المساواة في خدمة الاضطهاد
تشير متابعتنا للاحتجاجات، على ما يسمى من قبل اليمين المتطرف بـ"الإصلاح القضائي" ومن قبل اليمين التقليدي أو اليسار الصهيوني بـ "الانقلاب في نظام الحكم"، بأن خطاب النخب المبادرة والتي تقود الاحتجاج يحمل نفسًا وأجندة ليبراليين. ويحظى ما يسمى لدى تلك النخبة بالعدالة الجندرية بحضور كبير داخل هذا الخطاب وداخل أجندات المحتجين. وليس الأمر صدفة، حيث حملت الاحتجاجات ما لا يقع داخل الحدود الضيقة لمخطط الحكومة المتعلق بـ"الإصلاح القضائي" والذي كان الدافع المركزي وراء الاحتجاجات، وحملت الاحتجاجات فرصة "مراجعات" أوسع بعد ادراك الليبراليين أن اليمين المتطرف يقوم "بالسطو" على "دولتهم" وبالتحكم بالحيز العام وبالمجتمع بكل تبعات ذلك.
يؤكد متظاهرو شارع كابلان (في مدينة تل أبيب) بأن خطة الحكومة الجديدة سوف تؤدي إلى تراجع كبير عن الحقوق والمكتسبات التي نالتها النساء في إسرائيل خلال عقودها السبعة حيث تسعى إلى الفصل بين الجنسين، إقصاء النساء عن الحيز العام وعن مواقع صنع القرار وإلى زيادة صلاحيات المحاكم الحاخامية المنحازة ضد النساء، كما وتستهدف الحرية على الجسد الأمر الذي يسيء بشكل خاص إلى النساء العزباوات وإلى الأشخاص ذوي وذوات الميول الجنسية غير المعيارية. الأمر الذي سيحدث بالتوازي مع مشروع اضعاف صلاحيات السلطة القضائية والمس باستقلالها وهي المؤسسة الوحيدة، التي يرى المحتجون والمحتجّات بأنها قادرة على لجم الحكومة في قراراتها "غير ذات المعقولية" وعلى لجم الهيئة التشريعية عند قيامها بتشريع قوانين تخرق الحقوق الأساسية للنساء وللفئات المهمشة الأخرى.
يأخذنا هذا الواقع السياسي إلى ضرورة التأكيد على موقفنا وعلى مقاربتنا النسوية المناهضة للاستعمار وإلى التأكيد على عدم تماهينا، بل وربما رفضنا للأجندة النسوية لمئات الاف المحتجين في الساحات الإسرائيلية. تلك الأجندة غير القادرة أو غير الساعية أصلا إلى تعريف حقيقي للمساواة وللعدالة، لأن ذلك مرشح لخلق صدوع في المنظومة الاستعمارية الذكورية للدولة، التي وان تعتمد العديد من القوانين والحقوق التي قد تحمي مكانة وحريات بعض الشرائح من النساء او من ذوات وذوي الميول الجنسية غير المعيارية من الطبقة الوسطى، إلا أنها قائمة على سلب استعماريّ متواصل وعلى تداخل الدين بالدولة وعلى تكريس الذكوريّة من خلال العنف العسكري البنيويّ.
رفضنا للخطاب النسوي الصهيونيّ السائد في إسرائيل ليس جديدًا، وهو طبيعي ومشتق من انخراط الأخير في الخطاب الصهيوني والمساهمة في شرعيته عبر إنتاج مساحات نقدية تزيد من تماسكه وديماغوجيته الليبرالية. ولكن الخطابات النسوية للمحتجّين والمحتجّات على ما يسمى "الإصلاح القضائي" تعيدنا إلى تلك النقاشات بقوة أكبر، سيما أنها تُطرح من باب "المراجعات النقدية" لما يجري وخلال مسار التراجع عن "الغفوة الليبرالية" خلال العقدين الأخيرين. وها نحن نطرحها مرة أخرى، ولكن ليس من باب التأكيد على أننا نناهض هذه الأجندات التي تطرح نفسها كنسوية فحسب، وانمّا من باب تأكيد خطورة ما يطرح ضمن نقطة زمنية تعرّف نفسها كفرصة تاريخية لتثبيت حقوق النساء وحمايتهن من أعدائهن، ومن باب تأكيد قدرة هذه الأجندات التي تطرح نفسها كليبرالية على إعادة إنتاج حمايتها للمنظومة الاستعمارية في محطة كان من الممكن أن تعيد فيها جميع حساباتها. وقد يساعدنا بذلك مراجعة ما صرّحت به شيرا ايتنج وهي من قياديات احتجاج "إخوة السلاح" وإحدى ثمرات المعركة "النسوية" التي قام بها لوبي النساء في إسرائيل عام ١٩٩٤ حين قدّم التماسا للمحكمة العليا من أجل الدفاع عن "حقّ النساء في التقدم إلى دورة طيران في الجيش الاسرائيلي[1] وهي محارِبة تعمل كابتن طائرة (طييست). ايتنج تمثل الصوت الليبرالي الصهيونيّ "النسويّ" وصورة إسرائيل "الجميلة" التي تدافع عن حقوق النساء في الوصول لصنع القرار والتي تدافع عن وجود النساء في المناصب العليا وفي الطيران الحربي وترفض اقصاءهن على خلفية جنسهن أو ميولهن الجنسية ولاسيّما أنها، ايتنج، امرأة مثليّة.
ايتينج في خطابها في كابلان ممثلة لمجموعة "إخوة السلاح" تقول في معرض دفاعها عن "الحقوق والحريات" ضد الصوت الظلاميّ الآتي من الحكومة الجديدة، "في اللحظة التي حاولوا فيها سلبنا القيم الأهم بالنسبة لنا، انطلقنا في صراع من أجل الحياة. عربتنا مليئة بقيم الحرية والحقوق المتساوية" وتفاخر في خطابها كذلك بأن المحكمة العليا هي التي أثبتت لكل ولد وبنت بأن السماء ليست الحدود حيث هنالك ستون قبطانة طائرة من النساء في سلاح الجو الاسرائيليّ، وقد حظيت جملتها بتصفيق عشرات آلاف المحتجين حاملات وحاملي أعلام إسرائيل. فمن خلال نساء مثل أيتنج تقوم إسرائيل "الديمقراطية" التي تحافظ على المؤسسات "الديمقراطية" بغسيلها الوردي حيث تدعم حريّات المثليين اليهود وتقضي دباباتها على فلسطينيين أطفالا وشبابا ونساء ورجالا مثليين وغير مثليين.
لاحقا تصرّح ايتنج المدافعة عن "الحريات والحقوق والمساواة" في مقابلة لها في برنامج "ستون دقيقة" (التابع لشركة الاخبار الأمريكية CBC) "اذا كنتم تريدون أن يتمكّن الطيارون من الطيران وإطلاق القنابل والصواريخ على المنازل، مع العلم أنها قد تقتل الأطفال، يجب أن تكون ثقتهم عالية في الأشخاص الذين يتخذون هذه القرارات". وبمعنى توضيحي لكلامها او بقراءتي له تقول ايتنج بأنه إذا جاءها الأمر من مؤسساتها التي تحترمها ومن خلال دولتها التي ‘تحترم’ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء فإنها سوف تنفذ الأمر، وغالبا ما يكون على رأس هذه المؤسسات "الديمقراطية" قائد رجل، علماني واشكنازي يمينيّ، واما إذا جاءها الأمر بالقتل من متديّن ويمينيّ شعبويّ فمن المؤكد انه لا يحترم السلطات ولا حقوق المثليين، فأنها لن تنصاع له لأن أوامره بقتل الأطفال الأبرياء لن تكون مقبولة[2].
قد يرى البعض أن استعمال خطاب ايتنج من أجل الهجوم على ساحة كابلان وساحات الاحتجاج الأخرى التي "تدافع عن الديمقراطية" غير منصف وبه إساءة استخدام لحالة استثنائية وتعميمها، حيث تزخر كابلان والساحات الأخرى باليسار الذي يرفض سيطرة اليمين المتطرف والذي يريد حماية استقلال القضاء الذي بدروه يدافع عن النساء والعرب وجميع المهمشين. ولأولئك أقول إن مقولة ايتنج ليست فقط غير استثنائية وانما قد تكون عينة تمثيلية منّسقة مع الأصل. وحين أقول الأصل لا اقصد جميع المتحتجين ولا جميع النسويات في إسرائيل، وانما اقصد الصوت والخطاب المهيمنين في ساحات الاحتجاج التي تعجّ بمئات الالاف من الاعلام التي تؤكد على ولاء رافعيها لدولتهم اليهوديّة ولمشروعها الاستعماري. حيث تؤكد مراجعة بسيطة لمقالات واوراق موقف وشعارات التظاهرات التي عنيت بأثر التعديلات القضائية وخطط الحكومة الحالية على النساء وعلى المساواة الجندرية وعلى حقوق المثليين، والتي لا يتسع المكان لذكرها هنا، بأن الغالبية العظمى منها والتي تحذّر من اقصاء النساء ومن التراجع عن مكتسباتهن، تدافع عن وجود النساء في حيّز عام اقصائيّ لسكان البلاد الأصليين وفي مواقع صنع القرار داخل منظومة أبارتهايد تسيطر على أكثر من خمسة ملايين فلسطيني دون حد أدنى من الحقوق وقرابة مليون ونصف آخرين مواطنين بدرجة ثالثة.
وبشكل خاص تشدد الأصوات المناهضة للتغييرات القانونية على أهميّة مقاومة القوانين المقترحة التي تسمح بالفصل بين النساء والرجال في الحيز العام وفي اقصاء النساء وتظهر حدة القلق عند الحديث عن ‘المس ‘بالنساء اللواتي يخدمن بقوى "الامن" الإسرائيلي. وليس المقصود في ذلك الدفاع عنهن ضد المعتدين جنسيًا او نفسيًا من القيادات العسكرية الرجولية وانما الخوف من اقصائهن عن الوظائف الحربيّة العليا أي تلك الوظائف التي تتقلد أحداها ايتنج[3]. ومن بين تلك الحقوق كذلك الحق في التواجد بشكل متساو مثلا في المواصلات العامة، حيث القلق هو من الفصل داخل الحافلات العامّة، أما حقيقة انعدام البنية التحتية والمواصلات العامة، بل والحيز العام نفسه ولعقود طويلة في معظم القرى والمدن العربية في البلاد، فهو أمر لا يدخل وفق تعريف الخطاب النسويّ الصهيونيّ في إطار العدالة أو المساواة أو الحرية. وقد كان مجرد وجود المواصلات العامة يشكل تحديًّا امام الأطر النسوية الفلسطينية التي سعت جاهدة لتمكين النساء من الخروج للعمل وللتعليم وللعلاج ولممارسة امورهن الحياتية وللتواجد في الحيز العام. انّ اصحاب الخطاب المستحوَذ بالقلق من اقتراح قانون آت من الحريديين من اجل تحديد ساعات استحمام منفصلة في الحدائق "الوطنية" والمحميات الطبيعية[4]، لا يسألون أنفسهم أسئلة كثيرة أولا حول مصادرة الحدائق وعيون المياه من أصحابها، أو حول انعدام المناطق الخضراء والمساحات العامة في المناطق العربية أو حول عشرات آلاف الحالات التي تنعدم فيها البيوت أصلا أو تهدم او يهجّر أصحابها منها، وثانيًا حول سيطرة إسرائيل على مصادر المياه في الضفة الغربية وفي الجولان. نفس الخطاب النسوي العلمانوي ربما لا يريد المتدينين الحريديين في الحدائق العامة وربما يحرَج من لباسهم ومن طريقة حياتهم التي لا تلائم الحياة الغربية "المتطّورة"، ولكنه يطالب بفرض الخدمة بالجيش عليهم ليمارسوا "واجباتهم الوطني" في قتل الفلسطيني وفي تدمير مخيم جنين وفي اقتحام نابلس وطول كرم وقطاع غزة. ويدافع عن حقّ النساء التواجد في حائط البراق دون لباس متواضع، لكنه لا يسأل عن العنف والسلب الذي يمارس ضدّ الفلسطينيين تحت غطاء هذه المراسيم الدينية ولا عن البندقية التي تسلب الأعمار والحريات "لتأمين" اللباس "الحر".
ويجمع المحتجّون على القلق من العدد القليل للنساء في الحكومة والذي لا يزيد عن تسع نساء من بين ٦٤ عضوا، حيث يقلق الأجندة النسوية الصهيونية ضعف مشاركة النساء في صناعة الاضطهاد، والقتل، والسلب، والعنف.
*يعتمد المقال على ورقة يعدّها برنامج الدراسات النسوية في مركز مدى الكرمل بعنوان: قراءة في الاجندة النسوية للاحتجاج ضد الإصلاح القضائي في اسرائيل: مقاربة نسوية فلسطينية مناهضة للاستعمار، تعمل عليها د. عرين هواري وريموندا منصور.
[1] التماس اليس ميلر ضد وزير الامن
[2] لقراءة تحليل ساخر ونقدي لخطاب ايتنج وللأجندات الليبرالية لليسار الصهيوني ومحتجيه في كابلان، يمكن العودة لمقال جدعون ليفي بموقع صحيفة هآرتس بعنوان "في ظل الحكومة المناسبة سوف تقصف الأطفال أيضاً" الذي نشر في تاريخ ٢١ أيلول ٢٠٢٣ https://did.li/Bg5w5 ولقراءة مثرية في غسيل اسرائيل الوردي ل من اجل حماية مشروعها الاستعماري يمكن العودة لمقال ربيع عيد بعنوان "السياحة ممارسة استعمارية: الغسيل الوردي ومسيرة الفخر الاسرائيلية" الصادر عن مركز مدى الكرمل في حزيران ٢٠٢٣ https://shorturl.at/mzBX9
[3] على سبيل الذكر ودون حصر ورقة الموقف رقم ١١ بعنوان "المس بحقوق النساء في اعقاب التغييرات في النظام" لتي أعدتها ست محاضِرات في القانون من "منتدى محاضري ومحاضرات القانون من اجل الديمقراطية" في نيسان ٢٠٢٣.
[4] انظري مثلا التقرير الذي اعدّه لوبي النساء في إسرائيل في تموز ٢٠٢٣ بعنوان " تسلسل زمني للتحركات ضد المرأة منذ تشكيل الحكومة “.
الصورة: من موقع مؤسسة "شتيل".
د. عرين هواري
ناشطة نسويّة وسياسيّة. تعمل منسقة لبرنامج الدراسات النسوية في مدى الكرمل-المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقيّة ومحاضرة غير متفرغة في الجامعة العبرية