أَنا والكاميرا… نُلاحِق الحِكايات المَنسيّة

على مَدار سَنوات طويلة، قَطَعتُ مئات الكيلومترات سيرًا على الأقدام في عشرات الأودية والمَسارات الطبيعية والتاريخية التي تَنبض بها أرض فلسطين. من برّية القدس إلى سُفوح الجليل، ومن أغوار أريحا حتى مرتفَعات جنوب الخليل، كانت رحلاتي أكثر من مجرّد تجوال في الطّبيعة لاستكشافها. كنت أَبحث عن الذاكرة، عن الحكايات المنسيّة بين الصخور، عن بَقايا أديرة مَهجورة وقُرى مطموسة، وعن مواقع أثريّة تقف كشاهدٍ صامت على عُصور مَضَت.

خلال هذه الجولات، وثّقت العديد من المواقع التاريخية والدينية والبيئية التي لم تحظَ بما تستحقه من اهتمام. كان هَدفي تسليط الضوء على هذه الكنوز، لا من باب التّرف السياحي، بل من مُنطلق وعيٍ وطني يرى في كلّ حجر وجدار وأثر جزءًا من الهوية الفلسطينية، وسجلًا حيًّا للحضارة التي مرّت من هنا ووُلدت هنا.

من هنا، يأتي هذا المقال لِيَطرح سؤالًا مُلحًّا: ما الذي يَحدث عندما تُترك هذه المواقع للاندثار؟ وهل نَعيش اليوم نكبة جديدة… نكبة من نوعٍ مختلف؟ نكبة الأركيولوجيا والآثار؟

في كلّ مسار أَقطعه مشيًا على الأقدام، في كلّ وادٍ أَزوره، أو قمة جبل أُطلّ منها على امتداد الأرض الفلسطينية، لا أرى فقط الطبيعة أو الجَمال. بل أرى طبقات من التاريخ تُنسى، وتُنهب، وتُدفن تحت غبار التّجاهل، وأحيانًا التعمّد في الطّمس والمَحو.

نكبة الآثار في فلسطين ليست حادثة واحدة، بل تَراكم نكبات متتالية. بدأت مع الاستعمار الذي لم يكن غريبًا عنه نَبش الأرض وسَرقة ماضيها وتغيير مقصود لبعض المواقع التاريخية، واستمرت مع الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يكتفِ بمصادرة الأرض، بل صادر أيضًا روايتنا عنها. واليوم، نواجه خطرًا آخر – الإهمال، وعدم الوعي، وقلة الموارد لحماية هذا الكنز التاريخي.

في إحدى جولاتي بين سفوح القدس الشرقية والبحر الميت، وبين تضاريس دير مار سابا ومناطق برّية قُمران، وقفت على أطلال كنائس بيزنطية مهجورة، وآبار مياه نُقشت على صخورها كتابات سريانية، ولا أحد يعرف عنها شيئًا، والرعاة يمرّون من قربها دون أن يعرفوا أن تحت أقدامهم تاريخًا عُمره أَلف عام.

في مساراتي في وادي النار، ووادي المعلَّق، يتكرّر المَشهد ذاته: مواقع أثرية من العهد الروماني والبيزنطي، أبراجُ مراقبة كنعانية، وأديرة محفورة في الجبال… لا تحظى بأيّ حماية، ولا تحمل سوى صمت الحجارة.

ما يؤلمني أكثر من غياب المؤسسات، هو غِياب الحكاية. حين لا تُروى القصّة، يصبح الموقع الأثري مجرّد حجارة صماء. ومن هنا، أؤمن أن مسؤوليتنا كرحّالة فلسطينيين وموثّقين لا تتوقف عند التصوير، بل تَبدأ منه. الصورة لا توثّق فقط، بل تفتح الباب للسؤال والبحث والاهتمام.

نكبة الآثار في فلسطين تُختصر في سؤال: كيف نُسكت صوت الأرض؟ والجواب: نترُكُها بلا ذاكرة.

نحن نملك إرثًا غنيًا لا مَثيل له في الشرق الأوسط. من سبسطية في نابلس، وبتير في بيت لحم، وموقع النبي موسى، وقصر هشام في أريحا، وبلدة دورا القديمة، وصولًا إلى قرى مجد الكروم وصفورية في الشمال، كلّها تزخر بتاريخ متنوع ومتعدد الحضارات. لكن معظم هذه المواقع، إن لم تكن منهوبة أو مسيطرًا عليها مِن الاحتلال، فهي مهمَلة؛ لا برامج تعليمية، ولا حملات توعية، ولا إستراتيجيات مستدامة لحمايتها.

النكبة التي يتعرض لها الإرث الأركيولوجي الفلسطيني ليست فقط في الصَمت، بل في غياب إستراتيجية فلسطينية شاملة تحمي هذا التراث، وتُعيد إدماجه في وعينا اليومي، في المدارس، في الإعلام، وفي سياحة مسؤولة تحترم الأرض ولا تستهلكها.

يُدرك الاحتلال تمامًا أهمية الرواية التاريخية، لذلك يسعى لإعادة صياغة المشهد الأثري وفق مَصالِحِه، ويستخدم الحفريات كأداة سياسية لفرض سرديّته. في المقابل، نحن نعيش مفارَقَة محزنة: نملك التاريخ، لكننا نفتقد لروايته المؤسَّسة والمحميّة. نملك المواقع، لكننا نتركها عرضة للتآكل والضياع.

أثناء رحلاتي، التقيت بشباب من قرى تقع فوق آثار تاريخية لا يعرفون عنها شيئًا. هذا الجهل ليس ذنبهم، بل هو نتيجة فراغ ثقافي وتربوي في منظومتنا. نحن بحاجة إلى مناهج دراسيّة تُعيد للطلبة علاقَتَهم بالمكان، لا كَصُور في كتاب الجغرافيا، بل كمواقع حقيقية، يمكنهم زيارتها ولَمْس حجارتها، وحكاية قصصها لأصدقائهم.

أَحلُم أن يتحوّل كلّ موقع أثري مهمَل إلى مَركز تعليمي حيّ، إلى مشروع توثيق مجتمعي، إلى مكان يستقبل الزوار من طلاب، ومهتمين وسياح وناشطين. وأن تصبح للقرى الصغيرة خرائط أثرية مصممة بأيادي أهلها، لتكون جزءًا من روايتهم الذاتية، لا مجرد بقايا في أرشيف مغلق.

كما أدعو إلى دعم وتطوير سياحة مجتمعية مسؤولة، تقودها المجتمعات المحلية، لا الشركات الكبرى التي تستهلك الأرض دون أن تعيد شيئًا لأهلها. يجب أن ترتكز هذه السياحة على الوعي، وأن ترافقها حملات توعويّة تحفظ المواقع من التّخريب والعبث، وتُشرك الناس في حمايتها لا فقط زيارتها.

إن الإرث الأثري الفلسطيني هو أحد أكثر جوانب هويتنا هشاشةً، لأن فقدانه لا يكون فجائيًا، بل تدريجيًا، بصمت… ولهذا فإن المعركة من أجله لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى. حماية الحجارة هي حماية للذاكرة، والذاكرة هي سياج وجودنا في وجه محاولات الإلغاء.

كفلسطينيين، لا نملك رفاهيّة تجاهل آثارنا. كلّ صخرة، كلّ سرداب، كلّ مَدفن محفور في الجبل… هو شهادة على وجودنا. وما لا نوثّقه نحن، سيأتي من يوثّقه عنّا، ويعيد كتابته بلغة غير لغتنا، وبتاريخ غير تاريخنا.

لذا، رسالتي لكلّ شاب وصبية، لكلّ مرشد وناشط بيئي، ولكلّ فلسطيني يحب هذه الأرض:

امشوا… وانظُروا تَحت أَقدامكم.
ربّما تَدوسون على حِكاية تَنتظر مَن يَرويها.

نزار العيسة

هو رحّال فلسطيني ولاجئ من قرية زكريا المهجّرة، وُلِد ونشأ في مخيم الدهيشة جنوب بيت لحم. لطالما شكّلت الجدران المحيطة بالمخيم دافعًا داخليًا لديه لاكتشاف ما وراءها، فانطلق منذ سنوات في رحلات ميدانية لاستكشاف المواقع التاريخية والدينية والطبيعية في مختلف أنحاء فلسطين.

رأيك يهمنا