القدس في الوجدان المسيحيّ الفلسطينيّ
ننطلق من القدس، لِما لها من أهمية دينية تاريخية، تشكّل مصدر إلهام روحي لجميع الديانات التوحيدية الثلاث، وتدخل في معادلة تكوينها الثقافي وهويّتها الحضارية والتاريخية، لذا باستطاعتها أن تكون الجامِع والإطار الذي تنطلق منه القوى العربية لرفض هدر الحقوق التاريخية للفلسطينيين في أرضهم ومقدّساتهم، وهذا مطلوب من المسيحيين والمسلمين على حد سواء.
في الأساس، تنظر المسيحية بمختلف مذاهبها إلى القدس على أنها "مدينة الرب" لأنها المدينة التي شهدت الأحداث الأكثر أهمية في حياة السيّد المسيح وقيامته؛ فقد ارتبط اسم القدس في الإنجيل بمحطات أساسية في حياة يسوع المسيح، فقد أخذ والدا يسوع – الطفل إلى المعبد المقدسي "ليقدّماه إلى الرب"، وتحادث الطفل ذو الاثنا عشر عاماً مع علماء الدين في المعبد، وارتبطت في هذه المدينة بمحطات آلامه الكبرى ودرب جلجلته، وقيامته. إذاً، في الفكر المسيحي ما عادت القدس مدينة أرضية، بل سماوية، فيها تكوّنت أول كنيسة مسيحية، وكانت مكاناً برزت فيه أولى دعوات الرسل للتبشير بالله واستشهاد أول مسيحي.
وبالرغم من هذه الأهمية الدينية، يختلف مسيحيو المشرق عن المسيحيين الغربيين في النظرة إلى القدس ليس من منطلق ديني، بل من منطلق سياسي قومي، فالقدس أو "أمّ الكنائس المسيحية" هي مدينة عربية بامتياز بالنسبة للكنائس الشرقية، أهلها عرب وجذورها عربية بالرغم من كل الادّعاءات التي حاولت تشويه صورة المدينة منذ أقدم العصور.
تُعتبر قصيدة "زهرة المدائن" للأخوين عاصي ومنصور رحباني – التي غنتها فيروز، وكان لها صدى كبير في الشارع العربي من أكثر القصائد التي قيلت في القدس – قربًا إلى الوجدان العربي- والتي جاء فيها:
لأجلك يا مدينة الصلاة ... أصلي
لأجلك يا بهية المساكن... يا زهرة المدائن... يا قدس... يا قدس... يا قدس
يا مدينة الصلاة ... أصلي
عيوننا إليك ترحل كل يوم تجـول في أروقـة المعابد
تعانق الكنائـس القديمـة وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى السماء
ويبدو أنّ قصيدة زهرة المدائن كانت ردًّا على سيرورة القصيدة العبريّة المغنّاة: "أورشليم من ذهب (JERUSALEM of GOLD) للشاعر اليهودي (نعومي شيمر) وللنص علاقة بالديانة اليهوديّة والموروث اليهوديّ في التوراة وطقوس اليهود في الزواج، ورؤية اليهود للقدس، ومكانتها في نفوسهم، فهم يعنون بالقدس من ذهب: تاج الزواج أي إكليل الزواج الذي يوضع على رأس العروس عند اليهود، وقد ربط الشاعر بين سور القدس وبين إكليل الزواج المصنوع من الذهب على سبيل الاستعارة.
وجاءت القصيدة "القدس" لنزار قباني على غرار قصيدة زهرة المدائن للأخوين رحباني من حيث اللغة الشعريّة، والإحساس بالمكان، والبحث عن الخلاص واللجوء إلى الرموز الدينيّة لتصوير المأساة وقد برع الشاعر في نقل الأحاسيس والمشاعر، ووصف كلّ ماله علاقة بالقدس كمكانٍ له خصوصيّته، من ناحية تاريخيّة ودينيّة، وسياسيّة، وحضاريّة. يقول فيها:
بكيتُ حتى انتهت الدموع صلَّيتُ.. حتى ذابت الشموع
ركعتُ.. حتى ملَّني الركوع سألت عن محمد فيك، وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
يا قدس يا مدينة الأحزان يا دمعة كبيرة تجول في الأجفان
من يوقف العدوان عليك يا لؤلؤة الأديان! يا قدس يا مدينتي
يا قدس يا حبيبتي
نَظَرَ الشعراء إلى القدس باعتبارها المدينة الحلم والرمز والمعادل الموضوعي والهوية كفكرة الوطن والدين، الذي يترامي بظلاله على كل شيء. فبعد أن خسرنا القدس إثر هزيمة العرب الكبرى، ارتبط حضورها في يومياتنا المراهقة ببندقية المقاومة والأغنية الثوريّة والثياب المبرقعة والكوفيّة الفلسطينيّة، وحلَّت صورة قبّة مسجد الصخرة الذهبيّة مكان الأماكن المسيحيّة في ذاكرتنا دون أن تلغيها، فقد كنت أرى أنّ الوصول إلى هذه القبة يشبه الوصول إلى كنيسة القيامة، ولا بدّ من عبور طريق المقاومة للوصول إلى المكانين.
أخيرًا، لا بدّ من التذكير بأنّ قضية القدس كانت مادةً للتجارة منذ القرن الحادي عشر مع حملات الإفرنجية (الحروب الصليبيّة) التي رفعت شعارات حماية قبر المسيح، ولكنّها في الواقع كانت حروبًا استيطانية تمّت تحت شعاراتٍ دينيّة. في فيلم مملكة السماء (Kingdom of Heaven) وهو من بطولة أورلاندو بلوم (باليان)، الحدّاد الأوروبيّ الصليبيّ، الذي تولَّى الدفاع عن القدس في مواجهة جيش المسلمين، يسأل غسان مسعود (صلاح الدين الأيوبي): ماذا تعني لك القدس؟ فيرد صلاح الدين: لا شيء وكلّ شيء! القدس الآن تعني بالنسبة لي، كما كانت تعني بالنسبة لصلاح الدين: لا شيء وكلّ شيء.
ذات يوم، وردًا بانفعالٍ على مذيعٍ في التلفزيون السوري كان يتحدّث عن كرامة القدس ومكانتِها عند المسلمين قبل المسيحيّين… وقد أكّد ذلك واصفًا إيّاها بأنّها ثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين، بما يشير عند السامع عن تدني منزلتها عند المسيحيّين!!! أجاب الأديب الكبير (اللبناني السوري) ميخائيل نعيمة ابن دار المعلّمين في ناصرة فلسطين التابعة للجمعيّة الإمبراطوريّة الفلسطينيّة الأرثوذكسيّة الروسيّة: "يا حبيبي، إنْ كان للمسلمين حرمين وتعتبرون في إيمانكم القدس ثالثهما، فأنا ومن هنا أؤكِّد لك أن ليس للمسيحيّين في كلّ العالم إلاّ القدس؛ فهي كعبتهم الوحيدة، وهي بوصلتهم، وهي موطن مسيحهم السيّد المسيح له المجد وهي قدس الأقداس وإليها يتجهون…".
الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى
راهبٌ مخلّصيّ، من مواليد مدينة بيت ساحور في فلسطين. دكتور في لاهوت الكتاب المقدّس، وباحثٌ في شؤون المسيحيّة المشرقيّة (والعربيّة). ألّف أبو سعدى العديد من الكتب التاريخيّة، والكنسيّة، والروحيّة، والجيوسياسيّة. يشغل حاليًا منصب الرئيس الرهبانيّ للرهبانيّة المخلّصيّة في الأراضي المقدّسة ورئيس طائفة الروم الملكيّين الكاثوليك في حيفا