عِندَما التَقَيتُ بـ"النّكبَة" وَجهًا لِوَجه على أَرض غَريبَة!

في نهاية عام 2016، سافَرْتُ إلى مدينة سلونيكي في اليونان للتطوع مدّةَ شهر مع المهجَّرين السوريين، ضِمن بعثة مؤسّسة "هيومنتي كرو" الفلسطينية. أَدركتُ خلال هذه التّجربة الخاصة والمميّزة المَعنى العَميق للنكبة الفلسطينية الجديدة.

كُنّا مَجموعةً من المتطوعين الفلسطينيين مِن "الداخل"، عَمِلنا على افتتاح مدرسة لتعليم الأطفال المهجَّرين الذين كانوا يعيشون في الخيام داخل معسكر "ديافاتا" في ضواحي سلونيكي.

ما بَين مخيّمات اللجوء ومُعَسكَر ديافاتا!

بعد أن حَصَلنا على مبنى داخل المعسكَر، أعلنّا عن افتتاح مدرسة ابتدائية وإعدادية، وبدأنا بتدريس مواد اللغة العربية، والإنجليزية، والرياضيات. في اليوم الأول، جاء إلينا أطفالُ مِن عائلات هجّرتها الحرب الأهلية السورية، ومن بينهم عائلات فلسطينية كانت تقيم في المخيمات الفلسطينية في سوريا أو في مُدُنها المختلفة.

تشير المُعطيات إلى أن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذين عاشوا في سوريا قبل الأزمة بلغ نحو 600 ألف لاجئ، وقد هُجّر نحو 200 ألف منهم إلى خارج سوريا بعد اندلاع الحرب. ويمكن اعتبار هذا التّهجير نكبةً ثانية للفلسطينيين، إذ ذاقَ أبناء الجيل الثاني والثالث وربما الرابع مرارة التّهجير، وهم يحملون في ذاكرتهم روايات أَهاليهم المهجّرين من فلسطين، ويواصلون الحُلُم بالعودة إليها.

أنا ابن قرية الدامون، التي هُجّر أهلها في النكبة الأولى عام 1948 إلى قرى أخرى في الداخل الفلسطيني أو إلى الشتات في الدول العربيّة، ومنها سوريا. وقد استقرّت عائلتي في طمرة، القرية المجاورة، وما زلتُ أَنا وأهلي وأكثر من مليون فلسطينيذ من مَهَجّري الدّاخل نحلم – بل ويَنْشَط بعضُنا بجدّ – للعودة إلى البلدات التي هُجّر منها أهلنا من خلال تَجديد الأَمَل بالعودة من خلال تجذير الذاكرة ونَقلها من جيل إلى جيل، وتنظيم نشاطات العودة ومنها مَسيرة العودة السنويّة التي تنظّمها جمعية الدّفاع عن حقوق المهجَّرين ومجموعات ناشطين، على سبيل المثال لا الحصر لجنة أهالي الدامون التي تنظّم نشاطات دورية على أرض الدامون، ومنها أمسية العودة إلى الدامون السنوية ونشاطات عديده أخرى.

ها هو الفلسطيني المهجّر في وطنه يلتقي، في سلونيكي وللمرّة الأولى، بفلسطينيين هجّرتهم النكبة الأولى إلى سوريا، ثم هجّرتهم النكبة الثانية إلى أوروبا. لكن بَدَل أن ألتقيهم في وطنهم الأصليّ فلسطين، أو في وطنهم الثاني سوريا، التقيتُ بهم على أرض غريبة، في محطة لُجوء جديدة، بعدما خاضوا رحلات قاسية عبر البحار واليابسة، فقدوا خلالها إخوتهم وأبناءهم وآباءهم وأمهاتهم.

في ديافاتا، كانت العائلات ممزَّقة: أُمّ مع أولادها دون الزوج، أو أبٌ مع أبنائه دون الزوجة، أو أُسرة يَنقُصها أحد أفرادها. خرجوا من وطنهم الثاني بما تبقّى لهم من مَتاع، ودَفَعوا كلّ ما يملكون للوصول إلى برّ آمن، في رحلة لا يعرفون إن كانت نهايتها محطة أخرى، أم بداية جديدة.

غزّة.. حيث النكبة مستمرة

تشير معطيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى وجود نحو 5.9 مليون لاجئ فلسطيني، يعيش نحو 27% منهم في قطاع غزة، أي ما يقارب 1.593 مليون لاجئ، يُشكّلون نحو 67% من سكان القطاع.

عندما نتحدث اليوم عن نكبة ثانية في غزة، فإننا لا نقصد التّهجير خارج القطاع فحسب، كما لوّح بذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبعض القيادات الإسرائيلية، ومنهم وزير الزراعة آفي ديختر، الذي تحدّث عن "نكبة غزة 2023"، والتي – حسب قوله – تتسبب بها حركة حماس للفلسطينيين. وكأن إجبار الفلسطينيين في غزة على الانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه، أو العكس، يتم باختيارهم! وليس هو التّهجير القسري الذي تصنعه إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني في غزة.

نَقصد هنا التّهجير القسري الداخلي المتكرّر بفعل حرب الإبادة التي يتعرّض لها السكان. رغم التصريحات المعلَنَة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ومن زعماء وملوك وأمراء عرب، فإن شبح التهجير المتجدد والنكبة المتواصلة لا يزال يخيّم فوق رؤوس فلسطينيي غزة.

الناس في غزة يُجبرون على التنقّل من الشمال إلى الجنوب، ثم من الجنوب إلى الشمال، في دوامة لا تنتهي، هربًا من قصف لا يفرّق بين البيوت والمستشفيات والمخيمات، التي تأوي أصلًا مهجّرين من جولات سابقة من القصف والتدمير. ما يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة هو نكبة جديدة، 67% منهم هُم في الأصل لاجئون منذ نكبة 1948. وكأن قدرهم أن يعيشوا اللجوء مرةً بعد مرة.

بَين ديافاتا وغزة: هَل النكبة قَدَرُنا؟

ما يجري في غزة هو إعادة إنتاج للتجربة نفسها التي عايَشتُها في ديافاتا، لكن بشكل أَشد قسوةً وأَلَمًا ألف مرّة. هناك من لا يزال يناقش اليوم – في المحافل الدولية وبعض العواصم العربية – إمكانية ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى خارج الوطن، سواء إلى دول عربية أو أوروبية، تحت مسمّيات "الممرات الإنسانية" أو "المناطق الآمنة". لكن الفلسطينيين، رغم كلّ ما مرّ بهم، تمسّكوا بوطنهم، وتحمّلوا مرارة اللجوء داخله، وفضّلوها على علقم الغربة الجديدة في بلاد ليست بلادهم، وبين شعوب ليسوا منها.

بدأت حديثي عن اللاجئين الفلسطينيين من سوريا إلى معسكر ديافاتا، لكن السؤال الذي يَبقى: هل كُتب على الفلسطينيين أن يَعيشوا جَولات متكرّرة من النكبة؟ وهل سيفرض عليهم العالم إقامة معسكرات لجوء جديدة؟ سواء كانت خيامًا فقيرة على شاكلة ديافاتا، أو أحياء سكنية "مخمليّة" في دول بعيدة؟

هل سيُفرض علينا من جديد أن نُغادر، ويُطلب منّا أن نبدأ من الصّفر مرة أخرى... دون أرض، دون جذر، ودون أمل؟ أم أننا كما نحن نصنع من الألم أملا جديدًا، مؤكدين على أشعار درويش حين قال: "لي أمل يأتي ويذهب... ولكني لن أودّعه".

المحامي نضال عثمان

ناشط حقوقي وسياسي مِن مهجّري قرية الدامون، ومِن سكان مدينة طمرة في الجليل.

رأيك يهمنا