الجولان وفلسطين، حكاية صمودٍ تُروى

نقول إنها حكاية صمودٍ تُروى، أولًا وانطلاقًا من استحقاقية روايتها وتسجيلها وتثبيتها كرواية تاريخية أصيلة وقصة كفاحٍ تحملها الأجيال في مواجهة قصة الاستعمار؛ وثانيًا، لأنها فعلًا تُروى الآن من أصحابها وأبطالها الحقيقين، أمام مجموعة من الباحثين الجادين من الجولان وفلسطين ضمن مشاريع بحثية مهمة، يجب علينا دعمها وإسنادها كي تستمر، ولربما لم يكن هناك اهتمام بهذه القصة من قبل، على الأغلب، لأن كثيرين كانوا يعتبرون أن هذه العلاقة أمر طبيعي ومفهوم ضمنًا أن يناضل الجولان وفلسطين جنبًا إلى جنب، لكن الهجمة على السردية التاريخية كبيرة، ولابد من وقفة جدية أمامها.

منذ العام 1967 ونكبة الجولان مستمرة، مشروع استعمار استيطاني يسعى بكل امكانياته وأدواته للسيطرة على هذه البقعة الجغرافية وقمع سكانها، بدءاً بالقوة العسكرية وانتهاءً بالقوة الناعمة (مخططات هيكلية، مشاريع طاقة، مناهج تعليم، مشاريع ثقافية). فأهل الجولان يتعرضون بشكل يومي ومكثف إلى مخططات "أسرلة" كبيرة تسعى إلى تغيير الوجه العربي السوري الأصيل لهذه المنطقة وتذويبها في مشروع الاستعمار.

لم تكن فلسطين يومًا بعيدة عن الجولان ولم يكن الجولان بعيدًا عن فلسطين. وفي كل المحطات التاريخية، ابتداءً بالعلاقات التجارية التي لم تنقطع، مرورًا بخلايا العمل الفدائي للثورة الفلسطينية وسجون الاحتلال، فالإضراب الكبير 1982، والانتفاضة الفلسطينية 1987، وكذلك الامتداد والاتصال في سياق العمل الثقافي والمؤسساتي والكثير من المواقف والوقفات التي كنا فيها واحدًا - الجولان الذي تُرك وحيدًا حتى في السردية الرسمية من "دولته العميقة"، حتى أن صديقة جولانية حدثتني أنها حينما ذهبت للالتحاق بجامعة دمشق في العام 2004، فوجئت بأن عددًا من أبناء شعبها السوريين لا يعلمون ان الجولان مُحتل، أو أنه تحرر في حرب تشرين، على حد علمهم.

لم تتوقف مطامع الاستعمار الصهيوني عند فلسطين. وعليه، لا يمكننا الفصل بين احتلال فلسطين عام 1948 واحتلال الأراضي العربية عام 1967، فما حدث هو استكمال وتتمة لمشروع الزحف والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في المنطقة. وقد كان الجولان تحت عين الاستعمار الطامعة وذكرت العديد من الأدبيات والأرشيفات مطامع المستعمرين في سفوح جبل الشيخ الغربية – الجنوبية لكونها أهم روافد نهر الأردن وخزان المياه الأهم للمنطقة، وهذا ما ثبتت صحته في مخطط التهجير والتطهير العرقي الذي نفذته إسرائيل بحق 142 ألف جولاني هُجروا من قراهم وأراضيهم، ولم يتبق منهم إلا سكان 5 قرى يبلغ عددهم اليوم نحو 26 ألف نسمة في مواجهة السياسات الإسرائيلية المستمرة الرامية إلى فرض السيطرة على كافة مناحي حياتهم.

في يوم التاسع من حزيران 1967، في اجتماع قيادة هيئة الأركان الإسرائيلية، قال رحبعام زئيفي: «علينا أن نحصل على هضبة نظيفة من السكّان». وقد رمت كل خطط العمليات العسكرية وقتها والمخططات الاستعمارية، الخشنة والناعمة الخبيثة منها، للوصول إلى هذه النتيجة - "هضبة نظيفة من السكان". لكن هل إرادة المستعمر هي التي تنتصر دائماً؟! حتمًا لا، وهذا ما أثبته أهل الجولان الباقون في قراهم. فمنذ اللحظة الأولى كان هناك من يحث السكان على البقاء والصمود. فقد تنبه الشيخ الراحل كمال أسعد كنج أبو صالح "أبو المجد" إلى مخططات إسرائيل الرامية إلى اقتلاع باقي السكان، أو دفعهم لأن يكونوا جزءًا من مشاريع تقسيم وتفتيتٍ للمنطقة، إذ كان لدى إسرائيل مخطط سري كانت تنوي أن تبدأ العمل به مباشرة بعد استكمال احتلال ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وهضبة الجولان وشبه جزيرة سينا عام 1967. هذا المخطط الذي كان عنوانه إقامة "كيان درزي" أو "دويلة درزية طائفية" تمتد من منطقة الشوف في لبنان إلى السويداء في سوريا، بعد أن تأجل قيام "الدولة المارونية الطائفية" في لبنان وعاصمتها جونيه بدعم من إسرائيل. وتنطلق فكرة إقامة هذا الكيان الدرزي من عمق العقلية الاستعمارية بإقامة كيانات طائفية تساهم في تقسيم وتفتيت المنطقة وضرب وحدتها الجغرافية والديمغرافية. أسقط "أبو المجد" ورفاقه هذا المشروع في قصة بطولة وحنكة أمنية قلّ نظيرها، لا يتسع المقام هنا للحديث عنها.

لم ينتظر أهل الجولان كثيرًا. وبعد فترة ليست طويلة بدأت إرهاصات المقاومة للاحتلال وتجلت بانطلاق خلايا المقاومة السرية، التي لم يكن وهج العمل الفدائي الفلسطيني بعيدًا عنها وصاحب التأثير الأكبر عليها في شق طريقها للنضال. وفي العام 1974 كشفت إسرائيل عن البنية التحتية لهذه المجموعات وزجت بعشرات الشبان الجولانيين الوطنيين في السجون وشرعت في اتخاذ المزيد من الإجراءات لتثبيت الضم الزاحف، مثل تعيين مجالس محلية وفرض ضريبة الدخل وإدخال المحاكم الشرعية الدرزية، وكلها من علامات فرض السيادة قبل قانون الضم الذي أًعلن عنه في كانون الأول 1981، وما كان على الجولانيين إلا أن يقولوا لا.

كانت تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال والتواصل مع المناضلين الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" ومع القوى اليسارية المعادية للصهيونية في المجتمع الإسرائيلي، قد رفدت الحركة الوطنية في الجولان بالخبرة والحنكة والمقدرة على صياغة الخطاب السياسي الجولاني الرافض لمشاريع الهيمنة والسيطرة الاستعمارية. فقد كانت السجون المحطة الأهم في تاريخ العلاقة الجولانية – الفلسطينية. وبإرادة المناضلين، تحولت المحنة والأزمة إلى فرصة وكان هذا اللقاء الأكثر حميمية وقُربًا والتصاقًا بين المناضلين من الجهتين. وتجلت آثار هذه المحطة النضالية في الإضراب الكبير عام 1982، الذي خاض فيه الجولانيون بإسنادٍ وتضامنٍ من الفلسطينيين معركة شرسة على الهوية، رفضوا خلالها كل أشكال الهيمنة والقمع بحقهم وأعلنوا في "الوثيقة الوطنية" - وهنا أقتبس من الوثيقة نفسها - أن "هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سوريا العربية، والجنسية العربية السورية صفة حقيقية ملازمة لنا لا تزول وهي تنتقل من الآباء والأجداد". وقتها، فرضت سلطات الاحتلال حصارًا عسكريًا على قرى الجولان، مُنع خلاله الأهالي من مغادرة قراهم وعانى السكان أيامها من نقصٍ شديد في الغذاء والدواء والقمع والاعتقالات، فما كان من الأشقاء إلا أن يهبوا فبدأت قوافل المتضامنين والمساندين من الأراضي المحتلة تزحف لكسر الحصار عن الأهالي. تذكر روضة عودة، المناضلة والأسيرة المحررة المقدسية، لحظة صعود أول قافلة إسناد إلى الجولان، قائلة: "هذه الناس كريمة جدًا ومضيافة بشكل لا يتصوره العقل، إحنا رايحين نفك عنهم الحصار، وهم بستقبلونا في الرز والورد، رشوا علينا رز أكثر من اللي جبنالهم ياه".

 ستة أشهر من العصيان أمام عصا الجلاد كانت كفيلة بأن تسقط مشروع فرض الجنسية الاسرائيلية على السوريين في الجولان. وفي العام 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، "انتفاضة الحجارة"، وما شهدته من قمع واعتقالات وحصار للمدن والقرى والمخيمات، شهداء وجرحى في كل مكان، فهب أهالي الجولان مع أهلهم في الأرض المحتلة، وبكل ما يملكون، فبدأت المظاهرات والمسيرات الداعمة للانتفاضة، وأخذت السيارات المحملة بالمعونة والأدوية والتفاح والخبز وبكل ما أتيح وقتها، تتوجه إلى خان يونس والدهيشة والقدس وإلى كل مكان استطاع الجولانيون الوصول إليه وكسر الحصار عنه. كانت النسوة في الجولان تصحو من ساعات الفجر تعجن وتخبز في البيوت كي يكون الخبز جاهزًا ليتم نقله إلى فلسطين. وكان لتجربة العصيان المدني في الجولان عام 82 أثرها الكبير والواضح على المنتفضين في الأرض المحتلة في فلسطين. فقد ظهر هذا الأثر في تجربة عصيان الأهالي في بيت ساحور أمام الإجراءات الاسرائيلية القمعية بحقهم. وأثبتت تجربة الإضراب فاعلية العمل النضالي الشعبي وأهمية العمل الجماعي وإمكانية الرهان على الجماهير في المواجهة.

كثيرة هي القصص والمواقف التي يمكن الحديث عنها، لكنني في هذه العجالة أردت الإضاءة على بعض ملامح هذه العلاقة التاريخية التي لم تنته واتخذت أشكالًا مختلفة تتركز في هذا الوقت على العمل المشترك في حقل الثقافة والذي، رغم أهميته وراهنيته إلا أنه لا يكفي لوحده. فالجولانيون يواجهون اليوم شبح الأسرلة الذي لم يغب ومشاريع الاستعمار  التي تتجلى اليوم في مشروع المراوح الهوائية الذي تسعى اسرائيل من خلاله إلى السيطرة على آلاف الدونمات من أراضي المزارعين الجولانيين ومصدر رزقهم الوحيد، وهم اليوم في أشد الحاجة إلى الدعم والإسناد والتحشيد للنضال في سبيل وقف التغول وإفشال مطامع الاستعمار.

ضياء علي

صحافي وباحث من فلسطين، طالب في برنامج ماجستير الدراسات الاسرائيلية في جامعة بيرزيت، مُهتم في قضايا الجولان السوري المحتل، وبالتاريخ الشفوي والأرشيف

شاركونا رأيكن.م