القيمة وراء العدوانية في سنّ المراهقة

"إذا كان المجتمع في خطر، فهذا ليس بسبب عدوان الفرد، بل بسبب قمع العدوان الشخصي للأفراد"*

هذا البيان المتناقض هو لطبيب الأطفال والمحلل النفسي البريطاني دونالد وينيكوت. وهو من أهم مساهمات التحليل النفسي للوالدين في التعامل مع مرحلة المراهقة.

معروف أنه من أصعب مراحل النمو للأفراد وأكثرها عصفًا وصدامًا مع البيئة الخارجية المتمثلة بالوالدين هي مرحلة المراهقة. ففي هذه المرحلة الانتقالية، ينتقل المراهقون من الناحية العمرية من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد والبلوغ، يغادرون عالم السذاجة والبراءة ويدركون ذهنيًا معنى الفناء والموت، لذلك ينغمسون في تساؤلات وجودية عميقة حول هويتهم وماهيتهم وينشغلون في بناء ذواتهم وبلورة أفكارهم وقيمهم. من الناحية النفسية يمرون بمرحلة الانفصال عن الأهل وبناء فردانيتهم separation -individuation)) بهدف بناء استقلاليتهم النفسية. في كثير من الأحيان، تؤدي هذه التغيرات إلى الشعور بفقدان الطفل البريء وفقدان السيطرة عند الأهل وتراجع مكانتهم كمرجعية مركزية في العالم النفسي لابنهم أو بنتهم. بينما بفضل التطور الذهني عند المراهقين في هذه المرحلة، تتطور عندهم القدرة على التفكير المجرد والتفكير النقدي، القدرة على التخطيط والتمركز في الذات، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى انطواء المراهقين، تمردهم على ذويهم وقضاء أغلب وقتهم في غرفهم في البيت، إنغماسهم في تساؤلاتهم وتوسيع دائرة علاقاتهم مع أترابهم والاهتمام بالعالم الإفتراضي.

من الناحية الجسدية يمر المراهقون بتغييرات نمائية بيولوجية وهرمونية بوتيرة عالية، تجعلهم غرباء عن أنفسهم وكأنهم يعيشون في جسد غير جسدهم مما يزيد قلقهم. تشير الأبحاث أيضًا إلى أنه بسبب عدم اكتمال نمو الدماغ في هذه المرحلة، حيث يكتمل نمو الدماغ في سن 24 عامًا، يحتكم المراهقون لهرموناتهم وتعصف بهم مشاعرهم أكثر من التفكير العقلاني حيث يمرون بتقلبات مزاجية حادة وحساسية زائدة.

وتيرة هذه التغييرات المتتالية قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى صدامات بين المراهقين وذويهم ورغبة في التمرد عليهم وانتقادهم والتعبير بشكل عدواني عن رغباتهم ومواقفهم. وما تشير إليه أدبيات التحليل النفسي هو أن هذه الصدامات صحية للغاية ومهمة لتطوير القدرة عند المراهق على بناء شخصيته والتعبير عن نفسه، مما سيخدمه بالضرورة في علاقاته المستقبلية.

تشير الأبحاث إلى أن قمع الجوانب "العدوانية"  (Aggression) من قبل الأهل في فترة المراهقة، قد تولد عوارض جسدية ونفسية أصعب، مثلما عبرّت أمامي صبية في إحدى  الجلسات العلاجية: "كل تعبير قوي وحازم وصادق من قبلي، حتى بصورته العدوانية، أثار في البيئة المباشرة وخاصة عند والدي، رد فعل مرعبًا للغاية لدرجة أنني اضطررت إلى دفنه في أعماقي واضطررت إلى إيجاد طرق بديلة من خلال الإفراط في الأكل... وغالبًا ما أسبح في بحر من الخوف والشعور بالذنب والقلق والوحدة، وهي مشاعر لازمتني طوال حياتي كلما احتجت أن أعبر عن نفسي".

الإشارات إلى مفهوم "العدوانية" في أدبيات التحليل النفسي وفي عالم العلاج متنوعة للغاية. وجهة النظر السائدة تربط العدوان بالمشاعر السلبية، مثل العنف والغضب والكراهية، إما باعتباره دافعًا فطريًا ومدمرًا، أو كرد فعل على فشل بيئي. الموقف الذي سأقدمه في هذه المقالة هو موقف المحللين النفسيين الذين رأوا في العدوانية قوة فطرية تلعب دورًا مهمًا للغاية في تطوير شخصيتنا. سوف أدرج في هذا السياق وجهة نظر المحلل النفسي دونالد وينيكوت الذي نظر إلى العدوان من منظور النشاط والطاقة وكتعبير عن الحركة والحيوية.

يشير وينيكوت إلى العدوانية كقوة إيجابية، مثل العاطفة، وإلى كونها جزءًا من التعبير البدائي عن الحب. كما يرى العدوانية على أنها نار في دواخلنا، وهي الطاقة المحركة التي تجد تعبيرها في النشاط والشهية والحركة والعفوية والحب. حسب وينيكوت، العدوانية هي عبارة عن قوة بيولوجية فطرية ووجودها دليل على الحياة، لا يمكن إختزالها لأنها جزء من التجربة النفسية الانسانية وتساهم في التميز والإبداع والأصالة.

في الواقع، يمكن النظر إلى العدوانية كجزء من الليبيدو (طاقة الحياة)، والتي تدعم التعبير عن الذات الحقيقية وتتوق إلى التواصل مع البيئة والتلاقي مع العالم الخارجي - هذه هي القوة التي تدفع إلى الأمام، لتلبية احتياجات الفرد ورغباته، لإقامة اتصال مع العالم الخارجي ولكي يدرك ذاته. إنها أيضًا القدرة التي تساعد الفرد على إزالة عقبة ما أمامه وهي القدرة على الحزم والقدرة على التعبير عن الاحتياجات والرغبات بوضوح، فضلاً عن القوة التي تساعد في وضع الحدود والمطالبة بها، مما يساعد في حماية الفرد لذاته وسلامتها وتفرده وتماسكه النفسي. وثمة بُعد إضافي وصحي للعدوانية في حالة تهديد السلامة والحرية العاطفية والجسدية والاحترام النفسي، هو القدرة على التعبير عن الإحباط أو الغضب بشكل مباشر.

بعكس ما هو مقبول وتشَكَّل اجتماعيًا، فإن للقدرة على الحفاظ على العدوانية كقوة والتعبير عنها دورًا مهمًا في الحفاظ على العلاقات الطبيعية من التقارب والحميمية، في داخل الأسرة تحديدًا. فعندما يتم حظر التعبير عن الحركة العدوانية، أو قمعها بشكل حاد وقاسٍ، بشكل مباشر أو غير مباشر، فإما أن هذه القوة الدافعة ستنقلب ضد الذات وستتحول إسقاطاتها، بالتالي، نحو إنكار الذات، مثل الاكتئاب والقلق والشعور بالذنب والعار، وإما أنها سوف تتراكم وتختزن حتى يتم التعبير عنها بغضب، وحينها قد تظهر كقوة مدمرة، على شكل الكراهية أو العنف.

في هذا السياق وللتعامل مع مرحلة المراهقة المركبة والعاصفة، أطلق وينيكوت بيانًا شهيرًا ومتناقضًا يقول - بتصرف من كاتبة هذه المقال - "لكي يكون هذا ممكنًا، يجب على المراهق تدمير الوالدين. لكن على الوالدين أن لا يُدَمَّروا، بل البقاء على قيد الحياة". بمعنى، من أجل بناء شخصيتهم والشعور بحقيقتهم، يحتاج المراهقون إلى تدمير الحاوية (الأهل) للتأكد من عدم تدميرها. هذا الموقف المتناقض يصبح ممكنًا، إذا أدركنا وجود "مساحة ممكنة" او "حيز وسيط" Potential space)) (مصطلح مركزي لدى وينيكوت) بين الواقع الداخلي والواقع الخارجي، بين الواقع والخيال، بين المراهق وأهله. إن افتراض وجود مثل هذه المساحة يسمح بتدمير الأهل في القطب الخيالي من المساحة الممكنة عند المراهق، بينما في القطب الواقعي من المساحة الممكنة​​ "ينجو" الأهل من هذا التدمير. حينها يكون بمقدور المراهق التعبير عن غضبه وسخطه وتمرده تجاه أهله وتدميرهم في خياله دون أن يدمرهم في الواقع والحقيقة. بشكل متناقض، إنْ وعي الأهل لضرورة هذه الدينامية النفسية وصمدوا في هذه التجربة الصعبة، ومارسوا دورهم بشكل ناضج ونابع من حصانة داخلية، فسيكتسبون قيمتهم في نظر ابنهم/ ابنتهم.

بكلمات أبسط، يمكن للبيئة والأهل احتواء العدوان المدمر للمراهق دون تدميره، بل تحويله من عنصر مدمِّر إلى قوة نشطة إيجابية.  لذلك، ضمنًيا، إذا لم يتم إعطاء مكان للطاقة العدوانية بكل شدتها، أو إذا دُمِّر العدوان، فسيكون العدوان مدمرًا بالفعل.

ما يقترحه وينيكوت للأهل، في سياق بناء علاقتهم مع أبنائهم المراهقين، هو القدرة على تفعيل الحكمه، الليونة والصلابة في آن واحد. أن يتم فرض الحدود في الحالات القصوى ويتم غض النظر في حالات أقل خطورة. وأن يعي الأهل أن التعبير عن العدوانية هو ضرورة بيولوجية ونفسية للبقاء والتطور وهي تجربة يجب أن تتم تحت إشراف الأهل، دون التنازل عن سلطتهم الوالدية وعن موقعهم وحضورهم الكامل كعنوان في حياة أبنائهم وبناتهم. دون الترهل والانكماش من جهة، ودون الإفراط في سلطتهم وقمعهم، من جهة أخرى. حيث أن وجودهم وحضورهم المتين يعطي المراهق الشعور بالأمان وبأنه يمكنه أن يتوه ويثور ويتحطم وأن للوالدين القدرة على احتواء وتنظيم مشاعر أولادهم وتوجيههم لاحقًا.


* أود أن أشير إلى أهمية الفصل بين العدوانية والعنف والتأكيد على أن المقصود في العدوانية ليس العنف وارتكاب فعل متعمد أو غير متعمد فيه التسبب بأذى وضرر للآخرين أو للبيئة أو للشخص نفسه.

د. كوكب خوري

عاملة اجتماعيّة علاجيّة وباحثة في مجال الجندر، الأسرة، الثقافة والإبداع. بحثت ضمن رسالة الدكتوراة في "مدرسة الخدمة الاجتماعيّة في جامعة حيفا" المحور الجماليّ بصفته ركنًا أساسيًّا للتفكير في الوجود وتشكيله، من خلال الخلق والإبداع الفنّيّ، من منظور وتجربة المبدعات الفلسطينيّات في مجال الفنون البصريّة المعاصرة.

البريد الالكتروني: [email protected]

منيره زكور
مقال هام يستحق القراءة والتمعن به
الاثنين 19 حزيران 2023
شاركونا رأيكن.م