الاعتِقال الإِداريّ "المُمَسْرَح": سَقَطَ القِناع "القانُوني" تمامًا

تَحوّلت مَحكمة عوفر العَسكرية منذ بِداية الحَرب في تشرين الأول/ اكتوبر 2023 إلى مَصنع للاعتقالاتِ الإداريّة. أَعني، طالما استُعمِل الاعتقال الإداري ضدّ الفلسطينيّين القابِعين تحت الاحتلال والقضاء العسكريّ، فكُلّ فلسطيني، بمجرد وجودهِ – في عقليّة المُستعمر – هو بالضرورة قُنبلة موقوتة ستنفجِر يومًا ما. وبالرغم من عقود الإجحاف "القانوني"، فإنه ومنذُ بداية الحَرب، شَهدت أربعة "كرفانات" ضيّقة على الأقل (من أصل سبعة)، تُدعى زورًا قاعات مُحاكمة، على آلاف المسرحيّات الكافكاويّة، يتم فيها المُصادقة على عشرات الاعتقالات الإدارية يوميًا، والمئات منها شهريًا، والآلاف منذ 15 شهرًا، بناءً على ملفّات سريّة، بدون أدلّة مقبولَة قانونيًا، تَعتمد في غالبيّتها على وِشايات العوَنَة، وعدم امتلاك المحامي أيّ قُدرة على الاطّلاع عليها وبالتالي الطَعن فيها.
تناولت أوراق قانونية ومرافعات دولية كثيرة فداحة آليّة الاعتقال الإداري واستعمالها غير القانوني في السياق الفلسطيني القابع تحت القانون العسكريّ، خاصّة أثناء الهبّات الشعبيّة، حيث استُعملت لضَبط أيّ نشاط سياسي واجتماعي ومُلاحقة الطَلبة والمحاضرين والنُشطاء السياسيين، وغيرهم. لكنّ الضوابط القليلة أصلًا، وصُوريّة "المُحاكمة"، تزول اليوم تمامًا ليبقى فيها المعتقلون وحيدين غير محميّين أمام أبشع آلة تعذيب وقمع "قانونيّة" تَسرق أعمارهم وأيّامهم.
أكثر مِن 3,369 معتقلًا إداريًا يقبَعون اليوم في السجون الإسرائيلية، هذا بالاضافة إلى 1,802 غزّي وغزّية سُلبت حريّتهم ضمن ما يُسمّى قانون "المُقاتلون غير الشرعيّون"، وهو اسم آخر لاعتقال إداري فعليًا مبني على موّاد سريّة يتم تمديده كلّ نصف سنة. يُذكر أنّ المُعطيات المُتعلقّة بالأسرى الغزيّين لا تشمل كُلّ المعتقلين ضمن ما يسمى قانون "المقاتل غير الشرعي" إذ يقبع المئات منهم في المُعتقلات العسكرية التي لا تشملها مُعطيات مصلحة السجون المذكورة؛ أي أن أكثر من نصف الأسرى الفلسطينيين اليوم في سجون الاحتلال، بعد دُفعات التحرير الأخيرة، هم أسرى إداريون. تدلّ هذه المُعطيات على استعمال غير مسبوق بوتيرته للاعتقالات الإدارية، لم تشهدها أيّام الانتفاضة الأولى أو الثانية.
لكنّ الأمر لا يقتصر على الأرقام المَهولة لاختطاف الفلسطينيين بدون محاكمة أو أدلّة أو إجراءات عادلة – ولو أنها لن تكون يومًا عادلة في ظلّ مؤسسة عسكريّة مبنيّة على سَحْق العدالة – بل بالتخلّي المُجاهِر، وفضّ اليدين العَلني من أيّ ضوابط قانونية. ابتداءً من الأسابيع الأولى للحرب، أطلقت المحكمة العسكرية العنان للحاكم العسكري باستعمال أداة الاعتقال الإداري بخلاف صارِخ للمعايير القانونية الدوليّة التي تقضي باستعمال هذه الأداة كوسيلة استثنائية وأخيرة بعد استنفاد كلّ الأدوات الأخرى، وفقط كأداة وقائية لمنع الخطورة المُستقبليّة الناجمة عن الشخص العينيّ، والمُثبتة بالأدلّة بنسبة عالية جدًا.
في أحد القرارات الأولى لمحكمة الاستئناف العسكريّة[1] في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ألغى القاضي العسكري قرارًا قضائيًا سابقًا قضى بتقصير مدّة الاعتقال الإداري من ستّة شهور إلى أربعة شهور بسبب ضُعف المواد السريّة التي تدُلّ على نشاط المعتقل ضمن الجهاد الاسلامي في الماضي البَعيد، بحيث أن علاقاتهِ اليوم مع الحركة هي علاقات اجتماعيّة، وبالتالي لا تدلّل على خطورة عينيّة تنجُم عنه. أُلغيَ هذا التفسير الذي كان من شأنه أن ينسف أصلًا شرعية الاعتقال الإداري تمامًا وليس فقط تقصيره في محكمة الاستئناف بحجّة أن "الخُطورة النّاجمة عن شخص معيّن، مُرتبطة دائمًا بالسّياق الأمني العام". بكَلمات أُخرى، قرّرت المحكمة أن شنّ الحرب هو سبب كافٍ لتجريم كلّ فلسطيني وزّجه خلف القُضبان إذا كانت له علاقة يومًا ما بمنظمات وحركات مُعرفة على أنها "مُنظمات إرهابية"، وهي بالمُناسبة، كُلّ الأحزاب والفصائل الفلسطينيّة. مهّد هذا القرار الطريق أمام آلاف الاعتقالات الإدارية بناءً على تكّهنات مبنّية في مُخيّلة المُستعمِر ونظرته للفعل الفلسطيني وتفسيره له، دون الحاجة إلى أيّة أدلّة إضافية.
طالت الاعتقالات الإدارية في هذه الحَرب، وبشكل غير مسبوق، النشطاء والنشيطات الذين عبروا عن آرائهم المُناهضة لحَرب الإبادة والمُساندة لصمود أهلنا في غزّة أمام آلة الدم. وأقول غير مسبوق بعد قراءة المئات من القرارات القضائية على مَدار السنين. لكنّني عندما أشرتُ خلال مرافعتي لقرار المحكمة الإسرائيلية العليا الذي يُقرّ بشكل واضح لا يَقْبل الشكّ أنه لا يجوز استعمال أداة الاعتقال الإداري في "مخالفات الرأي"،[2] نظرَ إليّ القاضي العسكريّ وقال: "أنتِ تُقارنين بين مُعتَقَل يهودي ومُعتَقَل فلسطينيّ"!
بينما كُنا ننتفِض في الأشهر والسنوات السابقة للحَرب الأخيرة حين يُعتقَل قاصر اعتقالًا إداريًا أو عندما يُضرِب أحد الأسرى الإداريين عن الطَعام ناشدًا حُريّتهِ، نقف اليوم أمام عشرات القاصرين (على الأقل) الذين يقضون شهورًا متواصلة خلف القُضبان، وعشرات الأسرى المَرضى الذين لم تُسعفهم أمراضهم تجاه هذا البطش المُتواصل. يَشهد على هذا الطفل (م) ابن السادسة عشرة الذي يُتمّم الآن شهره السابع في الاعتقال الإداري بالرغم من أنهُ يُعاني اضطرابات ذهنية جديّة وقُصر في تطوّر الذّكاء، ولا يَدري أصلًا ما معنى الاعتقال ولماذا يُمضي أيّامهِ في زنزانة وكُلّ ما يريدهُ هو أن "قوليلهم بدّي أروّح عَ البيت". ضياعُ (م) البادي على وجههِ حين اعتلى الشاشة المُعلقّة على حائط "كرافان" المَصْنَع في "المَحكمة"، واعتراف ضبّاط المخابرات بعلمهم بإعاقتهِ الذهنية، لم يُحرّكا القاضي العسكريّ الذي لم يلغِ ارتباط الشُبهات الموجَّهة في الملفّ السريّ بحالة (م) الذهنيّة، ولكنّ عِوضًا عن إلغاء الاعتقال الإداري لصالح علاجهِ وتأهيلهِ، قرر أن "الاضطرابات النفسيّة لا تُعطي حصانة من الاعتقال الإداريّ".
كما (م)، فإن (ح) لم يُسعفه وضعه الخاص من الاعتقال الإداري، فهو يُعاني من ضُمور في الدماغ، مما جعَلهُ قعيد الكُرسي المُتحرّك بدون قُدرة على الأكل والاستحمام وحتى الكلام المُتواصل، بحيث يعتمد على رفاقهِ في الأسر بكلّ شيء. لم تُقنع عشرات المُستندات الطبيّة "المحكمة" بالتدهور الصحّي الحاصل، وعندما توجهتُ بطلب فحصه من قِبَل طبيبة أعصاب خاصّة، انتَفضت مصلحة السُجون مُدعيّة أن الأمر سيُشكّل "سابقة خطيرة ستأتي بتوجّهات مُشابهة من قِبل آلاف المعتقَلين الإداريين". يُتمم (ح) في هذه الأيّام الشهر الـ 13 لاعتقالهِ الإداريّ، وبينما يزداد وضعهُ الصحّي سوءًا بما لا يُمكن علاجهِ فيما بَعد، تنتظِر المخابرات وخلفها "المَحكمة" أن تُصبح حياتِه تحت الخطر الفعليّ والملموس، لإطلاق سراحهِ.
يقبع آلاف الأسرى الفلسطينيين، وبضمنهم المُعتقَلون الإداريون، في مراكِز تعذيبٍ متواصلة، تُنزَع فيها إنسانيّتهم كلّ يوم، وكلّ لحظة: بالعَزل عن العالَم الخارجيّ، بالتّجويع المُجاهَر به، بالقمَع والاعتداءات الوحشيّة، بسلبهِم كتُبهم وأوراقهِم وكل إمكانيات البقاء السويّ للنَفس، وباعتماد مصلحة السجون الإفضاء لتفشّي الأمراض بينهُم. عندما "تمرَّد" (ع)، طالِب الدكتوراه الذي يقبع منذ أكثر من عام خلف القضبان بأوامر اعتقال إدارية، و"تجرأ" أن يَقف أمام الكاميرا خلال الجلسة ويَكشف عن رجليهِ وبطنِه الذين "أَكَلَهم" مرض الجَرب الجلديّ وملأتهم الدَمامِل النازفة، أزاحَ القاضيّ العسكريّ وجهُه ممتعضًا من فَداحة المَشهد. في ما بَعد كتب في القرار: "لم يتمّ إثبات الإدعاء أن شروط الاعتقال لا ترقى للشروط القانونيّة الدُنيا، وبالتالي لم أرَ أنّه من المناسب أن يؤثّر الأمر على سؤال الاعتقال الإداري".
أمام هذه الجريمة "المُقَونَنَة" والمتواصلة، خاصَة في ظلّ "العَجز" الدِفاعي القانوني، يقف سؤال شرعيّة الترافع أمام المحاكم العسكريّة، وأيضًا فاعليّته، بقوّة. خاضَ الأسرى والمعتقَلون الإداريون في العقود الماضية نضالات عديدة، مِنها الإضرابات عن الطعام ومُقاطعة الترافع أمام المحاكِم رافضين الاعتراف باستحقاقها لمُحاكمتهم ولكشف عورة "عدالتها". من المُحتمَل أن هذا السؤال الآن هو "تَرَف"، فطَبع البشريّة أن تَسعى لحُريتّها. وفي حين كانت النضالات السّابقة للأسرى هي نضالات من أجل الحريّة الفعليّة بمفهومها العميق، من الصعب التكهّن بقدرتها اليوم خاصّة في ظلّ إضعاف الحَركة الأسيرة وإلاطباق على قادتها في ظروف لم تشهّدها من قَبْل، وعلى أثَر كون جلسات "المُحاكمة" هي المَنفَذ الوحيد للأسرى مع "العالَم الخارجي" يُعطيهم فرصة الإطمئنان على أهلهِم، والسؤال إذا ما انتهِت الحَرب، وكشف هَول البشاعة التي يعانون منها. بالإضافة لهذا كلّه، تشهد هذه الحرب تنصُّلًا فخورًا ومعلنًا من كُلّ الضوابط القانونيّة، يجعلُ المؤسسة القضائية العسكريّة لا تأبه لشرعيّتها، فهذهِ تُستمَد من أحداث السابع من أكتوبر، والدَليل على هذا عشرات الاعتقالات الإدارية التي تمت المُصادقة عليها بالرغم من عدم وجود تمثيل قانوني.
"ترفٌ" كان هذا السؤالُ أم لا، لا يجب أن نضلّ نتحاشاه، ونُسلِّم بدورنا الغائب والشكليّ في أحسن الأحوال في هذه المسرحيّات التي تُزهق حيوات وأيّام آلاف الشّباب والشابات والمرضى والنشطاء في غياهِب الاعتقال الإداريّ. قد نظُن أن ألم وظُلم الأسر أقل فَداحة أمام شلّال الدّم المتواصل في غزّة وأهلها الذين يقتَفون اليوم آثار منازلهم المُهدمة وبقايا أجساد أولادهم في ظلّ صمتٍ وتطبيع مع الوحشيّة. لكّن كما في غزّة، مَعركتنا على إنسانيّتنا، على فَرضِها، على المُجاهَرة بها، على التَمترس فيها، تَفرض علينا المعركة ألّا نبقى معصوبي العينين ومكتوفي الأيدي، وأن لا نستمر بالآليّات القانونية نفسها، وحتمًا ألّا نكتفي بها، بحيث لا تَرقى لألم شعبنا وأسراه وتضحياتهم.
[1] استئناف عسكري إداري رقم 4416/23.
[2] استئناف إداري (المحكمة العليا) 4/94 بن حورين ضد دولة اسرائيل (1994)

المحامية ريهام نصرة
محامية متخصصة في مجال حقوق الانسان والترافع عن نشطاء سياسيين، وناشطة سياسية واجتماعية