تأَثير مَشاهد الحَرب ومفرَداتها على الأَطفال: نَظرة تحليليّة

تترك الحروب بصمَتها العميقة على كلّ من يتعرض لها، إلا أن الأطفال يعدّون الأكثر تأثرًا بسبب هشاشة نفسيّاتهم وقدرتهم المحدودة على فَهم ما يجري حولهم. يتعرض الأطفال في مناطق النزاع إلى مآسٍ يوميّة، تشمل مشاهد العنف، وفقدان الأحباء، والتشريد، مما يجعل تأثير الحروب عليهم يتجاوز اللحظة الحاليّة إلى أبعاد طويلة الأمد تمسّ شخصياتهم، وصحّتهم النفسية، ومستقبلهم.

تُظهر الدراسات النفسيّة أن مشاهد العنف المتكررة، سواء من خلال الإعلام أو الواقع، تخلق لدى الأطفال حالة من الصدمة التي تؤثر في نموهم العقلي والنفسي والاجتماعي. كما أن الحروب تُدخل مفرَدات العنف والقسوة إلى عالمهم اللغوي والفكري، مما يعزز ميلهم إلى العدوانيّة أو الانعزال. في هذا المقال، نناقش التأثيرات المتعددة لمشاهد الحرب ومفرداتها على الأطفال، مع تقديم توصيات للتخفيف من آثارها. 

الأثر النّفسي لمَشاهد الحَرب

تُظهر التقارير الصادرة عن منظمة الصحّة العالمية ومنظمات حقوق الطفل أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحرب معرضون بشكل أكبر للإصابة باضطرابات نفسيّة مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) .  وتشير دراسات ميدانية إلى أن 50% من الأطفال في مناطق النزاع يُظهرون أعراضًا تتعلق بالخوف المزمن، وفقدان الثقة، والكوابيس المستمرة.

فالأطفال الذين يُشاهدون مشاهد العنف يفقدون الشعور بالأمان، وهو أحد الاحتياجات الأساسية للنمو السليم، ويتفاقم هذا الشعور عندما يفقد الطفل أَحَدَ الوالدين، أو عندما يجِد منزله مهدومًا، مما يؤدي إلى اهتزاز في بنيته النفسيّة ويؤثر على رؤيته للحياة والعالم من حوله.

مفرَدات الحَرب وتأثيرها على التّكوين الفِكري

تؤدي الحروب إلى إدخال مفردات جديدة إلى قاموس الطفل مثل "القصف"، و"اللجوء"، و"الشهيد"، و"الدمار". هذه المفردات، التي تتكرر بشكل يومي، تترك أثرًا على تصوّر الطفل للعالم، حيث يصبح العنف جزءًا من "الطبيعي" في حياته. وتشير دراسات اجتماعية إلى أن الأطفال الذين يتعرضون لهذه المفردات بشكل مستمر يبدؤون في تطبيع العنف، وقد يعبّرون عنه من خلال سلوكيات عدوانية تجاه أقرانهم.

كما أن مفردات الحرب تؤثر على فهم الأطفال للقيم الإنسانية مثل التسامح والسلام، حيث يتشرّبون من بيئتهم مفاهيم مغلوطة تُعزز الانقسامات بدلاً من الوحدة والتضامن.

التأثيرات الاجتماعية لمشاهد الحرب

الأطفال الذين يُعايشون الحرب يُحرمون من بيئة الطفولة الطبيعيّة، مما ينعكس على سلوكهم الاجتماعي. على سبيل المثال، الطّفل الذي يعيش في بيئة مشحونة بالنزاعات يصبح أكثر ميلًا للانعزال أو العدوانيّة. إضافةً إلى ذلك، يعاني الأطفال اللاجئون من مشكلات إضافيّة تتعلق بالاندماج في مجتمعات جديدة، حيث يواجهون صعوبات في التواصل، واختلاف الثقافة، وفقدان الهوية.

ووفقًا لليونيسيف، فإن 70% من الأطفال اللاجئين يفتقرون إلى التعليم الأساسي، مما يعزز من فجوة الجهل ويضعف قدرتهم على مواجهة التحديات المستقبلية.

التأثير طويل الأمد

تَظهَر التأثيرات طويلة الأمد للحرب على الأطفال في مرحلة البلوغ، حيث يعاني كثيرون من مشكلات نفسيّة وصحيّة مثل القلق المزمن، والاكتئاب، وصعوبة بناء علاقات إنسانية صحيّة. علاوة على ذلك، فإن الأطفال الذين ينشؤون في بيئات عنيفة يكونون أكثر عرضة لتبني سلوكيات عدوانية في المستقبل، مما يساهم في تعزيز دوامة العنف في المجتمعات.

كيف يُمكن التّخفيف مِن هذه التأثيرات؟

للحدّ مِن آثار مشاهد الحرب ومفرداتها على الأطفال، يجب اتخاذ إجراءات فوريّة على المستويين المحلي والدولي:

1.     دَور الأُسرة والمُجتمع: أن دَور الأُسرة والمجتمع في التّخفيف من آثار الحرب على الأَطفال مهم جدًا. يجب أن تحاول الأسر تقليل تعرض الأطفال لمشاهد العنف قَدر الإمكان، سواء عبر وسائل الإعلام أو في الحياة اليومية. كذلك، ينبغي تعليم الأطفال مفاهيم السّلام والتسامح كبديل للعنف، لمساعدتهم على بناء فهم أكثر إيجابية للحياة.

2.    دور المَدارس والمُؤسسات التعليميّة: للمدارس والمؤسسات التعليمية دور كبير في توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال المتأثرين بالحرب، حيث أن البرامج التعليمية التي تركّز على مهارات حلّ النزاعات بشكل سلمي والتواصل الإيجابي يمكن أن تساعد الأطفال على تجاوز آثار الحرب وتطوير رؤى مختلفة عن الحياة.

3.    توفير الدّعم النفسي والاجتماعي: من خلال برامج متخصصة تساعد الأطفال على التعبير عن مشاعرهم والتعامل مع الصدمات.

4.     تعزيز ثقافة السلام: إدخال مفاهيم السّلام والتسامح في المناهج التعليمية والأنشطة المدرسية.

5.     إعادة التأهيل الاجتماعي: عبر إشراك الأطفال في أنشطة جماعية تُعزز التواصل والتفاعل الإيجابي. 

وفي النهاية، تُعد الحرب واحدة من أكثر الظواهر المدمّرة لنفسيّة الطفل وشخصيّته. تتجاوز آثارها الحاضر لتُلقي بظلالها على مستقبل الأجيال بأَكملها. لذلك، يجب أن تكون حماية الأطفال من آثار الحروب أولويّة دوليّة، وأن تُكرّس الجهود لضمان أن يعيشوا طفولة سليمة تُعزز من فرصهم في بناء مستقبل مُشرق. وعليه فإن حمايتهم من آثار الحروب يجب أن تكون أولوية، وذلك من خلال توفير الدعم النفسي، وتعزيز ثقافة السلام، وتأمين بيئة آمنة ومستقرة، تساعد الأطفال على التغلّب على صدماتهم وبناء مستقبل أفضل لهم ولأسرهم ولمجتمعاتهم.


الصورة: للصحفّي - المصوّر هاني الشاعر.

عبد الله حاتم ريّان

أخصائي نفسي ذو خبرة في التشخيص والعلاج النفسي للأطفال والمراهقين وإرشاد الأهالي، مُدير وحدة علاجية لأطفال على طيف التوحّد ومن مؤسسي جمعية "تاج الحياة لتطوير الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي في المجتمع العربي". حاصل على درجة الماجستير في علم النفس- تخصص علم نفس تربوي وعلم نفس نمائي.

سماح عبدالقادر
الله يعينكم عحمايتهم ودعمهم إلى الأمام
السبت 1 شباط 2025
حمزه الحاج
مقال غايه بالاهميه في فتره احوج ما نكون لتطبيق هذه النظريات الثاقبه سعياً لاصلاح وتنشأة جيل ناضج وواعي للعيش باستقرار وامن وامان. وفقك الله عزيزي الغالي وادام عليك الصحه والعافيه...
السبت 1 شباط 2025
ولاء ريان
"مقال رائع ومؤثر! لقد نجحتم في تسليط الضوء على التأثيرات النفسية العميقة التي تتركها الحروب على الأطفال. المقال ليس فقط توعويًا، بل مؤثرًا أيضًا. شكرًا على تسليط الضوء على هذه القضية الإنسانية الهامة!"
الأحد 2 شباط 2025
فؤاد
مقال رائع وعميق يعكس فهماً دقيقاً لتأثيرات الحرب النفسية على الأطفال. تحليل شامل يجمع بين النظرة العلمية والبعد الإنساني، ويُبرز أهمية التدخل النفسي والاجتماعي لحماية الأجيال القادمة من التداعيات طويلة الأمد. تسليط الضوء على هذه القضايا بهذا الشكل الواعي والمبني على أسس علمية يعزز أهمية التوعية المجتمعية والتدخل المبكر. شكرًا على هذا الطرح القيم الذي يفتح الأفق للحوار والعمل الفعّال في هذا المجال. بارك الله فيك عبدالله ريان على هذا المقال المهم في هذه الفترة الحرجة وزادك الله علما وعملا
الأحد 2 شباط 2025
قاسم عاصي
بوركت على هذا المقال جزاك الله خيرا ونفع بك وبعلمك.
الأحد 2 شباط 2025
رأيك يهمنا