الجسد والسلطة: للأجساد والبيوت حرمات، إلا في غزّة
أطلق افلاطون النقاش حول ثنائية العقل/الروح والجسد ومنذ ذاك الوقت تناول نفس النقاش فلاسفة كثيرون آخرون. في القرن السابع عشر حسم ديكارت النقاش بفصله بين العقل Mind -منبع الفضائل - عن الجسد – منبع الرذائل- وفق تعريفاته. أخرج ديكارت الخطاب عن الجسد من نقاش الفلسفة والعلوم الإنسانية. ثم جاء ميشيل فوكو [1] (1926 - 1984) ليس فقط ليحيي النقاش حول الجسد من جديد، بل ليؤسس فرعا معرفيا مركزيا وهو "سوسيولوجيا الجسد". تتلخص الثيمة المركزية في دراساته بأن الاحتفاء بالجسد هو حق بينما تحقير الجسد هو تدمير للعقل والروح. كما يرى فوكو أيضا أن نظم السلطة والمعرفة في كل مجتمع وحقبة زمنية تعمل على إنتاج الجسد اجتماعيا Socially produced وتحيله ليّنا طيّعا.
كشف فوكو عن طرق تتبعها السلطة في إشغال وتوظيف وتطبيع وتقويم وتعذيب وتهذيب الجسد ثم في تشخيص صحته البدنية والعقلية والذهنية وتقرير مجموعة هوياته المدنية والجنسية والجندرية وفق قرار السلطة. لقد حوّلت السلطة الجسد، بواسطة خطابها السياسي، إلى كيان خنوع، مطيع ومنضبط Regulated. واستخدمت المؤسسات التوتاليتارية -مثل السجن، المستشفيات، المدارس، المصانع والأحزاب - لتنفيذ هذه المهمة الشاملة وسمحت لها بتفعيل الممارسات العقابية بهدف الوصول إلى "الكيان المنضبط". يستمد النظام السلطوي فاعليته من استخدام تقنيات القوة المتمثلتين ب (أ) الرقابة التراتبية و(ب) العقوبة الضابطة.
تبنى فوكو مثال عالم الاجتماع جيرمي بينثام (1785) في فكرته "البانوبتيكون"Panoptisme القائلة بقدرة المؤسسة بناء "أبراج مراقبة" في مركز كل مؤسسة توتاليتارية تستطيع من خلالها مراقبة سلوك أعداد كبيرة جدًا من الأفراد بدون أن يراها المراقَبون وبدون أن يستطيعوا منع هذه المراقبة أو مراقبة بعضهم البعض. يولّد هذا لدى الأفراد الشعور بأن جسدهم مشاع، مراقب، ليس تحت سلطتهم، تصله السلطة وتخترقه حين تختار. في هذه الأثناء، يتدرب الأفراد على الطاعة والإذعان والسلوك وفق توقعات السلطة. يصبحون خنوعين ومطيعين، بهدف الامتناع عن العقاب الضابط، حتى بغياب الرقيب حيث أنهم لا يرون متى يشغل برج المراقبة ومتى يتركه.
يميّز فوكو بين نوعين من العقاب: أ. الملكي، والذي يحق فيه للسلطة تقرير مصير الخارج عنها بما تراه مناسبا من تنكيل وإبادة بدون تقديم أدلة او براهين، وبين ب. العقاب التأديبي، الذي يتم عن طريق المؤسسات والمختصين وينال الروح والجسد ويهدف إلى إعلان الطاعة المطلقة والإذعان التام لتعليمات السلطة. تنفّذ الدولة الحديثة هذا الهدف عن طريق السجون أو معسكرات الاعتقالات الجماعية وتم تنفيذ كلا النوعين في الحرب الراهنة على غزة.
في السنوات الأخيرة، تطورت فكرة "البانوبتيكون الرقمي" بحيث تحوّلت المراقبة من هدف العقاب لهدف التعقّب وهذا بحد ذاته يترك أثره لدى الأفراد في أن السلطة تراقب الجسد والعقل وتديرهما. عندما تلاحظ السلطة غياب الإذعان، تفعّل سياسة العقاب الذي يهدف إلى تأديب الفرد والجماعة. تقبّلت المجتمعات تدريجيًا واقع الرقابة البانوبتيكية الرقمية عقب الحادي عشر من أيلول 2001 وعقب وباء كورونا وساهم في هذه الرقابة تطوير الذكاء الاصطناعي القادر على تمييز الأفراد والشخصيات والتنبؤ بسلوكها المستقبلي.
ولّدت حرب غزة بعد السابع من أكتوبر 2023 [2] ما سمّاه بيونع تشول هان المجتمع الشفاف حيث يستطيع كل شخص يسكن في إحدى تجمعات اللاجئين أو أي متتبع من العالم يشاهد أي فضائية تقوم بتصوير أحداث الحرب في غزة أن يتتبع أي أسرة بدون شعور حرج وبدون التفكير في الحرمة والخصوصيات.
البانوبتيكون الرقمي يتابع الفلسطينيين مواطني الدولة، يتعقبّهم ثم يعاقبهم وفق قياسه لمعيار سلوك الطاعة أو الإذعان. وسواء كانت هناك رقابة مكثفة يومية على الجميع أو لم تكن، بما أننا لا نعرف متى يراقب الرقيب، فقد تهذّب "الجسم الجماعي" وتصرف وكأن الرقيب يراقب على مدار الساعة. وكان أن حصل المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل على "شهادة حسن سير وسلوك" من بعض المراقبين في السلطة.
أطرح هنا تساؤلات مستخدمة مفاهيم ميشيل فوكو لما يحدث في غزة:
"ما معنى أن تمتلك جسدك ولا تقرر ما يحدث فيه وله"؟
ماذا يحدث للفرد البالغ عندما يقرر أي عنصر خارجي أمورًا تخص جسده مثل: متى يأكل، يشرب، ينام، يستحم، يبول، يتغوط، يصاب، يتعالج، يموت، يدفن؟ كيف؟ أين؟
ماذا يعني نفسيا وعاطفيًا ألا تقرر حيال الجسد؟ جسدك أو جسد من نشأت على فكرة وجوب الاعتناء بهم مثل أولادك أو والديك؟
فرضت خطة القصف الإسرائيلي وكثافته منذ بدء الحرب على غزة على الأفراد الغزيين عدم الاعتراض وإطاعة الأوامر بالتحرك والتصرف وفق تعليمات الجيش، مع العلم مسبقًا أن هذا سيسيئ لكل فرد ولكل جسد.
يرصد الجيش الإسرائيلي سلوك الأفراد من خلال الكاميرات الخاصة والطائرات المسيرة. دخلت هذه الطائرات إلى البيوت الخاصة عبر الشبابيك وأبادت فكرة كون البيت "حرمة وله خصوصيات" وصار كل بيت شفافًا. وطبعا أصبح من الأسهل مراقبة وتعقّب كل جسد خلال وجوده في المؤسسات التوتاليتارية في غزة مثل المدارس أو المستشفيات أو مخيمات النازحين.
فرض الجيش، كذراع لسلطة سياسية تدير الحرب، على الأفراد ترك بيوتهم وأملاكهم وأفراد أسرهم الموجودين تحت الردم والاكتفاء بما استطاعوا حمله – فتدخلت في تصميم مشاعرهم من جديد. ثم فرضت عليهم مكان التجمع وشروطه – فتدخلت في تصميم قراراتهم. وفرضت عليهم قبول طعام شحيح، غير مغذٍ وغير كافٍ وشرب ماء ملوّث ونوم على الوحل والتبول والتغوط والاستحمام حسب مواعيد تقرّرها ظروف الحرب – فتدخلت في إتمام السيطرة على الجسد واحتياجاته. وصار المعظم يتنازل عن علاج أيّ جرح ويتقبل الموت، كل موت، للذات، لشخص حبيب أو لحمولة، كواقع يومي عادي. بكلمات فوكو، تم نزع ملكية الجسد والعقل من الفرد.
قد حققت الأدوات التي تم استخدامها منذ اندلاع الحرب أهداف الرقابة البانوبتيكية وتمت السيطرة على جسد الفرد وحوّلته بالكامل إلى "جسد اجتماعي" منزوع الإرادة. في هذه الأثناء ينحصر عمل العقل في قضايا صراع بقاء يومية جارحة مثل "ماذا يجب أن يوفر ولي الأمر لأطفاله، ضمان الطعام الآني أم ضمان عدم قتلهم تحت القصف؟"
مذهل كيف تصرفت الدول وسلطاتها بالجسد، سواء الجسد الذي يحمل مواطنتها أو الذي يحمل مواطنة دول أخرى! سيحتاج المجتمع الفلسطيني فترة طويلة من إعادة تأهيل الجسد والعقل/الروح بعد انتهاء هذه الحرب وستعقبها إعادة نظر لطبيعة العلاقة بين الفرد والسلطة وجدواها لكل جهة.
ومع تأكيد مقولة فوكو " الاحتفاء بالجسد هو حق بينما تحقير الجسد هو تدمير للعقل والروح"، تبقى ثلاثة أسئلة عالقة مطروحة للتفكير:
من هو المالك الحقيقي للجسد؟
وبناء على الإجابة يتم طرح السؤال: ماذا سيصبح التعريف الجديد للتلصص وللاغتصاب وللمشاع؟
ما هي المعاني الجديدة التي سوف يبلورها عقلك عندما يدرك بعد انتهاء الحرب أنك لا تمتلك جسدك، بيتك، أسرتك، عملك، سلطتك، مدينتك، دولتك، ولا تقرر ما يحدث فيها، لها ومعها؟
الإحالات:
[1] تمت ترجمة أهم كتب فوكو للعربية وبعضها موجود على الشبكة العنكبوتية.
[2] إن تبني أحدى التسميات "طوفان الأقصى" أو "الرماح الحديدية" يشير إلى السلطة التي تهيمن على الرواية.
تصوير: عبد الرحمن زقوت.
أ.د. خولة أبوبكر
محاضرة وباحثة أكاديمية، معالجة زوجية وأسرية مؤهلة ومرشدة معالجين مؤهلة