قراءة في "تبرئة" قاتل الشهيد إياد الحلاق: دفاعًا عن النفسِ أم تشريعًا لقتل الفلسطينيّ؟

انتشرت في التاسع من تموز 2023، عبر المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي صورة والدة الشهيد إياد الحلاق، تقف في أروقة المحكمة المركزية في القدس صارخة في وجه العالم بعد تلقيها قرار تبرئة قاتل ابنها وإسقاط جميع التهم عنه.

(تعود حادثة مقتل الشهيد إياد الحلاق ليوم 30/5/2020، حين كان في ساعات الصباح الباكرة في طريقه من بيته في حي وادي الجوز المقدسي، إلى المؤسسة التي يعمل بها في البلدة القديمة. ذات الطريق التي سلكها الشهيد إياد في السنوات الست الأخيرة من حياته، وفي ذات التوقيت؛ إلا أن في هذه المرة تم تشخيصه بالخطأً على يد أحد أفراد الشرطة على أنه "مخربًا وبحوزته مسدسًا"، استنادًا إلى حركات جسده التي "فُسرّت" على أنها مشبوهة، والتي لم تكن إلا نتيجة للإعاقة الذهنية التي عانى منها إياد طوال حياته.

هرع أفراد الشرطة نحو إياد صارخين في وجهه، فما كان به من شدة الذعر إلا أن بدأ بالهرب منهم نحو أزقة البلدة القديمة. طارده أربع عناصر شرطة حتى دخل ليختبئ داخل غرفة لتجميع القمامة، مستغيثًا بمرشدته (من المؤسسة)، التي مرّت صدفة من المكان وصرخت بوجه رجال الشرطة للتوقف عن مطاردته. الا أن القاتل، وفور دخوله غرفة تجميع القمامة قام بإطلاق النار باتجاه الجزء السفلي من جسد إياد، مما أدى إلى سقوطه ارضًا. وعندما حاول إياد المصاب والأعزل، رفع جسده قليلا عن الأرض ليشير باتجاه مرشدته، قام القاتل بإطلاق النار عليه ثانية، ولكن هذه المرة نحو الجزء العلوي من جسده، ليرديه قتيلا، معللًا فعله على أنه ظنّ حركة يد اياد محاولةً لإشهار مسدس نحوه، كما جاء في إفادته لاحقًا.

بعد إجرائها تحقيق بظروف مقتل إياد، قامت وحدة التحقيقات مع عناصر الشرطة، بتقديم الجندي القاتل إلى المحكمة المركزية في القدس بتهمة القتل؛ في إحدى الحالات النادرة التي تم من خلالها تقديم أحد عناصر الشرطة للمحاكمة على خلفية قتل فلسطيني. علمًا أنها كانت على مدار سنوات طويلة وما زالت تتبع سياسة عدم المحاسبة وإغلاق الغالبية العظمى من الشكاوى التي تقدم إليها ضد عناصر شرطة المتورطين بجرائم ضد الفلسطينيين، ومن ضمنها جرائم القتل.

إلا أن المحكمة المركزية في القدس، وبعد سماعها الشهود، أقرت تبرئة القاتل من التهم الموجهة اليه. يأتي ذلك استنادا إلى الانطباع الذي اتخذته المحكمة عن القاتل، بموجب التحقيقات التي أجريت معه وشهادته أمامها، حيث اقتنعت – وفقًا لما جاء في قرارها - بأن القاتل اعتقد حقًا بأن إياد كان يشكل خطرًا عليه وعلى آخرين وأن بحوزته مسدسًا، على الرغم من أنه لم يره بأم عينيه، وإنما وفقًا لما سمعه في بلاغ الشرطيين الآخرين الذين كانا أول من اشتبه به. كما اقتنعت المحكمة بأن القاتل كان على ثقة تامة بأن إياد كان ينوي إشهار مسدسه عندما قام بتحريك جسده حين كان ملقًا على الأرض. وعليه، أقرّت المحكمة بأنه في حال كان إياد "مخربًا" بالفعل، لكان من الضروري إطلاق النار صوب الاتجاه العلوي من جسده للسيطرة على الموقف ودرء الخطر. 

في تحليلها للقضية، وضعت المحكمة الظروف الشخصية للقاتل في صلب قرارها، لا سيما صغر سنه وخدمته العسكرية الحديثة، وكون "العملية العسكرية" التي راح ضحيتها إياد كانت الأولى التي يشارك بها هذا المجند، ووظّفتها مجتمعة لصالح تبرئته. كما أعطت وزنًا كبيرًا لتزامن حادث القتل مع انتهاء شهر رمضان المبارك والأعياد اليهودية خصوصًا في منطقة البلدة القديمة في القدس والتي تعتبرها المحكمة، "منطقة معدة لاندلاع الاشتباكات". وبالتالي اعتبرت المحكمة بأن كل هذه العوامل تصب في صالح القاتل وتعزز من مصداقيته بشأن اعتقاده بأنه كان في مواجهة "مخرب" وليس شخصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وعليه أقرت إدراج سلوكه تحت خانة "الدفاع عن النفس". 

ليس من الصعب محاججة الإشكاليات في قرار المحكمة المركزية بالجانب القانوني، إذ أن الدفاع عن النفس لا يمكن أن يكون مفصولًا عن أي اعتبارات موضوعية أخرى، وأن في حال وجود فجوة عميقة جدًا بين اعتقاد الشخص والواقع، على المحكمة أن توازن بين الأمرين وكي لا تتبى تتبنى وجهة نظر القاتل بشكل مطلق وتام! 

لكن، وبالنظر إلى الحالة السياسية في البلاد عامة، وفي منطقة القدس والبلدة القديمة خاصة، قراءة هذا القرار تتجاوز الخطأ القانوني، لتشمل انعكاساتها المستقبلية الخطيرة على حالات مماثلة؛ حيث أن هذا القرار، يقوم بتشريع الاغتيالات الميدانية للفلسطينيين على يد عناصر الشرطة، انطلاقا من مبدأ انعدام الحق بالحياة للفلسطينيين الذين يشكلون خطرًا أو يُعتقد أنهم يشكلون خطرًا على عناصر الشرطة، ويتيح للشرطيين الحق باتخاذ أي إجراء يرونه مناسبًا للقضاء عليهم دون الحاجة للجوء لأدوات أقل حدة، كما أن هذا القرار يمنح لاعتقاد القاتل الذاتي الثقل الأساسي في حالات مماثلة، بمعزل عن الاعتبارات الموضوعية المرافقة للحدث. كما يوصم هذا القرار منطقة البلدة القديمة في القدس على أنها "منطقة مشاع للقتل" لا شرطي يحاسب على أفعاله داخل حدودها، "لخطورتها" و"الترقب الدائم لأخطار قد تهدد حياة وسلامة عناصر الأمن فيها" من وجهة النظر الاسرائيلية، ما يُبرّر، بل يلقى تسامحًا وحتى تعاطفًا من قبل المحاكم الإسرائيلية. 

في الخلاصة، هذا القرار لا ينمّ فقط عن انعدام الإنسانية والعدالة، بل هو بمثابة انتهاك فاضح لذكرى الشهيد إياد وحق عائلته بمحاسبة قاتل ابنها، وفوق كل ذلك، سابقة خطيرة أخرى تضاف الى قائمة قرارات المحاكم الإسرائيلية المجحفة التي تؤكد على وجود منظومتي قضاء مختلفتين، واحدة للفلسطينيين وأخرى لليهود. ذلك إلى جانب كون هذا القرار بمثابة دفتر تعليمات لأي شرطي قد يُقدم على قتل أي فلسطيني مستقبلا، وكأن إتباع تحليل المحكمة القانوني لهذا الحدث سيضمن الإفلات من العقاب في حالات مستقبلية مماثلة. وإن دلّ قرار النيابة العامة ووحدة التحقيقات مع أفراد الشرطة بعدم الاستئناف على هذا القرار القضائي فإنه يدلّ على دورهم المنهجي بعدم محاسبة أفراد الشرطة المتورطين بجرائم قتل ضد الفلسطينيين، وإتاحة آليات إضافية لهم للإفلات من العقاب.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

المحامية ناريمان شحادة زعبي

محامية بوحدة الحقوق السياسية المدنية في مركز "عدالة"

شاركونا رأيكن.م