النظام التعليمي في الضفة الغربية: نظرة نقدية لواقع مؤسف

في فلسطين، وبالتحديد في منطقة الضفة الغربية، لا تزال وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تردد المثل القائل "نحن بحاجة لقرية من أجل تربية طفل"، لكنها تسجّل في الحقيقة وبشكل مستمر قصورًا في ما يتعلق بتربية الطفل الفلسطيني وتعليمه بما يتناسب مع متطلبات العصر والتقدم المهول عالميًا وإنسانيًا ومعرفيًا!

ولعل نظرة خاطفة بداية على كيفية سير الأمور فعليًا في الضفة من حيث الأرقام ستشفع لعنوان هذه المقالة التشاؤمي حقًا، وتبيّن أن وزارة التربيـة والتعليـم الفلسطينية تشـرف علـى غالبيـة المـدارس (73.4% مـن المـدارس)، منهـا فـي الضفـة الغربيـة (79.3%)؛ و(55.5%) فـي قطـاع غـزة. وتســتثنى مــن هــذا الواقــع تلــك الموجــودة فــي القــدس، التــي لا تــزال تحــت الاحتــلال الإسـرائيلي فـي ظـل السـيطرة المدنيـة والأمنيـة الكاملـة، أما وكالــة الغــوث الدوليــة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة التــي توفــر خدمــة التعليــم فـي المـدارس المخصصـة للاجئيـن الفلسـطينيين، فتشـرف على (12.2%) مــن المــدارس، وتقسم (4.2%) مــن المــدارس فـي المحافظـات الشـمالية، و(37.2%) مـن المـدارس فـي المحافظـات الجنوبيـة.

أما القطـاع الخـاص الذي يشمل جمعيـات خيريـة، ومجموعـات دينيـة، وشـركات خاصـة تقـوم بتمويـل خدمـات هـذا التعليـم والإشـراف عليه، فتبلغ نسـبة المـدارس التـي يشـرف عليها (14.3%)؛ وتشكل (16.5%) مــن المــدارس فــي المحافظــات الشــمالية، و(7.3%) مــن المـدارس فـي المحافظـات الجنوبيـة.

وهنا علينا أن نعترف بأن العملية التعليمية الفلسطينية تواجه معيقًا بنيويًا حقيقيًا لا يمكن تجاهله خَلَقه وجود الاحتلال الاسرائيلي، حيث يتم التقليص من سلطة وسيادة وزارة التربية والتعليم في صياغة نظام تعليمي حقيقي يفي بمتطلبات الشعب الفلسطيني وطموحاته في التطور الأكاديمي والثقافي وغيره. فنجد تهميشًا واضحًا للهوية والمفاهيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية، بالتالي خصصت الموازنات والمجهودات لمعالجة الاستنزاف والأثر السلبي لسياسة الاحتلال الاسرائيلي التي تهدف حقًا إلى تجهيل الشعب الفلسطيني، والتي يؤسفنا أن نعترف أنها نجحت حتى الآن -ولو بشكل جزئي- في إعاقة التطور الفلسطيني في المجال الأكاديمي والثقافي، بل أسهمت في تراجعه والحدّ من قدرته على اللحاق بركب التقدم العالمي.

إن النظام التعليمي في فلسطين أصبح حتمًا أحد أهم روافد العملية النضالية التي تهدف إلى تعزيز شعور الطفل الفلسطيني بالهوية، وترسيخ الانتماء الوطني، بل ويشكل حاجزًا مهمًا أمام عملية التخريب الأخلاقي والثقافي التي يتعرض لها أطفالنا بشكل نمطي ومستمر، والأدبيات والأبحاث في هذا الخصوص مستفيضة وتتفق!

ولعل الظروف القاسية كالنقص في الأبنية المدرسية وتجهيزاتها بالملاعب والمختبرات والمكتبات بسبب الموازنات الحكومية المحددة والموجهة، في العديد من المناطق على حساب مناطق أخرى في الضفة الغربية، والتي خلقت؛ ثنائيات (قرية – مدينة) وثلاثية (منطقة شمال – وسط- جنوب)، والتي تلعب دورًا كبيرًا في تفاوت حظوظ الطلاب الفلسطينيين في الحصول على تعليم نوعي عادل ومتساوٍ، وهذا واقع لا يمكن إنكاره نقرأه بشكل يومي ولا مفر منه؛ فرص الطالب الخريج من مدرسة حكومية لا تتساوى مع مثيله من مدرسة خاصة.

وفي جزيئة أخرى، ما لا تدركه قيادات مؤسّسات التعليم في فلسطين -أو تدركه دون أن تفعل إزاءه شيئًا- هو التّسارع الشديد والتقدم الهائل في منظومة التعليم العالمية، والتغيرات الرقمية والذكاء الصناعي والوسائط الافتراضية، وغيرها من المعطيات، تقدّم مستوى آخر من خدمات تعليم عالٍ بجودة أعلى وقدرة أكبر على توفير فرص عمل مستقبلًا، وعالميًا يتم استخدام منهجيات أكثر استجابةً لثقافة الجيل الجديد الذي يعيش في عالم مختلف حقًا من التطور والانفتاح التكنولوجي والثقافي، وكل ذلك بأسعار أقلّ، وإن كانت بالطبع مرتهنة إلى أجندات ربحية، وثقافية، وسياسية، وهنا أسأل: ما الخطة ؟ كيف سنتعامل؟ متى سنبدأ؟

في الحقيقة، ومن وجهة نظر معلمة، علينا البدء بتبني نماذج تعلّم جديدة وشاملة لجميع المدارس بلا استثناء أو تفضيل، تضمن للأطفال جميعًا، في محتواها ومنهجيّاتها، تعليمًا نوعيًا يمكنهم من اكتسابَ مهارات التفكير النقدي، والتعلّم الذاتي، والمهارات الحياتية، إضافة إلى تشجيع الانخراط في البحث، وتطوير ذهنيّة التفكير التحليلي، وإعطاء المجال للأطفال لتطبيق المعارف التي يكتسبونها في سياقات حياتهم المختلفة ضمن إطار داعم وآمن، وإيجاد فرص حقيقية تخدم التركيز على الاختراع والإبداع وإنتاج المعرفة المتواصل الذي سيخدم بلدنا مستقبلًا بشكل حتمي، بما يكفل لأطفالنا البقاء على صلة مع التغيّرات التكنولوجيّة المعاصرة، وفي الوقت نفسه القدرة على المنافسة في عالم مليء بالتغييرات، في زمن يستبدل به الإنسان بنظام ذكاء اصطناعي، والأهمّ من ذلك، الحفاظ على غايات وفلسفة التعلم الأساسية وتطوير طريقة عرضها وتقديمها، والتي تتمثل في الوعي بالقيم الإنسانية والتفكير المعمّق، والمساءلة، والشّك، والنّقد، والفلسفة، وبناء الآراء المختلفة وتقبّلها والانفتاح على الآخر بهدف كسب الخبرات.

إن ما تمثله مناهج التعليم وآلية التعليم وكيفية تطبيق التعليم يضعنا في فقاعة، ويعزل أطفالنا ويحرمهم من تحقيق إمكاناتهم بل ويخرجهم من دائرة المنافسة، وينتج أفرادًا لا يمكنهم النجاح بسبب فجوة خلقت في الصف، إن هذا التحوّل المذكور يتطلب تغييرًا جذريًّا موازيًّا في نموذج "تقديم خدمة التعليم" "ومقدمي تلك الخدمة"، لأنّ طريقة التعلّم المُعتمد في فلسطين حاليًّا عفى عليه الزمن. ما نحتاجه الآن هو مرحلة تحول، لتجنّب كارثة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة أسوأ مما نواجه اليوم، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو إتاحة المجال لقيادات المجتمع الأكاديمية والفكرية والاجتماعية المختلفة إلى جانب وزارة التعليم والمؤسسّات التعليمية الأخرى للتدخّل في عمليّة تطوير نظام التعليم وتصميمه، وتسييره، وإدارته، ومتابعته، استجابةٍ لإخفاق النظم التقليديّة في النهوض بقطاع التعليم طوال فترة إدارتها المتفردة لهذا القطاع، كونها مسؤولية جماعية ليست مقتصرة على فئة دون غيرها.

نرمين القاضي

معلمة ومدربة مهارات حياتية - رام الله

رأيك يهمنا