اللُّغة وحُمولَتُها: بَينَ "النَّجَاة" و"المُنَاجَاة"

"النَّجاة" هي وَصف لعملية طارئة سَريعة للعبور مِن الخَطَر إلى الطمأنينة المؤقَّتة، التي بإمكانها أن تَجِد وضعًا طارئًا جديدًا بَعد لَحظات، فنحن نَنجو من خطَر آني طرأ على حياتنا، لكن عُبور هذا الخطر لا يَضمن بالضرورة الأمان والاستقرار واستمرار الحَياة السابقة، وبالرغم من ذلك نُكثر استعمالها بمعنى أن الناجية/ الناجي قد عبروا إلى برّ الأمان. لعلّ ذلك بسبب بحثنا نحن عن بعض الطمأنينة "الواهمة"، ولو كان ذلك من دون وَعي منّا ومن منطلَق إيجابي خيّر واهتمام بـ "الناجين والناجيات" ولتخفيف ألم ضمائرنا.
هَل مِن ناجين في فَضاء الإِبادَة!
لم تكن الإبادة أول أوجاع قطاع غزة، لكنّ أَحدَثَ الآلام أَوجَعُها! على مدى ما يقارب السنة ونصف السنة، لَم يتوقّف الأَلم والخَطَر والهَلَع يهزّ عباب السماء، يلفّه أَنينُ من بَقِيَت في صدورهم أَنفاسٌ، من نساء ورجال وأطفال، شيبٍ وشبابٍ، شهودٍ على المجازر..
أُمّهات ثكالى فقدن أبناءَهن وبناتهن وأجنتهن، أرامِل فارقن أزواجهن، أيتام فَقَدن دفء الأم وحضن الأب، أحياء بلا أطراف، وأُخريات اجتثّت أرحامُهُن أو فُقئت مُقَلهن وتشوّهت وجوههن وأجسادهن من بطش استعمار متعطش للدماء.
أسيراتٌ وأسرى خلف القضبان وخارجها، جرحى، مخفيّون قَسرًا، لا أَحَد يَعرف عن مصائرهم، أجساد وأشلاء تحت الأنقاض ذابت فاختَلَطت بتراب البلد والحيّ والبيت، وبات من المُحال التعرّف عليها.. شهداء بلا أسماء ولا قبور ولا شواهد..
عائلاتٌ بأكملها مُسِحَت من السجلّات ولم يَبْق لها أَثَر، آلاف المَنازل دُمّرَت بكل ما فيها من ذكريات؛ وما أدراكَ ما الذكريات.. أطفال مشرّدون لا يَعرفون أهلهم وأسماءَهم وعائلاتهم.. وآخرون يَدْرُجون أولى خطواتهم يتجوّلون حفاة بين الأشلاء البشريّة المُبَعثرة في الأرجاء، يحملون أوانيَ صدئة يقفون في الطوابير آملين أن يعودوا إلى خيامهم بما يسدّ رَمَقَهم..
هَل لَنا أَن نَنْعَت أَيًّا مِمَن أَتينا على ذِكْرِهم بالناجيات/ين؟؟
إذا كان الناجي أو الناجية -بالمعنى المستَعمَل الدّارج- هو مَن يَخرج من الحرب حيًّا، فهل انتهت الحرب! وإن انتهت، هل استمرّت الحياة؟ وكيف هي هذه الحياة عدا عن كونها صدورًا تعلو بشهيق وزفير؟ هل يَخرج حقًّا أحد سليمًا؟
يوحي مُصطَلح "النجاة" وكأَنّ التّجربة انتهت، وكأَنّ من خرج حيًا قد تجاوز المِحنة وأصبح في أمان. لكنه في الحقيقة تعبيرٌ مضلِّل، لأنه يتجاهل الآثار العميقة المحفورة أبدًا في نفوس مَن خاضوا الحرب، سواء كانت صَدَمات نفسية، أو تشوّهات جسدية، فقدانًا، أو إحساسًا ملازمًا بعدم الأمان.
وإن اعتمدنا، مثلًا، تَعبير "مَن بَقوا على قَيد الحياة" جسديًا، كون النجاة تَحمِل، ضمنيًّا، فكرة اكتمال مرحلة المعاناة، فهو أيضًا إشكاليٌّ لأنه يَختزل التجربة في البقاء البيولوجي، متجاهلًا الأبعاد النفسية والعاطفية والاجتماعية لما مَرَّ به هؤلاء الأشخاص. وربما يحمل في طياته نَوعًا من الحتمية أو الجمود، وكأَنَ الحياة بعد الحرب مجرّد استمرار، دون الاعتراف بالتغيّرات العَميقَة التي حَدَثَت. أيُسَمى ناجيًا مَن بَقي جَسدًا أو بعضًا مِن جَسَد؟ ماذا عن النّدوب المَحفورة في نفوس الغزّيات والغزّيين؟ ماذا عن كَسْر الرّوح وسَرِقة الأَمان وثِقَل الفُقدان؟ ماذا عن الصَدَمات؟ ماذا عن الأهوال العالِقة في الأذهان والقُلوب؟ وهل نعتَبِر، على سبيل المثال، من نجا عام 1948 ناجيًا اطمئنَّ قلبُه واستعاد روحَه واستمر بحياة طبيعية!! أو أنه وَصْف يكبّد الضحايا الحيّة عبئًا إضافيًّا، وكأنهم مطالبون بالامتنان والاتّسام بالقوة لمجرّد أنّهم لم يموتوا، بينما هم لا يزالون عالقين في آثار التجربة.
حَمْلَقت طويلًا بعين لا يمكِنها التنكّر لذلك الألم الذي لا يَمحوه زمن، باحثة عن تعبير أو مُصطَلَح يصف الأجساد التي لم تَطَلها جرّافات الإبادة وقذائفها فلم أجِد. لكن حتمًا لا يمكنني اللجوء إلى مشتقات "النجاة" لأقول إنهم من الناجين، وأضيف ظلمًا واستصغارًا على الألم الذي عايشوه، أمام شاشات العالم التي تنكّرت له، والآلام التي لا تَزال ولن تَزول.
تُعَدُّ اللغة والمُصطلحات المُختارة وترويجها أَحَد أهمّ أدوات السلطة للتحكم بالآخرين، ولا يغيب عن أحد أهميتها في السياسة، وبالتالي في "التعليم/ الترويض" وزرع الأفكار والإيمانات وفقًا لما تراه القوّة الحاكمة ووفقًا لما يَخدِمها. وفي سياق حياتنا الحاليّة التي لا تتوقّف فيها الحروب والإبادة والاعتداءات والظُلم على أشكاله، ومع تَسارع الأَحداث ووجوب سُرعة الردّ والتفسير والإعلان مِن قِبَل وسائل الإعلام على أَشكالها، يتناول الشعب المصطلحات نفسها التي تعمل، في كثير من الأحيان، ضدّه، ويروِّج لها معتقدًا بأنه يشرَح حاله ويعبّر عن فكره الخاص باستقلالية.
يتمّ التّرويج لمفهوم النجاة، ومشتَقّاته، بتسطيح وتسخيف يخدم سرديّات معيّنة، سواء سياسية أو اجتماعية، لا تعكس الواقع. سرديات تتعامل مع التّسميات على أنها مجرّد كلمات عابرة أو مسائل لغوية أدبية، بتجاهل تام لأهميتها كبوصلة توجّه فهم الواقع والتفكير فيه والتّعامل معه، خاصة في القضايا التي تَمسّ الضحايا والمتضررين من الحروب. بل وتَضرِب بعرض الحائط الحاجة الماسّة لتعريف حقيقي أو تشخيص عميق لحالة من بَقِي حيًّا جسديًّا بعد الحرب، حاجة تتجاوز الدّعم النّفسي والعاطفي، بل تسلّط الضّوء على مسؤولية المجتمع في فهْم حالة "الباقين" والاستجابة لها بحساسيّة ووعي. في حين أن المجتمع المتلقّي لهذه السرديات، يريد أن يرى "ناجين" لأن ذلك يُعطي إحساسًا بالنهاية، والقدرة على التقدّم، غافلًا أو مستغفلًا عن أن من مرّوا بالحرب قد لا يشعرون أبدًا بأنهم "نَجَوا"، بل بأنهم عالقون في تجربة لم تنتهِ حتى لو توقّفت المعارك.
ولكن، كيف يمكِننا إذن أن نُعيد صياغة المفاهيم، أو نُعيد اختيارها، بحيث تَعكِس الحقيقة وتكون أكثر دعمًا لهم ولنا؟ إذا لم يكن هناك "ناجون" بالمعنى الذي تفرضه اللغة السائدة، والمُعدّة مسبقًا، فكيف يُمكن إذن صياغة سياسات دعم أكثر واقعية؟ وكيف يُمكن للّغة أن تعكس حقيقة التجربة دون تلطيفها أو تجميلها أو اختزالها؟
تَفكيك المُصطلح ليس مجرّد نِقاش لُغوي، بل توعويّ عَميق وطويل الأَمد يُعنى بإدراك المتحدّث، الواصف للحال وعلاقته به ومسؤوليته تجاهَه، كما يُعنى بحماية مَن مرّوا بهذه التجارب من خلال رَفضِهم ورَفضِنا إجبارهم على التكيّف مع سرديّات لا تمثّلُهم. لا أَحد "يَنجو" مِن الحرب، بل يعيش معها بأشكال مختلفة، وبعضهم قد لا يجد طريقًا للعيش أصلًا. كما ويوضح للمجتمع بدقّة صورةَ وتفاصيل محيطه، ويُتيح له التّفكير وإدراك الحياة التي يعيشها حاليًا، وأبعادها مستقبلًا.
كُلّنا يَعرف أن الدّعم النفسي الذي يتلقاه المتَضرّر مِن مُعالِج نَفسي لا يكفي وَحدَه لتحسين حالته، بل يَحتاج إلى حساسيّة عالية من بيئته ومجتمعه ليسير في طريق التّعافي. وعليه، يجب أن يكون العَمَل على إيجاد مصطلحات أكثر دقّة جزءًا من مشروع أوسع لمساءَلة الخِطاب السائد، وأُصوله ومخترعيه وأهدافه في ما يتعلّق بالحرب وتبعاتها كما بالجرائم المجتمعيّة كافة. وأن يتم تطبيق هذا الطَرح في كافة المجالات مثل: الدعم النفسي والعاطفي، والتربية، والتعليم وبالضرورة الإعلام، للارتقاء بوعي الجميع، مجتمعات وجماعات وأفراد ومؤسسات، لحالة "أحياء ما بَعد الحرب".
ومِن هُنا نَقِف أَمام الضَرورات
الحاجة إلى إعادة تعريف "النجاة" بحيث تَعكِس عملية مستمرة، وأنها ليست نقطة نهاية معاناة.
الحاجة إلى التّداول بلغة تشبِهُنا، لغة مستقلّة حرّة تصِف تجاربنا بواقعية وصدقن وتعمل على إنتاج الخطاب وامتلاكه وتذويته، سيما وأننا لسنا في موقع المتجبّر المتحكِّم الذي يَسعى إلى إخضاع شعب، بل نحن هذا الشعب الذي يبحث عن لسان حاله.
الحاجة لخطاب إعلامي أكثر التصاقًا بحاجات مجتمعه وهمومه وقدراته، وبالتالي يمارس الإعلام دوره في التّثقيف ورفع الثّقة والوعي على طريق التّعافي.
الحاجة إلى الوصول لتوافق بين المؤسسات والمجموعات والمختصين في التعامل مع متضرّري الحرب، وعدم الانزلاق في فخّ توصيفهم وكأنّهم مجرّد أرقام في الإحصائيات، والعمل على تحمل المسؤولية السياسية والاجتماعية بشكل جماعي.
مَربط الفَرَس: نَجاتُنا في التحامِنا.
الصورة: للمصوّر - الصحفي بلال خالد.
