متلازمة الفوضى المزمنة: قراءة في صدمة المجتمع الفلسطيني بمفاهيم نفسية، اجتماعية وسياسية

أحدث صباح السابع من أكتوبر الأخير فارقًا في بسط واقع سياسي واجتماعي جديد في الوعي الإسرائيلي، ولكن من الصعب على الفلسطيني تحديد نقطة بداية لأزماته النفسية والاجتماعية المنبثقة عن الواقع السياسي المركب الممتد جيلاً بعد جيل. ذلك أن المجتمع الفلسطيني يعيش داخل أزمة تراكمية، ما بين هدنة وحرب، لها في تشكيل نفس الفلسطيني أعظم أثر. 

في هذه المقالة سأتطرق لتعريف الصدمة النفسية المزمنة بمفاهيم اجتماعية وسياسية لفهم ردود الفعل المختلفة لدى أفراد مجتمعنا: الوقوف عند مسبباتها وإدراك أبعادها لضرورة احتوائها ومواجهتها بشكل سليم. 

فإذا، ما هي الصدمة النفسية المزمنة وكيف ترتبط بالواقع الفلسطيني؟ 

تُعرّف الصدمة النفسية على أنها رد الفعل الذي يحيط بالنفس بعد مواجهة حدث حياتي مسّ بسلامة الجسد والنفس أو بسلامة الأشخاص المحيطين بنا، مما أدى لمواجهة مشاعر سلبية قوية. وفي حين يكون تأثير ذلك النوع من الأحداث على حياة الفرد أو الجماعة بظهور حالات من الهلع والفزع، بل والهيجان العاطفي، فإن ردود الفعل التي قد نراها لتراكم أحداث صادمة، مثل الحرب المستمرة هذه، قد يتسم بالخدر، الانقطاع والامتناع عن المواجهة العاطفية والحسية. ذلك ما يحصل غالبًا عندما نتحدث عن الصدمة النفسية المزمنة.

وحيث أن قوام الصدمة يعتمد على التعرض لمشاعر قوية من قلة الحيلة، فقدان السيطرة على النفس وسلامة الجسد والخوف من الأذى الشديد فما مثل الحرب قدرة على تعريضنا لمثل هذه الحالة من الفزع وانقطاع انسيابية الحياة، بل وتهديدها بشكل مباشر وغير مباشر. في الحرب الدائرة هذه، هدنة كانت الفترة أم عراكًا، يتعرض الفلسطيني كفرد وكجماعة للإيذاء لمجرد كونه فلسطينيًّا كونه يؤدي بمنظور السلطة دور الحاجة العنيفة المنكرة التي لا ترقى للحوار أو الصدام، بل للتحكم والإذلال. بذلك فإن الفلسطيني يتعامل منذ سنين عديدة مع مشاعر متطرفة من الإنكار والإهانة إلى جانب الخوف الحقيقي على أمانه الشخصي والجماعي. 

لكن كيف يحدث ذلك؟ وما هو تأثيره على الفرد والمجتمع؟ 

لكي نفهم تأثير الصدمة علينا سنقف عند ردود الفعل النفسية المختلفة التي قد نراها لدى تعرضنا لأزمة أو حدث صادم: 

  • المواجهة العاطفية: وهي قدرة الشخص على مواجهة مشاعره، التعبير عنها وتفسيرها دون المس بأدائه الحياتي وقدرته على الموازنة بين العاطفة والإدراك. 

  • الهيجان العاطفي: وهي عبارة عن مجموعة ردود الفعل التي تعبر عن مواجهة الشخص لمشاعره وتعامله معها وجها لوجه. وتشمل الهيجان الجسدي، نوبات البكاء، الغضب، العدوانية، صعوبات نوم والارتباك. 

  • للوهلة الأولى نرى في هذه المجموعة أشخاصًا فعالين في مواجهة الأزمة التي أحاطت بهم فنجدهم على دراية بما يحيط بهم ويحاولون التأثير والإبقاء على تأثرهم بالحدث الصادم محاولة منهم للسيطرة على الأمور. لكن من المهم الانتباه إلى أن هؤلاء، من الأطفال والبالغين، هم الأكثر عرضة لنوبات الهلع كونهم متعطشين للشعور بالسيطرة على واقعهم. وبينما هو العامل الأكبر في تطور الهلع فهو الهدف الأصعب والأبعد منالية في الحرب عمومًا وفي حرب مستمرة لا أفق لنهايتها على وجه الخصوص. 

  • الاختراق العاطفي: وهو رد فعل نفسي يتسم بالتعامل مع تكرار ذكريات طفيلية للحدث، ظهور الكوابيس والذكريات المتقطعة. وعادة ما نرى رد الفعل هذا لدى التعرض لصدمة قوية أدت لضعضعة التسلسل المنطقي لأحداث حياتية ولفقدان الشعور بالأمان على الحياة، وبالذات لدى أشخاص تعرضوا بشكل مباشر لحدث أو أحداث صادمة اشتملت الشعور بالعجز وفقدان القدرة على حماية الفرد لنفسه أو لأحبائه. 

  • الامتناع: وهو رد فعل نفسي يتسم بمحاولة الامتناع عن الشعور والتفكير بالحدث الصادم، الخدر، السلبية والانطوائية. وعلى الرغم أن هذا النوع من ردود الفعل قد يساعد الشخص على تخطي الأزمة على المدى القريب إلا أنه يعتبر ذو تأثير سلبي على النفس على المدى البعيد. وقد يتطور رد الفعل هذا عادة لدى الأشخاص التي لم تتلق تجاوبًا إيجابيًّا مع مشاعرها في صغرها فتعلمت أنه من الأفضل لها الامتناع عن مواجهة مشاعرها، بل وتطوير ذلك للخدر تجاهها وتجاه الحياة عمومًا. 

  • الانقطاع: وهو درجة أقصى من الامتناع تتسم بالانفصال عن الشعور وانعدام الإدراك للواقع وللنفس، التجمد والنسيان الجزئي أو الكلي. ويحدث ذلك لمساندة النفس على استيعاب التناقضات والأزمات في العادة. في الأزمات نرى أن النفس تقوم باستخدام هذه الآلية للحماية من الانهيار جراء تعرضها لصدمة لا يمكن استيعاب هولها. 

وبينما تشكل الأقسام الثلاث الأولى الفئة الفعالة المجلجلة أصواتها بين حزن وغضب وتظاهر وتعبير فإنه لدى تفكيري بالممتنعين من أبناء المجتمع الفلسطيني المتجاهلين للحرب وأهوالها يتناهى إلى ذهني الغضب تجاههم كمن باعوا الانتماء والشعور الجماعي. ولست هنا في صدد التبرير الاجتماعي، بل التفسير النفسي بأن لكل رد فعل من المذكورة أعلاه تاريخ شخصي وجماعي أدى لتطوره لدى الفرد. فعلى صعيد الصحة النفسية للفرد والجماعة نريد أن نرى ازديادًا في المواجهة العاطفية وتقليلا من ردود الفعل الأخرى لما لها من تأثير سلبي على الفرد والمجتمع على المدى القريب والبعيد. 

وإن هذه ليست بالمهمة السهلة بالذات في ظل واقع عدم السيطرة وقلة الحيلة المزمنين الواقعين على كاهل الفلسطيني التي يجابه الصراع السياسي الفلسطيني - الإسرائيلي الذي لا يؤثر على سلم أولويات المجتمع الفلسطيني في الاهتمام بنفسه كمجتمع فحسب، وإنما يتخطى ذلك ليصبح جزءًا من أوجه العنصرية التي تتبعها الدولة بكل ما يخص إنكار الفلسطيني جملا وتفصيلا وخفضه إلى مستوى المحاصر المُباد، إلى جانب تهميش قضايا فلسطيني الداخل وتفكيكهم عن مجتمعهم الأكبر وبذلك تحقيق أولى مسببات التفكك النفسي والاجتماعي لديهم.

لا يخفى على أحد، على سبيل المثال، أن مسببات الجريمة وظهورها بهذه الحدة هو نتيجة عملية تراكمية لآثار هذه المسببات على مجتمعنا الموجود بحالة فراغ عميقة لجأت بعض فئاتها لعالم الجريمة والعنف لربما لإعادة الشعور بالسيطرة والقدرة على التأثير ولو بشكل سلبي وإجرامي. إضافة لذلك، فإن فوضى مشاعر الذنب، التخبط، التوتّر والخوف المزمن إلى جانب التعامل مع الإسكات الممنهج قد تؤدي تطور الأزمة النفسية لصدمة عنيدة عميقة. 

ومع صعوبة الأمر وتركيبته المعقدة أود أن أنهي هذه المقالة ببعض الطرائق التي قد تساعدنا لتفادي تفاقم ردود الفعل هذه نفسيًّا واجتماعيًّا لأنفسنا ولمن حولنا: 

أولا: توفير الدعم العاطفي، التواصل وإعادة الشعور بالانتماء

إن التعبير عن الالتزام بالمساعدة وتقدير مشاعر وردود الفعل المختلفة لمن حولنا يعتبر دعمًا كبيرًا في ظل الأزمة المركبة، الهلع واستمرار الشعور بالخطر، الخوف والتشتت النفسي والاجتماعي. لذا من المهم التشديد على منح الدعم وطلبه لإعادة الشعور بالسيطرة على النفس. كذلك فإن توفير الانتماء الجماعي يشكل عامود أساس في دعم الصحة النفسية ولإعادة تشكيل التلاحم المجتمعي والشعبي.  

ثانيًا: طرق للسيطرة على حالة الهلع ولاسترجاع الشعور بالمقدرة 

لصياغة الحالة العاطفية على مسبباتها وأبعادها أثر كبير في استعادة السيطرة على النفس ويساعدنا بتحديد وجهتنا وطريقة المساعدة التي نحتاجها. لذا من المهم العمل على تمييز حالات الهلع وأعراضها وتهدئتها عن طريق استعادة الشعور باللحظة الآنية. إضافة لذلك فإنه من المهم: 

ثالثًا: توثيق الحدث  

إن إحدى معيقات تخطي الأزمة ترتبط بعدم القدرة على التعبير عنها إما بسبب منظومة الإسكات المتبعة ضد الفلسطينيين وإما لأسباب فردية نفسية. لذا فإن منح مساحة للتعبير بشكل حر ودون عقبات ومن ثم تكرار وصف الحدث وتوثيقه يمنح الشعور بالتعاطف، ترتيب الذاكرة ومنح الشعور بالأمان. كذلك فإنه يعزز الشعور بالانتماء والارتباط بالجذور. 

ختامًا، فإنه من المهم التعامل مع كل شعور بقبول، الحرص على عدم إصدار الأحكام ومحاولة منح وتلقي الدعم ممن حولنا لما في ذلك من الأثر الداعم على المدى الشخصي القريب من جهة والأثر التلاحمي على المدى المجتمعي البعيد. 

ملاك فروجه

معالجة عيادية مختصة بالصدمات وكاتبة ومترجمة لأدب الأطفال

بحت وتقديم يساعد الفرد على فهم
مايجري حوله ويساعد علي اشراك الاخر وتخفيف التوقعات
السبت 2 كانون الأول 2023
رأيك يهمنا