الهويّة في المَنفَى: جدليّة الأَلَم والتّجاوُز | رِحلة النّزوح

مُنذ اليوم الأول وحتى الآن، كنت أدرك تمامًا أن الطريق لن يكون سهلًا، وأن الثّمن سيكون باهظًا. لم يكن خوفًا من المجهول، بل كان واقعًا يَفرض نفسه بكلّ قسوته.
لا تزال تلك الليلة محفورة في ذاكرتي، حيث كانت أصوات القصف تملأ المَكان، تَهتز الجدران من حولنا، وتتسارع نبضات قلوبنا كأنّها على وَشَك التوقّف من شدّة الانفجارات. كنت أحاول حماية أطفالي بِغِطاء لا يَقوى حتى على حجب شظايا الزُجاج المتناثر، بينما ترتجف يداي وأحاول أن ألتقط أنفاسي بصعوبة. قَبْل ساعات فقط، كنت أودّع منزلي بطريقة غير واعية؛ أنظّف الغُبار، أعيد ترتيب الأَسرّة، أنظر طويلًا إلى مَرسَمي، أغطي الأثاث كما لو كنت أخبره أنني سأعود قريبًا. لم أكن أعلم حينها أن ما أفعله كان وداعًا، وأنني سأراه لاحقًا، بلا جدران، بلا أبواب أو نوافذ، مجرّد ركام متناثر وأوراق ضائعة بين الحجارة وبعض اللوحات الفنيّة المبتورة.
بَدَأَت رحلة النزوح من غزة إلى خانيونس، ثم إلى دير البلح، فمصر، وأخيرًا فرنسا. لم يكن المكان هو ما تغيَّر فقط، بل أنا أيضًا تغيرت. تركَتِ الحرب أثرًا لا يمحى في حياتي، غيّرتني من الداخل، رافقني الفَقد الذي أصبح جزءًا من يومياتي، وكأن الخسارة أصبحت قانونًا أعيشه كلّ يوم. ونشأ داخلي خوف دائم من فقدان المزيد.
الجانب العاطِفي
لم يكن النُّزوح مجرّد انتقال من مكان إلى آخر، بل كان اقتلاعًا مستمرًا من جذوري، شعورًا بالوحدة والغربة حتى في الأماكن الأكثر أمانًا. لم أستطع أن أترك المعاناة ورائي، بل كانت ترافقني، تحفِر في داخلي إحساسًا بالضياع، خاصة كأم كان عليها اتخاذ قرارات قاسية فقط لحماية أطفالها. ومع ذلك، وَجَدت في داخلي قوّة لم أكن أُدرك وجودها، قدرة على التكيّف رغم كلّ شيء.
حرَمتني الحرب من أبسط حقوقي: الأمان، الاستقرار، وحتى الشعور بالانتماء، لكنها لم تستطع أن تسلبني عزيمتي في الاستمرار. رغم الألم والتشريد، ظللت أتمسّك بالحياة، أبحث، عن غزة التي أعرفها والتي أخشى ألا أراها كما كانت. ومع كلّ ذلك، لم أفقد الأمل في أن تعود يومًا كما كانت، مدينةً للحياة والصمود.
العَمَل الجماعيّ مِن أجل الدّعم والتّعافي
لكن الألم لم يجعلنا متفرّجين، بل دفَعَنا كمركز غزة التابع لجامعة دار الكلمة في بيت لحم للعمل. أدركنا أن إعادة البناء لا تَعني فقط إعادة تشييد المنازل، بل الأهم من ذلك هو إعادة بِناء الإنسان. مِن هنا، اجتمعنا مع رئيس الجامعة الدكتور متري الراهب طوّرنا برامج دعم نفسي واجتماعي تستهدف الفنّانين والنساء والأطفال، الذين وَجَدوا أنفسهم فجأة في مواجهة واقع يَفوق طاقتهم. عَمِلنا على خلق مساحات آمنة مع الناشطين والفنانين والمعالِجين النفسيين والتربويين، لنقدم يَدَ العون لمن ما زالوا يعانون تحت وطأة الصّدمَة والحِرمان.
مِن خلال هذا العمل الجماعي، حيث يُمكِن للنساء مشارَكَة تجاربهن، والتعبير عن آلامهن، واستعادة قوتهن، كانت الجلسات تقدّم لهن مساحة من التّفاهم والمساندة، بعيدًا عن الشعور بالعزلة.
أما الأطفال، الذين حَمَلوا داخلهم مشاهد لا يجب أن يراها أيّ طفل، فقد سعينا إلى توفير بيئة تتيح لهم التعبير عن أنفسهم بعيدًا عن الخوف. تمكّنا من خلال الأنشطة الترفيهية والفنية والتفريغ النفسي، من مساعدتهم على إعادة بناء إحساسهم بالأمان، ولو للحظات قصيرة. كانت هذه الأنشطة تشمل الرّسم والموسيقى ورواية القِصص، حيث تعلّموا أنّ الفن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن مشاعرهم وتجاربهم المؤلمة.
بالإضافة إلى ذلك، عَمِلنا على تَطوير برامج تدريبيّة للأمهات لمساعدتهن على التّعامل مع آثار الصّدَمات التي يعاني منها أطفالهن، وتمكينهن من تقديم الدّعم العاطفي والنّفسي اللازم داخل المنزل. فقد أدركنا أن التّعافي لا يأتي فقط من خلال جلسات التّفريغ، بل مِن خِلال شبكة الدّعم اليومي التي توفّرها الأُسرة والمُجتمع المُحيط.
الفَنّ كَجِسر للتّعبير والتّشافي
كان الإبداع ولا يزال وسيلتنا للتّعبير، وساعَدَنا على نقل هذه التّجارب للعالم، سواء من خلال الفنّ أو البرامج الدعم والتفريغ النفسي من خلال الفن التي أطلقناها. نحن نؤمِن أن الفنّ ليس مجرّد وسيلة ترفيه، بل لغة قادرة على إيصال ما تعجز عنه الكلمات. لذلك، استخدمناه كأداة للتواصل والتّعبير عن الألم والأمل في آنٍ واحد.
![]() |
---|
خلال وُرش العمل الفنّية، أتيح للنساء والأطفال فرصة إعادة الاتصال بذواتهم بطريقة إبداعية. بعضهم رَسَم الألم الذي لا يمكن التّعبير عنه بالكلمات، واستخدَم آخرون الألوان ليخلقوا عوالم أكثر إشراقًا مما يعيشونه في الواقع. الفنّ كان بمثابة مساحة للحرية، كان مكانًا يمكنهم فيه استعادة السيطرة على مشاعرهم وأحلامهم، حتى في ظلّ الفوضى المحيطة بهم.
![]() |
---|
ليست الحرب مجرّد قصف ودمار، بل هي فقدان مستمرّ لكلّ ما يربطنا بالحياة. ومع ذلك، لا نزال نبحث عن طرق لإعادة رَسم ملامح مدينتنا، ونتمسك بالحياة التي حاولوا محوها من ذاكرتنا. في الحرب، ننهض رغم الألم، ونعود للفن كي يهدئ من روعنا، ونعود لأنفسنا، كما تعود المدينة التي لا تزال تنتظرنا بشوق.
على مدار 16 شهرًا، خذَلَتني الكلمات، لم تكن عونًا لي، بدت مجرّد رموز عاجزة عن حمل كلّ هذا الألم. لكن كان لنا الفن والعمل الجماعي ملجأً، وحرية وصدقًا واستعادة. وحده أنقَذَنا حين عجزت الحروف، كان صوتنا حين صَمَتنا، وفَهِم أَلَمنا حين أخفيناه، واحتوى دموعنا وابتسامتنا ووجودنا.
اليوم، نواصل العمل، ليس فقط من أجل أنفسنا، بل من أجل كلّ من يحتاج إلى فرصة جديدة للحياة، لكلّ امرأة تشعر بالعجز، ولكلّ طفل يستحق أن يحلم بمستقبل أفضل. رغم كل ما فقدناه، ما زلنا نؤمن أن الأمل يمكن أن يولَد حتى من وسط الدمار، وأن الحياة تستحق أن نتمسّك بها، بكلّ الطُرق الممكنة.
الصور: من أعمال الفنانة رنا البطراوي.

رنا البطراوي
فنانة تشكيليّة بصريّة، مديرة مركز غزة لجامعة دار الكلمة. محاضرة سابقة في كلية الفنون الجميلة في جامعة الأقصى.