الأَرشيف المَسروق: حين تُؤَرشَف النكبة في خَزائن الغُزاة

تُعتبر السرقة المنهجيّة للأرشيفات، والكتب، والصحف، والتُّحف، والأعمال الثقافية والفنيّة الفلسطينية أحدالأَبعاد الأقَلّ شهرة لنكبة فلسطين المستمرّة منذ عام 1947-1948. كان لهذا السّرقة واسعة النطاق تداعيات عَميقة على التراث الثقافي الفلسطيني والذاكرة التاريخية والهوية الوطنية. ولا تزال المواد المَسروقة "محبوسة"في خزائن الأرشيفات الإسرائيلية، مع تقييد وصول الفلسطينيين إلى العديد من صفحاتها التي تَخضع للرقابة.
(1)
النكبة مستمرّة- كذلك سَرقة الأرشيف مستمرّة!
لم تَكن سَرقة المواد الثقافية الفلسطينية مجرّد حدث وحيد جرى عام 1948 وانتهى، وإن كانت هذه السّرقة هي الأوسع على الإطلاق. في الواقع، بدأَت السرقة خلال الثلاثينات من القرن الماضي من قبل قوات الهاغاناة، قبل أن يتوسع نطاقها بشكل منهجي خلال النكبة (حيث أُجبر نحو 750،000 فلسطيني على ترك معظم مقتنياتهم). ومع ذلك، لا بُدّ من التّأكيد على أن سَرقة الكتب والصور والأرشيفات لا تزال مستمرّة، وتكرّرت على نطاق بارز خلال حرب 1967، ثم في العام 1982 أثناءالغزو الإسرائيلي للبنان (سرقة أرشيف مركز أبحاث منظمة التحرير)، وفي العام 2001 عندما صودِر أرشيف ووثائق بيت الشرق في القدس، وصودِرت مقتنيات الأسرى و"أُحيلت" إلى الأرشيفات الإسرائيلية، على سبيل المِثال لا الحصر. يَكشفهذا النمط عن سياسة مُتّسقة وليس حوادثَ منعزلة، كانت تترافَق مع عمليات عسكرية كبرى عادةً، آخرها حرب الإبادة على قطاع غزة.
(2) ما هي الأرشيفات المَسروقة؟
تُقدّر بعض المصادر أن إسرائيل سَرَقت نحو 80,000 كتاب ومخطوطة فلسطينية منذ النكبة. في حين أن الأَرقام الدّقيقة لاتَزال محلّ جَدَل واستقصاء (إذ لا يُفصح المجرم عادة عن حجم جريمته)، إلا أن السرقة تمّت بشكل ممنهَج وواسع. نقول ممنهَجًا، لأنه خلال النكبة "رافق" مسؤولون من المكتبة الوطنية الإسرائيلية الجنود أثناء دخولهم منازل الفلسطينيين لجمع الكتب والمخطوطات، وذلك بهدف "أَرشَفتها" ونَقْلها إلى رفوف المكتبة الإسرائيلية. كذلك، نَصِفُها بأنها واسعة النطاق لأن التقارير تشير إلى سرقة نحو 30,000 كتاب من القدس وَحدَها، إضافة إلى نحو 30,000 كتاب آخر من حيفا ويافا وَحدَهما. لا يزال العديد من هذه الكتب سجينًا في زنازين الأرشيف الإسرائيلي ويحمل حروف "AP"- أي "ممتلَكات مَهجورة" (Abandoned Property). وبشكل عام، تشمل المواد المَضبوطةمجموعة واسعة من القِطع الأثريّة الثقافية: 1) الكتب والمخطوطات بما في ذلك الأعمال الأدبيّة النادرة والنصوص التاريخية، 2) أرشيفات مؤسسيّة مِن الصحف والمنظَمات الثقافية والمجموعات السياسية، 3) مجموعات فوتوغرافية توثّق الحياةالفلسطينية قبل عام 1948، 4) المستندات الشخصية والعائلية، بما في ذلك اليوميات والرسائل والشهادات، 5) أرشيفاتالأفلام والتسجيلات الصوتية، 6) الوثائق التاريخية المتعلّقة بملكية الأراضي وسجلات الممتلكات.
"وداعًا مَكتبتي… لقد هجرتُك مضطرًا لا مختارًا، كمن يُنتَزَع قلبه من صدره. كنتِ لي بيت الحكمة، ومرفأ الليل، وصُحبة السهر. لا أدري إن كنتِ باقية في مكانك أم صرتِ غَنيمة في يد الغزاة. لكني أعلم أن حِبرك يحمل آثار أنفاسي، وأنكِ شاهدة على أني كنتُ هنا".
خليل السكاكيني، في وداع مكتبته عام 1948
في مَشهد مُحزن، وَجَدت ابنتا خيل السكاكيني (هالة ودمية) في العام 1967 أجزاء من مكتبة والدهما في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، وعليها ملاحَظات بخطّ يده. لكن مكتبة السكاكيني لم تكن الوحيدة أو الأكبر؛ ثمة مفكرون فلسطينيون، وأدباء، ومهنيّون، ممن فقدوا مكتباتهم ومجلَّداتهم، أهمهم: عجاج نويهض، خليل بيدس، حنا سويدة، جورج سعيد، ميخائيل قطان، عارف حكمت النشاشيبي، هنري قطان، فرنسيس خياط وغيرهم.
(3)
أهميّة الاستيلاء على الأَرشيف: ما وَراء الأشياء المادّية
تُمثّل سَرقة الأرشيف الفلسطيني أكثر مِن مجرّد فُقدان موادَ مادية؛ فهي تنطوي على تجريد الفلسطينيين من أدلّة حيوية تؤرخ لوجودهم، وثقافتهم، ومجتمعهم قبل عام 1948 وبعده. إن سرقة المواد الثقافية الفلسطينية وتحويل الذاكرة الجماعية للأصلانيين إلى أرشيف يخضع لهيمنة المستوطنين الغزاة، شَكلٌ من أشكال "المَحو الثقافي" الذي يقيّد قدرة المجتمع الفلسطيني على رؤية نفسه في مرآة التاريخ. بل إن هذه السرقة تشوه هوية الفلسطينيين، وتفكّك سرديّتهم، وتجعلها رهينة بِيَد رقابة تتحكّم بها "أمينة الأرشيف الأشكنازية"، التي تَنتقي ما تريد أن تُبرزه من نصوص، وتُسكت نصوصاً أخرى في مسعى لتطويع التاريخ الفلسطيني للرواية الصهيونية. وبالتالي، فإن سرقة الأرشيف الفلسطيني ثم السيطرة عليه تؤدي إلى: 1) تعطيل الذاكرة الجماعيّة الفلسطينية وقطع استمراريتها التاريخية، 2) تمكين المؤسسات الإسرائيلية من احتكار توثيق الأحداث التاريخية، 3) فَرض سرديّة انتقائية للتاريخ عبر تحكم رقابي في الوصول إلى المصادر الأولية، 4) خلق فجوات في الأدلة تُعيق المطالبات المتعلقة بالأرض والممتلكات والحقوق.
(4)
سجل/"أشطب" أنا عربي: كيف نفهم سرقة الأرشيف الفلسطيني؟
عادةً ما يتم استخدام مفهوم "الأرشيف المَنزوع" (Displaced Archives) للإشارة إلى سرقة الأرشيف من أهله الأصليين، ماديًّا ورمزيًّا. هذا الفعل هو ضرب من الإبادة المعرفيّة (Epistemicide)، إذ يشير فوكو إلى أن المعرفة ليست حياديّة، بل مرتبطة بالسّلطة والعنف والإخضاع، وهذا ما تسميه آنا ستولر "الإخراس الاستعماري" (colonial aphasia) - وهو نوع من "فقدان الذاكرة" المفروض قسراً على الفلسطينيين. ربما لهذا السبب، يلعب "الأرشيف المَحكي" دورًا أساسيًّا في الثقافة الفلسطينية، إذ استبدل الفلسطيني الأرشيف المَسروق بالأغاني، والطقوس، والقصص المحكيّة، والتي لم تَعُد هامشية، بل تحوّلت إلى خطابات تَحمي الفلسطيني من "فقدان الذاكرة". لكن خلال العقدين الأخيرين، طوّر الفلسطينيون أَرشيفات بديلة لـ "لَمْلَمَة" ما تبقى من الذاكرة الاجتماعية وأَرشَفَتها بشكل حرّ (وهذا ضَرب من المقاومة)، دون أن يعني الأمر أنها بديل لما سُرق، وإنما، على الأقل، محاولة لإعادة الإمساك بِمِقود الذاكرة التاريخية. أهم هذه المحاولات هي: أرشيف المتحف الفلسطيني، أرشيف التاريخ الشفوي في الجامعة الأمريكية في بيروت، أرشيف التاريخ الاجتماعي في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أرشيف صور وأفلام اللاجئينالفلسطينيين لدى الأونروا، أرشيف مؤسسة رواق، أرشيف خزائن، وغيرها العديد.