الإِعلام العَربيّ في الدّاخل في ظلّ الحرب ما بين القَمع والرَقابة الذاتيّة

واجَه شعبُنا بعد السّابع من أكتوبر، قبل الماضي، طوفانًا مِن التهديدات بالقَمع، لكن بدلًا من مواجهة الإعلام في الدّاخل هذهِ العنصريّة والفاشيّة، وأخذ دوره في الدّفاع عن حريّة التعبير، كتابة وقولًا، نَجِده تراجَع عن الكثير مِن المكتسَبات، واختفت عن صفحاته أيّ كلمة أو مصطلح أو تعريف قد يعرّضه للمساءَلة، أو قد يُفقده موقِعه، وقيّد نفسه، بنفسه، حتّى دون جسّ نَبضٍ فعليّ، لمعرفة الحدّ الذي ستحدّ به السُلطات والقَضاء من حريّة الصحافة والإعلام، لذلك تراجعت أغلبية صفحات الإعلام في الداخل عن استعمال كلمة "شهيد" واستبدلتها بكلمة "ضحيّة"، وكذلك عن استعمال كلمة "مُقاوِم" واستبدَلَتها بكلمة "مُسلَّح"، وحظَرَت على نفسها استعمال كلمة "إبادة"، واستبدلتها بكلمة "مجزرة". وهذا يعني أنّ هنالك وسائل إعلام استبدَلَت الرّقيب العسكري للإعلام برقابة ذاتيّة، إمّا إرضاء للمؤسّسة الأمنيّة في إسرائيل وإما خوفًا من المُلاحقة. صحيح بأنّ الدّارج وأنّ الغالبيّة الساحقة تعتَبِر كلّ مَن ارتقى بنيران الاحتلال شهيدًا، فقد يعتبر البعض أنّ شهادة "الشهادة" محصورة فقط بالّذين يخرجون من بيوتهم شاهرين سِلاحهم لمواجهة الاحتلال وجهًا لوجه، مع سبق الإصرار على ذلك، وهذا نقاش آخر، لا نريد الخوض فيه هنا.

وأكثر من ذلك، هنالك صحافيّون ووسائل إعلام لعبت دورًا في نشر الرعب والتّخويف بقيامها بنشر كلّ ما لقّنته لهم الشرطة، دون البحث عن الحقيقة خلف نشر الشرطة هذهِ الصور وأشرطة الفيديو، أو على الأقل التشكيك بهدفها، لكن لذلك مدلولاته، التي لا أريد الخوض بها الآن. وإنّني أرى بأنّ من واجبِ الصحافييّن كأبناء لشعب مظلوم ومشتّت يتعرّض يوميًّا إلى الانتهاكات غير الإنسانيّة، ويتعرض جزء منه للإبادة، من واجبهم على الأقل ألّا يكونوا أداة في يد أجهزة القمع والإبادة. فمثلًا، مؤسف أن يَنشر عدد من الصحافيين ووسائل الإعلام في الداخل صورًا وفيديوهات نَشَرتها الشرطة، هدفها المسّ بكرامة المُعتَقَل. فمن خلال هذه الأشرطة ساهمت في بثّ الرّعب والترهيب في أوساط باقي أبناء شعبنا. لقد اختارت الشرطة -مع سبق الإصرار والترصّد- اعتقال فنّانة مثل دلال أبو آمنة، واختارت الممثّلة ميساء عبد الهادي وعددًا من النساء، لتبدأ بحملة كارثيّة وباعتقالات عشوائية، شاركت فيها أيضًا مؤسّسة أكاديميّة مِثل جامعة حيفا. لقد كان جليّا أنّ اختيار الشرطة تصويرَ أشرطة فيديو لنساء في الاعتقال والتحقيق مع عَلَم إسرائيلي ونشرها، ليس هدفه التّرهيب فقط وإنّما أيضًا المسّ بكرامة شعبنا ومشاعره وأكثر من ذلك.

وللأسف، باستثناء عدد قليل جدًّا من الصحافيين والمتضامنين، الذين تابعوا خصوصًا قضيّة المعتَقَلات في المحاكم، فقد تُرِكن هنّ أيضًا، كما تُرِكَ معتقلو "هبّة الكرامة"، كالأيتام على مَوائد اللئام، يُصارعن المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة والقضاء الإسرائيلي، وحدهنّ، في الفترة الأكثر صعوبة في المُعتقَلات والسُجون منذ النكبة، وربما قَبلها أيضًا.

ذكرت ذلك للقول بأنّه لو تابع الإعلام في الداخل قضيّة المعتَقَلات بمن فيهنّ طالبات جامعة حيفا، وسمِع صرخاتهن/بكائهن في قاعة المحكَمة، يتحدّثن عن إجبارهنّ على افتراش الأرض دون أغطية في غُرَف شبابيكُها مفتوحة للرياح والبرد، لو سمع صرخات المعتَقَلات، يطلبن إدخال فوط صحيّة للعادة الشهرية، بدلًا من استعمالهن الورق الذي لا يجدن مكانًا للتخلّص منه سوى أرضية الغرفة، هذا فضلًا عن منع إدخال ملابس خارجية وداخلية، لو سمع الصحافي هذه الصرخات من المعتَقَلات، لما اكتفى الإعلام بنشر بيان لجنة المتابَعة، المعارض لشمل المعتَقَلات من الداخل في صفقة التّبادل الأولى، ولتواصل مع أهاليهن ليستمع إلى رأيهم. على وسائل الإعلام عدم الاكتفاء بالبيانات التي تصلها من المؤسسات المختلفة بمن فيها مؤسّساتنا في الداخل، التي لكلّ منها أجندة مختلفة حسب اختلاف المموّلين لها، ومن واجبها أيضًا الحذر من استغلال الصحافي المصوّر والناشر للمواد أو الصور التي تنشرها لإدانة الآخرين سواء كانوا متظاهرين أم متحدّثين، كما حصل في مظاهرة أم الفحم، التي استندت فيها النيابة إلى تصوير بعدسة صحافي لإدانة المعتقَلَين أحمد خليفة ومحمد الطاهر.

مهمّ أن نشير بأنّه عندما نتحدّث عن الإعلام في الداخل علينا الفصل بين إعلام مَصلحته الاقتصادية مرتبطة ماديّا بالمكاتب الحكومية الإسرائيلية، إن كان ذلك عبر الإعلانات التي تنشرها في الصحف أو في المواقع الخاصة بهذه الصحف في الإنترنت وبين الإعلام الذي لا تعنيه هذه المَصلحة بتاتًا. كما علينا التمييز بين صحافيّين يحملون بطاقة صحافة تَصدر عن مكتب الحكومة الإسرائيلية وصحافيين لا يحملون هذه البطاقة، وآخرين يرفضون مثل هذه البطاقة الصادرة عن مؤسسة اسرائيلية، إمّا لظروف عملهم الصّحافي المرتبط بقنوات ومؤسسات إعلامية عربيّة رافضة للتطبيع، ولا تريد توريط مؤسساتها بصحافيين من الداخل يحملون بطاقة صحافة صادرة عن مكتب الحكومة الإسرائيلية، أو أيّ مؤسسة إسرائيليّة أخرى مثل نقابة الصحافيين الإسرائيليين. وهنالك الصحافيّون الذين يرفضون مبدئيًّا الانضمام لأي إطار أو نقابة أو مجموعة إسرائيليّة والالتزام بالشروط المترتّبة على الانضمام لها.

بناء على ما تقدّم، نجد بعض وسائل الإعلام وبعض الإعلاميين ينتقون المصطلحات والتعريفات التي لا تمسّ مصلحتهم الاقتصادية، وبهذا يفرضون رقابة ذاتيّة بديلة عن مقصّ الرقيب الحكومي. فإذا كان استعمال كلمة "شهيد" في وسيلته الإعلامية قد يضرّ بمصلحته، فيجد المبرّر لاستعمال بديل لها وهو كلمة "ضحية"، مع أن كلّ الشعب الواقع تحت الاحتلال هو ضحيّة الاحتلال، بغض النظر إذا قدّمت ضحيّة الاحتلال روحها من أجل حرية شعبها، أم تم اعتقالها، أم لم تقدّم شيئًا غير ثباتها في وطنها. لقد لعب الإعلام العربي في الداخل دورًا إعلاميًّا كبيرًا، بعد تقديم المئات من معتقلي هبّة الكرامة للمحاكمات، ووجد نفسه قبل وبعد كلّ جلسة محاكمة، بالإضافة لدوره الصحافي، يقوم أيضًا بدور المساند والمخفّف لأوجاع الأهالي، على الرّغم من أن جميع المعتقلين صُنّفوا كمعتقلين أمنيين، أي كإرهابيين، وعلى الرغم من تخلّي القيادات العربية في الداخل عن هؤلاء المعتقَلين، ورغم محاولة جهات داخلية من مجتمعنا تشويه سمعة هؤلاء الشباب، وإلصاق صفة "الزعرنة" بهم. مرّ شعبنا في الداخل بمراحل أصعب من الحالة التي مررنا بها في السنة الأخيرة، سواء كان ذلك في أيام الحكم العسكري أو في يوم الأرض الذي ارتقى فيه ستة شهداء، أم في انتفاضة القدس والأقصى التي ارتقى فيها 13 شهيدًا ومئات الجرحى والمعتقلين.

وما ساهم في ردع شعبنا وإيصاله إلى حالة العجز التي قمعت حتى مشاعرنا كأبناء للشعب نفسه الذي يتعرّض للإبادة، هو تخلّي القيادة، بالكامل، عن معتقلي هبّة الكرامة، والظواهر الانتهازية والتمادي بالأسرلة إلى حدّ التوصية على مجرم حرب وتسخير عشرات ملايين الدولارات لمشاريع وورشات دمج مجتمعنا بالأسرَلَة، بالإضافة إلى ظاهرة العنف والجريمة. 

رشاد عمري

محرر صحيفة المدينة الحيفاوية

رأيك يهمنا