استهداف التعليم الفلسطيني: الحكاية من أَوّلها!
أدرك المحتلون الصهاينة بأن سرّ قوة الفلسطينيين، لا يكمن في نسيجهم الاجتماعي فقط، ولا في صمودهم ومطالبتهم بحقوقهم المشروعة، بل إن سرّ قوتهم ومنعتهم يكمن في نظام تعليمهم، فقد كان التعليم الفلسطيني رافعة نهضوية فلسطينية، تَمَثَّل ذلك في كفاءة المدرسين ومناهج دراستهم وطرق التربية والتعليم، حتى أن التربوي الفلسطيني خليل السكاكيني ابتدع مناهج التدريس في المرحلة الابتدائية، جرى اعتمادها في مصر في ستينيات القرن الماضي، لذلك فإن نظام التعليم الفلسطيني والمصري أنتج جيلًا من المعلمين المصريين والفلسطينيين ممن أسهموا في نشر التعليم والثقافة في كثير من الدول العربية.
لذلك فقد صمم المحتلون الخطط لإفشال التعليم وتغيير أهدافه ليتحول من رافعة نهضوية تعزز الصمود والمناعة الفلسطينية، إلى عبء اقتصادي واجتماعي وثقافي، ينهك المجتمع الفلسطيني، ويسبب نقص المناعة الثقافية والوطنية في الجيل الفلسطيني لتسهل هزيمته!
أنضج الإسرائيليون في زمن الاحتلال مؤامرتهم لإفشال التعليم الفلسطيني مستفيدين من تجاربهم في مجال التربية والتعليم باعتقادي، فعندما استولوا على وطننا رفعوا شعارهم المركزي في التعليم عام 1949، وكان شعارهم الإستراتيجي برأيي هو: التعليم الصهيوني مصنع لإنتاج روح شعب إسرائيل، حتى يتمكنوا من التفوق على الفلسطينيين. ثم غيّروا هذا الشعار بعد عقد من الزمن ليصبح الشعار: التعليم الإسرائيلي رافعة نهضوية غايتها التفوق على المحيط، ووفقه فقد اقتبسوا كل تجارب العالم، وشاركوا في كل منتديات العالم التعليمية والتربوية، وانضموا إلى دول التنمية الاقتصادية الثلاثين، واعتمدوا مقياس جودة التعليم، بخاصة في مجالات العلوم والرياضيات، وحصلوا على مراتب متقدمة في دول التنمية OECD وأسسوا لجانًا خاصة لتدريب المعلمين وإصلاح التعليم، مثل لجنة (دوفرات)، ومنحوا المعلمين رواتب عالية، وفي بداية الألفية الثالثة أشعلوا الضوء الأحمر لأن مرتبة التعليم في إسرائيل قد انخفضت، مما دفعهم لزيادة مرتبات المعلمين، واقتباس التجارب.
وفي مقابل عملهم على تطوير تعليمهم وتوجيهه، فإنهم عملوا على إفشال التعليم الفلسطيني ليضمنوا تفوقهم في مجالات التكنولوجيا، فعندما احتلوا أرضنا بدأوا تنفيذ خططهم المتمثلة في خطوات عديدة لتحقيق هدفهم المركزي وهو، إفشال التعليم الفلسطيني، وتحويل التعليم من هدف نضالي إستراتيجي، إلى تعليم شكلي قِشري هدفه تخريج الموظفين الرسميين، كنتُ أنا شخصيًا شاهدًا على مراحل الإفساد الأولى، ولتحقيق الإفساد المتعمد قبل اتفاقية السلام عين المحتلون مسؤولًا من جنرالات جيش إسرائيل المتقاعدين ممن يجيدون اللغة العربية مديرًا عامًا للتعليم في الإدارة المدنية في قطاع غزة والضفة العربية، قام هذا الجنرال بالتعاون مع بعض المرتزقة بالإشراف على مسخ المناهج التعليمية والتربوية، بحجة إزالة ما يسمونه مواد التحريض المقررة في المناهج وكل ما يتعلق بأمن إسرائيل، وطال ذلك منهاج الجغرافيا والتاريخ والمواد الاجتماعية، واستبعدوا بعض الآيات من القرآن الكريم التي تحث على الجهاد، وفي الوقت نفسه غرسوا في المناهج الفلسطينية أمورًا تعزز ادعاءهم بأنهم أصحاب الأرض الأصليون، ومحوا من الخرائط الجغرافية اسم فلسطين، وكتبوا بدلًا من ذلك، إسرائيل!
ومن أبرز الخطط التي نفذوها أنهم أزالوا كثيرًا من المواد الدراسية المتعلقة بالابتكارات العلمية في مادتي الفيزياء والكيمياء، وجعلوا المادتين محفوظات نظرية المطلوب حفظها لا تطبيقها عمليًا، لتحقيق تلك الغاية اختاروا بعض المعلمين الفاشلين، وأغلقوا معامل المدارس العلمية واعتبروها عهدة مدرسية لدى مدرسي العلوم، يجب تسليمها في نهاية العام سليمة بدون نقص، وفي الوقت نفسه امتنعوا عن تزويد تلك المعامل بالمواد العلمية، كالأحماض والمختبرات وأجهزة التدريب العلمية.
كذلك فتح المحتلون مجال العمل في إسرائيل للأطفال الفلسطينيين في قطاع العمل الزراعي مستغلين حالة الفقر في قطاع غزة، على الرغم من تحريم تشغيل الأطفال في الأعمال الشاقة وفق القوانين الدولية، مما أدى إلى تسرب الطلاب في مراحل التعليم الأولى من مدارسهم، مضافًا إلى ذلك اغتال المحتلون كثيرين من الأطفال بحجة إلقاء الحجارة، وأعتقلوا متظاهرين ضد سياسة القمع والاحتلال، أدى كل ذلك إلى أن تصبح المدارس ساحات للإضرابات السياسية، ولم يتنبه القادة السياسيون الفلسطينيون إلى هذا المخطط، بل أسهموا هم أيضًا في إفشاله، لدرجة أن عدد أيام الإضراب في المدارس كان أكثر من عدد الدوام الفعلي، مما أدى إلى أن يصبح التعليم مفرغًا من جوهره الحقيقي.
كذلك فقد عمد المحتلون إلى زرع الكره في نفوس الطلاب وأولياء أمورهم لمدارسهم، لأن معظم المدارس كانت دائمًا محاطة بسيارات جيش الاحتلال العسكرية، لذلك امتنع كثير الآباء عن إرسال أبنائهم إلى المدارس خشية القتل أو الاعتقال!
أما الخطة التالية فكانت تفريغ المدرسين المخلصين الوطنيين الأكفاء من المدارس، وذلك إما باتهامهم بالتحريض أو بسجنهم، ولم يسمحوا بإنشاء مدارس جديدة، مما جعل الفصول الدراسية غرفًا مكتظة مما يصعّب مهمة المدرسين.
لم يكتفِ المحتلون بذلك بل كانوا في كل حروبهم في غزة يعمدون إلى تدمير المباني المدرسية، بحجة أنها بؤر إرهابية تستعمل مخازن للأسلحة والصواريخ.
وخلال حرب الإبادة الجارية حتى اليوم في غزة، وهي التي بدأت في السابع من شهر أكتوبر 2023م فإن تدمير المدارس كان الهدف الرئيس لطائرات الاحتلال، فقد دمرت قنابل المحتلين أكثر من 75% من المدارس حتى كتابة المقال، إما تدميرا كليًا أو جزئيًا، مضافًا إلى ذلك فإن هذه الحرب اغتالت من نظامنا التربوي والتعليمي عامًا كاملًا، وأسهمت في تشريد مئات آلاف الطلاب ممن فقدوا عائلاتهم، وهؤلاء يحتاجون إلى علاج ورعاية، كل ذلك حدث في عصرٍ تَحسب فيه الدولُ الوقت الفاقد في نظام تعليمها بالدقائق والساعات، وليس بالسنوات كما هو الحال في غزة!
أما أسوأ خطط إسرائيل، لإفشال التعليم وتحويل المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع أمي جاهل برأيي، فهي الخطة التي شرع المحتلون في تنفيذها بالفعل، وتتمثل في إزالة آخر منظمة ترعى التعليم الفلسطيني وإضعافها وإلغائها وهي منظمة الأونروا الدولية. بدأت خطة إسرائيل بإخراج الأونروا على القانون، فقد طرح الكنيست الإسرائيلي في شهر مايو 2024م مشروع قانون يعتبر هذه المنظمة الدولية منظمة إرهابية، مع العلم أن هذه المنظمة تشرف على 183 مدرسة، تقدم الخدمة لأكثر من 278,000 طالب وطالبة، بحسب مصادر محلية، هؤلاء جميعهم فقدوا عامًا تربويًا وتعليميًا كاملًا، لم تعد لهم مدارس تأويهم.
أما في القدس فقد استعمل المحتلون خططًا أخرى، أبرزها "تحفيز" طلاب القدس أن يتعلموا وفق المنهاج الإسرائيلي، حتى يتمكنوا من الالتحاق بالجامعات المعتمدة.
علينا أن نعيد العربة التعليمة الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، وذلك باعتبار النضال التربوي والتعليمي هو ركن البناء الرئيس للدولة الفلسطينية المستقبلية، واعتبار التعليم إستراتيجية فلسطينية، وليس تكتيكًا للحصول على الوظائف الحكومية.
يجب أيضًا تأهيل المدرسين ليتمكنوا من إعداد جيل فلسطيني قادر على المشاركة في بناء مستقبل نهضوي، وبخاصة في مجال التكنولوجيا الرقمية، وفي مجالات الفنون الأخرى.
علينا أن نتذكر دائمًا أن الهدف من التعليم هو توسيع ثقافة العقول باقتباس تجارب الدول المتقدمة، وليس حشوها بالمحفوظات النظرية!
توفيق أبو شومر
كاتب وباحث فلسطيني من قطاع غزة