سُليمى، حُلُمٌ وُلِد في زُقاق، لكنّه اتَّسَعَت بِهِ "الطُّرُق"!

النشأة والبداية

في أحد أزقة بيت لحم القديمة، حيث تَتَشابك حجارة البيوت العتيقة مع نَبض الحياة اليوميّة، نشأت سُليمى رمضان تَحمِل في داخلها شغفًا لا حُدود له، ورغبة لا تَلين في التّغيير. كانت تُراقب مجتمعها، فترى شبابًا يبحثون عن فرصة ليشقّوا طريقهم، ونساء يسعَين جاهدات لبناء حياة كريمة لأنفسهن وأُسَرهن. كانت سُليمى تدرك أن الإمكانيات موجودة، لكنّ الفرص نادرة، وأن التّغيير لا يَحدث صُدفة، بل يحتاج إلى رؤية واضحة وعمل مستمر.

كَبُرت سُليمى وكَبُر معها هذا الشّغف، حتى أصبحت شابة تحمل على عاتقها مسؤولية التّغيير. دَرَست الاقتصاد والتنمية المجتمعية، ليس فقط من أَجل الحصول على شهادة، بل لأنها كانت تؤمن بأن المعرفة الحقيقية هي التي تُترجم إلى أفعال، وأن التنمية المستدامة تحتاج إلى حلول عمليّة تَدعم الأفراد ليبنوا مستقبلهم بأيديهم. لم تكن تسعى إلى وظيفة تقليدية، بل أرادت أن تخلق نموذجًا يغيّر حياة الناس من حولها، ويمنحهم الأدوات التي تساعدهم على تحقيق الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية.

"ابتكار": حُلُم يتحقّق

في العام 2018، قرّرت سُليمى أن تبدأ رحلتها الخاصة في التغيير، فأسّست "ابتكار للتمكين والريادة المجتمعيّة"، وهي مؤسسة تتجاوز حدود التّدريب التقليدي، حيث تجمَع بين التمكين الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، وتعزيز الصمود النفسي. لم يكن الطريق سهلًا، فقد واجهت تحديات عديدة، من نقص التّمويل إلى التساؤلات المجتمعيّة حول قدرة شابة على قيادة تغيير بهذا الحجم. لكنها كانت تؤمن بأن كلّ تحدٍّ هو فرصة للنمو، وأن التّغيير الحقيقي لا يتحقق إلا بالصبر والاستمرارية.

بدأت سُليمى بفكرة بسيطة: تمكين الأفراد مِن تحقيق الاستقلالية من خلال استثمار مهاراتهم، ومنحهم الفرصة والأدوات التي تُساعدهم على بناء مَشاريعهم الخاصة. لم تكن تريد أن يكون التّمكين مجرّد دعم مؤقت، بل تحولًا حقيقيًا يجعل المستفيدين أكثر وعيًا بقدراتهم، وأكثر قُدرة على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، وأكثر تأثيرًا في مجتمعاتهم.

الطريق إلى التّغيير

تحوّلت "ابتكار" من مجرّد مؤسسة إلى حركة تقود الأفراد نحو الاستقلال والنجاح. من خلال البرامج التدريبية وورش العمل، تعلّم مئات الشباب والنساء كيف يحوّلون أفكارهم ومهاراتهم إلى مشاريع اقتصادية واجتماعية تَضمن لهم مصَدر دَخل مستدامًا. لم يكن النجاح فقط في تحسين أوضاع المُستفيدين الاقتصادية، بل في إعادة تَشكيل دورهم داخل المجتمع، حيث أصبحوا أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات مستقلة.

لكن سُليمى أدركت أن التّمكين لا يقتصر على الدعم المالي فقط، بل يحتاج إلى بناء بيئة تعزّز الثقة بالنفس، وتوفّر شبكات دعم قويّة، ومساحات آمنة للنمو والتطوّر. لهذا، أطلقت برامج للدّعم النفسي والاجتماعي، حيث يجد المشاركون فرصة للتّعبير عن تحدّياتهم، ومشاركة تجاربهم، والتعلّم من بعضهم البعض، والعمل ضمن بيئة تشجّعهم على مواجهة العقبات بثبات.

لَحَظات لا تُنسى

من بين القِصص العديدة التي صَنَعَتها "ابتكار"، تَبرز قصّة سماح؛ أُمٌ لأربعة أطفال، وجدت نفسها المُعيلة الوحيدة لعائلتها بعد أن فَقَد زوجها عمله خلال الاضطرابات الأخيرة في فلسطين. لم تكن تمتَلك أيّ مَصدر دخل، ولم يكن أمامها خيار سوى البحث عن فرصة تُعيد إليها الأمل.

كانت سماح تمتلك موهِبة في صناعة الحلويات، لكنّها لم تكن تعرف كيف تبدأ مشروعًا خاصًا بها. عندما سَمِعت عن برنامج التّدريب على صناعة الحلويات المنزلية الذي تقدّمه "ابتكار"، قرّرت أن تخطو أولى خطواتها نَحو التّغيير. لم يكن التّدريب مجرّد تعليم تقنيّ، بل كان بداية رحلة شاملة من الإرشاد والتطوير.

حصلت سماح على ستة أشهر من التوجيه والمتابعة، تعلّمت خلالها كيفيّة إدارة مشروعها، والتخطيط المالي، والتسويق، والتغليف والتعبئة. لم تكن هذه مجرّد مهارات نظريّة، بل تلقت دعمًا عمليًا مكّنها من البدء فعليًا في مشروعها الخاص. ومع مرور الوقت، وبفضل الإرشاد المستمرّ من فريق "ابتكار"، تمكّنت من توسيع نطاق عملها وتأمين نقاط بيع لمنتجاتها في عدّة متاجر وسوبرماركت في بيت لحم.

اليوم، أصبحت سماح رائدة مشروع ناجح، قادرة على إعالة أُسرتها، وصاحبة قِصّة نجاح تُلهم نساءً أخريات للبحث عن فُرَصهن. نجاحها ليس انعكاسًا لمثابرتها فقط، بل أيضًا لشراكتها مع "ابتكار"، التي لم تقدّم لها مجرّد تدريب، بل بيئة داعمة ساعَدَتها على تحقيق طموحها.

"ابتكار": بناء اقتصاد اجتماعي مستدام

لم تقتصر إنجازات "ابتكار" على تَمكين الأفراد، بل توسّعت لتشمل إعادةَ هيكلة بيئة ريادة الأعمال الاجتماعية في فلسطين. ركّزت المؤسَّسة على خَلق شبكات تعاون بين المشاريع الصغيرة، ورَبْطِها بالأسواق، وتعزيز ريادة الأعمال البيئية والمستدامة، مما يضمن استدامة التأثير.

كما بدأت في تطوير شراكات استراتيجية مع منظمات محلية ودولية، مما أتاح فرصًا تنموية أوسع للشباب والنساء، وعزز من قدرة المشاريع الناشئة على الوصول إلى أسواق جديدة. أصبحت "ابتكار"، من خلال هذه المبادرات، نموذجًا لمنصّة متكاملة لا تقتصر على التّمكين الفَردي، بل تعمل على بناء مجتمعات اقتصادية قويّة، وتعزيز ريادة الأعمال المُستدامة، وتمكين الأفراد من المُساهَمة الفاعلة في اقتصاد أكثر عدالة واستقرارًا.

مِن التّمكين إلى التّغيير المُستدام

اليوم، وبعد سنوات مِن العمل والتحدّيات، أصبحت "ابتكار" نموذجًا فلسطينيًا لما يُمْكن أن يَحدث عندما يحصل الأفراد على الفرصة المناسبة. لم يعد الأمر يتعلّق فقط بتوفير تدريب أو دعم مالي، بل بإعادة تشكيل مفهوم التّمكين، وبناء بيئة تحتضن رُوّاد الأعمال، وتعزز ثقافة الاستقلاليّة والنّمو.

لم تقتصر إنجازات "ابتكار" على بيت لحم فقط، بل امتدت إلى مناطق أخرى في فلسطين، حيث توسّعت المؤسسة للوصول إلى المزيد من الأفراد الباحثين عن فُرصة، وتعزيز دورهم في المشهد الاقتصادي والاجتماعي. كما بدأت في التعاون مع منظمات دولية لتبادل الخبرات، وتوفير فرص أوسع للمشاريع الناشئة، وخلق بيئة تدعم استمرارية النجاح.

الرُؤية المستقبليّة

لم تكن سُليمى مجرد مؤسِّسةٍ لمنظمة، بل كانت قصّة تغيير بدأت بِحُلم صَغير في بيت لحم، وتحوّلت إلى حركة تقود الأفراد نحو مستقبل أكثر استقلالية وقوة. لكنّها لم تتوقف عند ذلك، بل تواصل تطوير "ابتكار" لتشمل دعم ريادة الأعمال الخضراء والمشاريع المستدامة، مما يعزز من دور الأفراد في حماية البيئة والاقتصاد المحلي في آن واحد.

ورغم كلّ ما حققته، ما زالت تؤمن أن الطريق لم ينتهِ بعد، وأن هناك دائمًا شخصًا آخر يحتاج إلى فرصة، ويدًا تمتَد له لتساعده على النهوض. ليس التّغيير مجرّد لحظة، بل هو عملية مستمرة، تبدأ من فرد، وتصل إلى مجتمع بأكمله. لهذا، تعمل سُليمى على تطوير نموذج "ابتكار" ليصبح منصّة وطنية لدعم الأفراد الفلسطينيين، وتوفير موارد وإمكانات تساعدهم على تحقيق أحلامهم.

الخاتمة

اليوم، عندما تمشي سُليمى في شوارع بيت لحم، لم تعد ترى فقط أفرادًا يبحثون عن فرصة، بل ترى شبابًا ونساءً يَصنعون، ويَنجحون، ويغيّرون واقعهم. ترى سماح وأحمد وآخرين وجدوا طريقهم إلى النجاح، وتحوّلوا من باحثين عن الفرصة إلى صانعيها.

والأهم من ذلك، ترى أن حُلُمَها الذي بدأ في زقاق صغير، أصبحَ حقيقة تَمتد لتشمل مئات الأفراد في فلسطين. ومع خطواتها الواثقة، تستمر رحلتها، لأن التّغيير الحقيقي ليس مجرّد مشروع، بل هو إرادة تتجدد كلّ يوم.

سُليمى رمضان

مؤسسة ومديرة جمعية ابتكار .. ناشطة مجتمعية في حقوق الشباب والمرأة.

رأيك يهمنا