2024: العيش تحت "هَراوة" اسمها "حالة الطوارئ"

من الواضح أن الحرب تترك آثارًا عميقة ومتعدّدة على مختلف الأصعدة، بما يَشمل تأثيرات كبيرة على الحقوق والحريات، وهو ما سيتناوله هذا المقال بالتحليل، خاصة تلك الحقوق التي قد تُعتبر أقلّ أهمية من الحقّ في الحياة، الذي يُعدّ "الحَقّ المقدَّس" كما يُقال. ورغم أهميته البالغة، فإن هذا الحقّ يُعتبر الأكثر تعرضًا للانتهاك في أوقات الحروب. فعندما تندلع الحرب، تُعلن الدول حالة الطوارئ وتَتخذ إجراءات استثنائية تقيّد الحقوق الفردية والجماعية أو تلغيها تحت ذريعة "المصلحة العليا للدولة". وفي هذه الظروف، تُقدَّم مصلحة الدولة على حساب حقوق المواطنين الأساسية، مما ينعكس سلبًا على الأفراد، وبخاصة على الأقلّيات. يتجلى هذا بشكل واضح في استهداف المجتمع العربي في الداخل، حيث تزداد الانتهاكات بحقّهم.

بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، أعلنت الحكومة الإسرائيلية الحرب رسميًا، تَبع ذلك إعلانُها حالة الطوارئ. في هذه الأثناء، تم استغلال الجهاز القضائي والأمني كأداة لمعاقبة فلسطينيي الداخل. وبالتالي، تم تجاوز العديد من الحقوق الأساسية، مِثل حرّية التعبير، والحق في التجمّع السلمي، وحقوق الأفراد في محاكمة عادلة ونزيهة وشفافة. كما تم تعطيل مبدأ "الجميع سواسية أمام القانون"، مما خلق بيئة قضائية غير عادلة تجاه المجتمع الفلسطيني، الذي أصبح هدفًا منهجيًا لمؤسسات الدولة المختلفة، بما في ذلك الشرطة والنيابة العامة والمحاكم.

شهدت هذه الفترة تصعيدًا غير مسبوق في الملاحقات القضائية ضد أبناء المجتمع العربي وبَناته، خاصة في قضايا النَشر والتعبير، التي تركَّز معظمها على تسليط الضوء على الجرائم المرتكبة في غزة. ومع ذلك، أدى الوضع القانوني الجديد إلى تصنيف هذه التصرفات كاتهامات تشمل "التحريض"، و"التماثل" و"تأييد عمل إرهابي". وبموجب "قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016"، تُعدّ هذه الأفعال مخالفات قانونية. يعود جزء من هذا التصعيد إلى التأثيرات العنصرية التي تسلّلت إلى عقول صناع القرار في إسرائيل، مما انعكس بشكل جليّ على تعامل النظام القضائي والنيابة العامة مع الفلسطينيين. ساهمت هذه الأجواء المسمومة في شيطنة الفلسطينيين، حيث تم تصنيفهم جماعيًا كداعمين للإرهاب، في وقت كانت فيه الحملة الإعلامية الإسرائيلية المكثفة تهدف إلى تعزيز هذا التصور، ليصبح أيّ تعبير عن الرأي أو موقف يُعتبر "تهديدًا للأمن القومي".

جاء ذلك كّله في إطار السياسات التمييزية والعنصرية المتزايدة. فقد واجه المجتمع الفلسطيني في الداخل سلسلة تدابير قانونية استهدفت تقويض حقوقه الأساسية وتقليص وجوده السياسي والاجتماعي، بل سعت إلى شلّ قدرته على التعبير عن غضبه ضد الحرب. حتى أنه لم يُسمح له حتى بإقامة مظاهرات تدعم الإنسانية وتندد بآلة القتل التي لا تميّز بين طفل وامرأة وشيخ مُسن، لتتحول أي حالة تأييد لغزة إلى تهمة بدعم الإرهاب!

تزامن هذا التصعيد مع تشديد الإجراءات العقابيّة ضد الفلسطينيين. على سبيل المثال، تم اعتقال مئات منهم، بما في ذلك معلمة تم توقيفها لمجرد مشاركتها في "ترندات" إعلامية بسيطة، حيث كانت تحتفل مع طلابها. وبسبب توقيت النشر، تم اقتيادها مكبلة اليدين ومعصوبة العينين، ومُددت فترة اعتقالها ليومين، فقط لأنها عربية. وقد هنأ وزيرٌ الشرطة بهذا الاعتقال، وكأنها قبضت على "أكبر عدو". تستهدف هذه الحملة اعتقال نشطاء بسبب نشرهم تغريدات تُعتبر جزءًا من حرية التعبير عن الرأي، بأبعادها الإنسانية.

الأمر الأكثر تعقيدًا هو أن هذا التصعيد زاد من "شهيّة" أعضاء الكنيست اليهود للتسريع في سنّ قوانين أكثر عنصرية وتطرفًا، وتسجيل "انتصارات" وهمية على حساب القضايا الفردية، مما ساهم في تقييد الحريات والحقوق. ونتيجة لذلك، أصبحت شيطنة الفلسطينيين أمرًا مألوفًا في الأوساط القضائية والإعلامية.

وقد تجسد هذا التصعيد عمليًا من خلال سنّ مجموعة من مشاريع القوانين العنصرية والتمييزية التي تستهدف حقوق المواطنين الفلسطينيين في الداخل والقدس على وجه الخصوص. تناولت هذه القوانين مجالات بالغة الأهمية، ومن أبرزها، دون الخوض في تفاصيلها: توسيع نطاق استخدام "قانون مكافحة الإرهاب" وإدخال تعديلات تجعل الشخص عُرضة للمساءَلة بمجرد تصفحه الأخبار عن غزة؛ تقويض جهاز التعليم العربي من خلال فصل المعلمين أو حرمان المدارس التي يُشتبه في موقفها الداعم لغزة من الميزانيات؛ انتهاك حقوق الأطفال العرب عبر "قانون أبناء الشبيبة"؛ قطع مخصصات الرعاية الاجتماعية؛ واستخدام التهجير الجماعي كأداة عقاب في حال أدين أحد أفراد العائلة بارتكاب عمل عدائي ضد أمن الدولة.

في ظل هذه الظروف الصعبة بشكل عام، أصبحنا أمام مَشهد يتم فيه فَرض عقوبات قاسية على الفلسطينيين في قضايا التعبير، وهي قضايا كانت تُعتبر في الماضي أقل خطورة ولا تستدعي الحكم بعقوبات حبس فعلية، حيث كانت العقوبات أكثر مرونة سابقًا. إلا أن الأوضاع شهدت تحولًا جذريًا في عام 2024 نحو تشديد هذه العقوبات، مما يزيد من معاناة الفلسطينيين ويؤكد الاتجاه نحو مزيد من الصرامة في التعامل معهم. فأصبح من الممكن أن تُفضي تغريدة واحدة إلى حكم بالسجن مدةَ 8 أشهر فعليًا!

على صعيد حالات الاعتقال الإداري، فقد شهدت زيادة ملحوظة وتصعيدًا خطيرًا، حيث أصبحنا أمام أعداد غير مسبوقة من المعتقلين من المواطنين العرب. والأمر الأكثر إشكالية هو أن المحاكم بدأت تمدد فترات الاعتقال بشكل روتيني بحجة حالة الحرب، حتى في ظلّ غياب الأدلة الدامغة، وهذا يُشكل انتهاكًا فاضحًا لحقوق الإنسان والحريات. فالاعتقالات الإدارية، بما في ذلك تلك التي تُنفذ دون توجيه تهم محددة للمعتقلين، تكشف عن استخدام السلطة للتضييق على الفلسطينيين دون وجود مساءلة قانونية حقيقية. تُسهم هذه الممارسات في زيادة الإحباط في صفوف الفلسطينيين، الذين يشعرون أن البحث عن العدالة داخل النظام القضائي الإسرائيلي أصبح أمرًا بلا جدوى.

مع كل هذه الانتهاكات، تظل قضية الأسرى الفلسطينيين الأكثر إيلامًا وألمًا، حيث يتعرضون لانتهاكات فادحة تشمل القَتل تحت التعذيب، والقمع والعزل، ومنع زيارات الأهالي والتضييق على زيارة المحامين لهم. كما يتم تقليص كمية طعامهم بشكل مروّع، ناهيك عن رداءة جودته وطعمه. ورغم ذلك، تُبرر هذه الانتهاكات عادة تحت شعار محاربة "الإرهاب"، مما يثير تساؤلات حقيقيّة حول مصداقية العدالة في النظام القضائي الإسرائيلي ومدى احترامه حقوقَ الإنسان.

عمليًا، تشير التحولات القانونية في النظام القضائي إلى أنه أصبح جزءًا من آلة القمع السياسية ضد الفلسطينيين، حيث تراجعت بشكل واضح معايير العدالة. ورغم أن توظيف الجهاز القضائي كأداة سياسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس جديدًا، فإن ما شهدناه في عام 2024 يمثل تصعيدًا ملحوظًا. في هذا السياق، تتحول الحرب إلى ذريعة لتبرير تجاوز الحقوق والحريات، ليصبح الجهاز القضائي أداة قمعية تُضعف قدرة الفلسطينيين على الدفاع عن حقوقهم الأساسية. بدلًا من أن يكون القضاء وسيلة لتحقيق العدالة، أصبح في العديد من الحالات أداة لتثبيت السلطة الإسرائيلية على حساب حقوق الفلسطينيين، مما يعكس تحوّل القوانين إلى أدوات لتحقيق أهداف سياسية بعيدة عن مصلحة العدالة. 

خلاصة القول، إن تصعيد الإجراءات القضائية ضد المجتمع الفلسطيني في الداخل عام 2024 يعكس تحولًا خطيرًا في العلاقة بين الفلسطينيين والدولة الإسرائيلية. تزيد هذه السياسات المتشددة، التي تُنفَّذ في ظل حالة الطوارئ والحرب، من معاناة الفلسطينيين وتعزز عزلتهم الاجتماعية، حيث يُصوَّرون كتهديد دائم للأمن القومي الإسرائيلي. سياسيًا، يُعقِّد هذا التصعيد محاولات حلّ النزاع ويُشرِّع الاضطهاد، ليصبح النظام القضائي أداة لتعزيز السلطة الإسرائيلية على حساب حقوق الفلسطينيين، مما يشكّل تهديدًا للعدالة والمساواة ويثير تساؤلات حول مصداقية النظام القضائي في تحقيق العدالة لجميع المواطنين بغضّ النظر عن هويتهم.


من مظاهرة أم الفحم في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصوير الزميل محمد خليلية.

المحامي عمر خمايسي

مدير مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان

رأيك يهمنا