وحذر لكن لم يؤثر على تغطيتي الإعلاميّة". وقالت صحافية متمرسة "أحاول قدر الإمكان التطرق إلى الوضع السياسي بشكل مهنيّ، لكن الخوف في المؤسسة يقيدني بشكل كبير جدًا، دائمًا يذكرونني بضرورة الحفاظ على البطاقة الصحافيّة"، وفي جواب لزميل آخر "مؤسستنا خطها واضح، لكن أخاف على أطفالي، فزميل لنا اعتقل وأنا لا أضمن أنْ أكون سالمًا طول الوقت"، زميل آخر يعمل في مؤسسة تنشر باللغة العبرية قال "المواد تتغير، وهذا اعتدناه، لكن أحيانًا تتحول الضحية إلى مجرمٍ، وعليه قررت عدم التعامل مع المؤسسة، أكتب فقط في ملف العنف"، واخيرًا جاء رد زميلة صحافيّة "لا بعجبكم أنا بالحفاظ على المهنية، أخذت الطريق من قصيرها واستقلت"!
يعرّف "كورت لوين" (Kurt Lewin)، أحد رواد علم النفس، نظرية حارس البوابة الإعلامية بأنها "السيطرة على مكان إستراتيجي في سلسلة الاتصال بحيث يصبح له سلطة في اتخاذ القرار فيما سيمر من خلال بوابته وكيف سيمر، حتى يصل إلى الجمهور المستهدف أو المتلقي"، أي أن المادة الصحفية قبيل وصولها إلى الجمهور تكون قد خضعت للكثير من القصّ أو الحذف أو اللصق، وعلى ما يبدو فإن التطورات الأمنية الأخيرة أدت ايضًا إلى جعل هذه البوابة أكثر حديدية، فهنالك قفل آخر أُضيف إليها، وهو قفل الرقابة الذاتية.