العنف والصهيونيّة والنكبة: هل نحنُ على عتبةِ ترحيل جماعيّ جديد؟

لفت انتباهي عندما قرأت كتاب "السنديانة" لمؤلفه البروفيسور مصطفى كبها أن بلدة السنديانة كانت بلدةً عامرة بالخيرات ما قبل نكبة فلسطين، ينعمُ أهلها برغد العيش، وكانوا متماسكين كالجسد الواحد وصامدين في وجه المشروع الصهيوني الإحلالي، وقد أدركتْ ذلك قيادات المشروع الصهيوني الإحلالي يومها، وأدركتْ أنها لن تقوى على هذه البلدة بلغة القوة، فلجأت إلى إيقاع الخلاف فيها، ثم تطور ذلك الخلاف وتحول إلى فتنة عمياء دفعت أهلها أن يستبيح بعضهم قتل البعض الآخر، مما أدى إلى تفكيك وحدتها، وإضعاف إرادتها، وزعزعة صمودها، ثم انشغلت في همها الداخلي عن المشروع الصهيوني الإحلالي الذي كان يتربص بها، ثم لمَّا اشتدت فاجعة الفتنة العمياء والعنف الدموي بين أهلها اقتحمها المشروع الصهيوني الإحلالي ورحَّلَ كل أهلها، ولم يبقَ فيها إلا المواشي والدوابّ والكلاب ودخان الطوابين، مما يعني أن قادة المشروع الصهيوني الإحلالي الأوائل استخدموا نشر الفتنة العمياء والعنف الدموي كأداة ترحيل السنديانة! ولم تقف هذه المكيدة عند هذا الحد، بل استخدم قادة المشروع الصهيوني الإحلالي الأوائل هذه المكيدة لضرب المقاومة والصمود الفلسطيني من الداخل في كثير من البلدات الفلسطينية العامرة بالخيرات ما قبل نكبة فلسطين، مما تسبب بانتشار العنف والجريمة في الكثير من تلك البلدات الفلسطينية.

ثم تحولت فاجعة العنف والجريمة يومها إلى أداة ترحيل لتلك البلدات، ومما زاد الطين بلة انتشار مبدأ الأخذ بالثأر في تلك البلدات، لا بل انتشرت "الخاوة"، وانتشرت ظاهرة أن تقوم بعض البلدات الفلسطينية بغزو بلدات فلسطينية أخرى، وإجبارها على دفع "الخاوة" ومما سمعته من بعض أجدادنا الذين ماتوا، ومات معهم التاريخ الشفوي لنكبة فلسطين أن أهل بلدة (طيرة الكرمل) كان قد اشتد العنف والجريمة بينهم قبل أن يقوم المشروع الصهيوني الإحلالي بترحيلهم، لدرجة أنهم تنازعوا في داخل المسجد، وقتل بعضهم البعض في داخل المسجد، ومما سمعته كذلك أن أهل أم الفحم كانوا يدفعون الخاوة سنويًا لبعض القبائل الغزاة الذين كانوا يقتحمون أم الفحم كل عام وهم مدججو السلاح ولا يغادرون أم الفحم إلا بعد قبض الخاوة منها، وظلت أم الفحم على ذلك الحال حتى جمعت صفّها وطردتهم نهائيًا.

ومما سمعته كذلك أن مظاهر العنف قد ازدادت، وبات البعض يتجرأ على فعل كل شيء لدرجة أن البعض كان يقوم بقطع ضروع الأبقار انتقاما من أصحابها، أو كان يقوم بإحراق سنابل القمح بعد تجميعها في البيدر، أو كان يقوم بقتل الخيل، وبعد أن استفحل العنف وامتدّ في كثير من البلدات الفلسطينية قبل نكبة فلسطين شهدت الحياة الفلسطينية مشاهد ترحيل لكثير من الحمائل من بلدتها، مسقط رأسها، إلى بلدات أخرى كعقوبة لها أو هربا من تعرضها للثأر، وهذا ما يفسر وجود حمائل في أكثر من بلدة فلسطينية حتى الآن، حيث كانت ترحل إلى أكثر من بلدة فلسطينية عن سبق إصرار حتى تُخفي مكان وجودها عن العيون التي كانت تطاردها لتثأر منها. على سبيل المثال هناك حمائل من أم الفحم لها فروع ذات عدد كبير تعيش في بني نعيم قرب الخليل أو تعيش في عيلوط قرب الناصرة، وهناك حمائل من الناصرة لها فروع ذات عدد كبير تعيش في بيت لحم، وهناك حمائل من كفرمندا لها فروع ذات عدد كبير تعيش في بيت جن، هذهِ نماذج فقط، وإلا فإن مأساة ترحيل الحمائل وتفككها كانت أكبر من ذلك بكثير، وقد بلغ الأمر ببعض الحمائل أن رحلت أكثر من مرة، كما أنني أعرف حمولة من أم الفحم ذات عدد وقدر كانت تعيش أصلا في إجزم قرب حيفا، ثم رحلت على خلفية العنف والجريمة والثأر إلى الزبابدة قرب يعبد، ثم رحلت على الخلفية نفسها إلى أم الفحم، والبعض منها رحل إلى حيفا، وهكذا تفرقت تفرق أيدي سبأ، ووهن حالها، وهكذا وهن حال الكثير من الحمائل الفلسطينية قبيل نكبة فلسطين بسبب الترحيل الذي فرض عليها على الخلفية نفسها، وهكذا تمدّد هذا الوهن في المشهد العام للمجتمع الفلسطيني إبان النكبة، وهكذا عصف التفكك في المجتمع الفلسطيني ولم ينجح بإعداد إرادة جماعية عامّة تمثل كل المجتمع الفلسطيني في تلك الظروف العصيبة، ولم تتمكن من الوقوف في وجه بلفور بريطانيا وأطماع المنظمات الصهيونية التي بدأت تزداد عددًا وعدةً مع الأيام.

وإذا ما استعرضنا المنظمات الفلسطينية التي ظهرت في أربعينيّات القرن الماضي، وحاولت الوقوف في وجه الأطماع البريطانية- الصهيونية، نجد أنها كانت متفرقة، أو متناحرة فيما بينها أحيانا أو أن البعض منها قامت على خلفية حمائلية تحمل العداء لبعضها، وإزاء ذلك المشهد المؤسف ما كان لها أن تنجح بإحباط مؤامرة نكبة فلسطين، فوقعت نكبة فلسطين، وكانت فاجعة العنف والجريمة التي أذكت نارها المنظمات الصهيونية إحدى مسببات هذه النكبة.

مع ضرورة التنويه أن هذه السطور القليلة الواردة أعلاه لا تكفي لدراسة هذا المشهد المؤسف، بل هناك حاجة ملحة وضرورية لدراسة مستفيضة لهذا المشهد المؤسف، والوقوف على الدروس المستفادة من دراستها.

 ويبدو أن هناك أذرعا في الحركة الصهيونية اليوم تسعى إلى إحياء ذلك المشهد المؤسف في مسيرة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وإذكاء نار العنف والجريمة فيه بهدف دفعه للرحيل، ولكن ليس من بلدة فلسطينية إلى بلدة فلسطينية أخرى في حدود الداخل الفلسطيني، بل إلى دولة أخرى، وهذا ما قاله صراحة موشيه (بوجي) يعلون، الذي شغل ذات يوم منصب وزير الدفاع في إحدى حكومات نتنياهو، حيث قال في مقابلةٍ إعلامية مؤخرًا، أن هناك شخصيات رسمية إسرائيلية تعمل على نشر العنف في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل الفلسطيني بهدف ترحيلهم، وخلال إدلاء يعلون بهذا التصريح قال: "إنني أقول كلمات صعبة، ولكن هذا ما يحدث الآن". وليس بعيدا عن تصريح يعلون ما قاله أردان قبل ذلك، وهو الذي شغل منصب وزير الأمن الداخلي في إحدى حكومات نتنياهو، عندما اعترف بأن 90% من السلاح الأعمى الذي ينتشر الآن في مجتمعنا في الداخل الفلسطيني مصدره من معسكرات الجيش الإسرائيلي، فإذا عرفنا أن عدد قطع هذا السلاح الأعمى هو بعشرات الآلاف، فهذا يعني أن هناك قصدا مبيتا عند المؤسسة الإسرائيلية لتسهيل انتشار هذا السلاح الأعمى في الداخل الفلسطيني. لماذا؟

الجواب واضح.. حتى يدفع هذا السلاح الأعمى مجتمعنا في الداخل الفلسطيني إلى ما وصل إليه الآن، فالقضية ليست مجرد غض الطرف عن انتشار هذا السلاح الأعمى، بل هناك سياسة رسمية تهدف إلى تسهيل انتشار هذا السلاح كما هو حالنا اليوم. وهذا ما يفسر لنا ما أعلنته القناة العبرية (12) يوم الأربعاء الموافق 30\6\2021 "أن مسؤولًا كبيرًا في جهاز الشرطة الإسرائيلي صرّح في مقر الشرطة القطري خلال مباحثات داخلية أن المتورطين في آفة العنف والجريمة - من أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني - في غالب الأحيان هم من المتعاونين مع جهاز المخابرات -الشاباك- ولذلك فإن أيدي الشرطة مكبلة اتجاههم، ولا يمكن المس بهم لأنهم يحظون بحماية من قبل الشاباك.."، وما أعلنت عنه القناة العبرية (12) يتوافق مع ما بثته قناة "مكان" الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية في مطلع شهر 2 في عام 2022، على لسان كولونيل إسرائيلي متقاعد يدعى نسيم داوودي، مما يعني أن المؤسسة الإسرائيلية لا تزال تتبنى سياسة واضحة في تعاطيها مع آفة العنف والجريمة في مسيرة مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وهي سياسة تسهيل تمدد هذه الآفة فيه، لماذا؟ لدفعه للرحيل! وهذا ليس من باب الظن والتحليل، بل هذا ما صرح به بعض المسؤولين الرسميين الكبار في المؤسسة الإسرائيلية.


الصورة: من أرشيف "المكتبة الوطنية" في القدس.

الشيخ رائد صلاح

رئيس لجان إفشاء السلام المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا

شاركونا رأيكن.م