عن ثنائيّة الحضارة والبربرية: غباء الفكر اليميني الراهن

"الحرب على غزة هي حرب بين الحضارة والبربرية"

بنيامين نتنياهو، اثناء لقائه مع رئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس 

يلفت انتباه من يتابع الأحداث الدامية والحرب الشرسة على غزة، انتشار استعمال كلمة "بربري" لدى القيادة الاسرائيلية، السياسية أو العسكرية، لوصف مقاتلي حماس (أو كل فلسطيني). هي كلمة كررها بيبي نتنياهو في العديد من اللقاءات الأخيرة مع رؤساء دول وحكومات مختلفة، وأصبحت البربرية السلاح اللغوي الذي يلجأ اليه هؤلاء في محاولاتهم لكسب التعاطف العالمي بواسطة شيطنة الفلسطيني.

فما هو أصل كلمة بربري وما هو المعني الاجتماعي لهذه العبارة؟

للكلمة تاريخ طويل منذ أكثر من 2500 سنة: فهي مشتقة من الكلمة اليونانية القديمة "barbaros"، والتي تعني أجنبي/غريب أو شخص لا يتكلم اليونانية. استخدم اليونانيون هذا المصطلح لوصف أي شخص لم يتبع ثقافتهم ولغتهم، مثل الفرس والمصريين والفينيقيين، وكثيرًا ما ربطوه بالجهل والهمجية. بعد اليونانيين استخدم الرومان، الذين كانوا نفسهم يعتبرون برابرة بنظر اليونانيين، الكلمة للإشارة إلى جميع الأجانب الذين يفتقرون إلى التقاليد اليونانية والرومانية، وخاصة القبائل والجيوش المختلفة التي هددت إمبراطوريتهم في ألمانيا وشمال أوروبا. من أشهر الشخصيات التي وصفها الرومان بالبربرية كان القائد الجرماني "أرمينيوس" (Arminius) الألماني الذي هزم الجيش الروماني قرب نهر الراين سنة 9 ميلادية.

تم اعتماد الكلمة لاحقًا بالعصور الوسطى في اللاتينية والفرنسية، ودخلت إلى اللغة الإنجليزية في القرن الخامس عشر بمعنى "الطبيعة غير المتحضرة أو الوقحة". كما وحافظت على المعنى اللغوي الأصلي، ولذلك تعني أيضا "تعبير أو كلمة لا تتوافق مع الاستخدام الصحيح للغة". وقد استخدم هذا المعنى في الأصل للإشارة إلى خلط اللغات الأخرى مع اللاتينية أو اليونانية، وخاصة في النصوص التي تعالج الكتب الكلاسيكية القديمة. وفي وقت لاحق، أصبحت أكثر عمومية وأقل دقة، ويمكن أن تنطبق على أي لغة غير مناسبة أو غير صحيحة. اليوم، تُستخدم كلمة بربري بعدة لغات لوصف الشخص الوقح، أو المتوحش، أو العنيف، أو الشخص الذي يرتكب أفعالاً شنيعة. لكنه بالأساس ارتبط في القرون الاخيرة/ ولا زال أحيانا، بكلمة الحضارة (civilization)، حيث يصور البربري كشخص بدون حضارة.

إذا نحن نتعامل هنا مع مصطلحين هما وجهان لنفس العملة، حيث يعتبر البعض بأن ثقافتهم هي الأفضل من غيرها، ولذلك فهم أصحاب حضارة، وينتج حتما أن الآخرين هم البرابرة. أشدد هنا أن هذا المفهوم، من وجهة نظر علم الانسان، هو من مخلفات فترة الاستعمار حين سيطرت دول (أوروبية بالأساس) على مناطق شاسعة حول العالم بشكل عنيف. فالاستعمار على كل أنواعه هو عمل عنيف يمارسه من انتصر بالمعارك العسكرية على غيره. ولتبرير هذا الاحتلال للأخرين، قام المستعمرون بوصف أنفسهم أنهم أصحاب الحضارة، وأن لديهم أخلاقاً أفضل وأعلى من الشعوب الأصلانية التي سيطروا عليها. ولإكمال الصورة الاستعلائية، قاموا بوصف أبناء هذه الشعوب بالبرابرة أو المتخلفين (primitive) أو حتى المتوحشين (savages). وهي بالأساس الفترة الممتدة منذ القرن الخامس عشر حتى القرن العشرين، حيث انتشر استعمال هذه المصطلحات بشكل واسع، وارتبط مفهوم الحضارة بالقدرة على صناعة تكنولوجيا "متطورة"، بما فيها الاسلحة والسفن الحربية. ففرض الاستعمار قيم ومعايير ومؤسسات المستعمِرين على المستعمَرين، وغالبًا ما أدى ذلك إلى محو أو قمع ثقافاتهم ولغاتهم وأديانهم الأصلية.

هذه هي الفكرة الأساسية لتبرير الاحتلال على مدى التاريخ الاستعماري: هناك "مهمة حضارية" لنشر ال"تطور" عند البربريين ولو بالقوة. هذه المهمة الحضارية، "The civilizing mission" هي سمة موجودة في كل مكان نبحث عنه في أرشيف الحقبة الاستعمارية، وهي الخلفية التي يجب أن يُقرأ على أساسها. لا يمكنك الوصول إلى أي قصة سفر أو تقرير مهمة أو تعميم استعماري دون أن تصادف قوتها.   وهنا يكفي قراءة كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد حتى نرى مدى تجذر هذا الفكر الاستعلائي العنصري في ثقافة الاستعمار الرأسمالي.

وهنا على سبيل المثال من الممكن أن نذكر حقيقة لا ينتبه إليها البعض حول مفهوم جهاز التعليم الالزامي: هناك تشابه واضح بين النظام التعليمي الالزامي الذي لا زلنا نستعمله اليوم والنظام التعليمي العسكري الذي فرض بالقوة على الشعوب الأصلانية.  فأصل الفكرة وبداية تطبيق نظام يلزم كل الاطفال الذهاب إلى المدارس الحكومية كان يهدف إلى نشر "الحضارة" عند هؤلاء "البرابرة" - أي أنه نوع من فرض طريقة حياة جديدة على شعب لديه لغة وطريقة حياة مختلفة عن المستعمِر. استعملت المدارس لتغيير ثقافة الشعوب بالقوة، طبعا بواسطة وصفها وتسويقها كعملية إيجابيه وضرورية (لنشر العلم والمعرفة) ، ولكن اهدافها الاساسية كانت (ولا زالت في كثير من الامثلة حول العالم) تغيير نمط حياة الشعوب المحتلة في أفريقيا، وأمريكا، وأستراليا، وغيرها. 

اعتبر الحزب النازي مثلا أن الألمان هم أصحاب الحضارة الافضل، والدليل على ذلك كان (وفق وجهة نظرهم) الصناعات العسكرية والتكنولوجية الاخرى. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، والملايين الذين ماتوا تحت اسم الحضارة، وبعد انتهاء الفترة الاستعمارية، اكتسبت كلمة "الحضارة" مفهومًا غامضًا ومتنازعًا عليه، لا بل أصبحت كلمة غير محبذة الاستعمال في العلوم الاجتماعية والانسانية، كونها تحمل معانِ فوقية لمن يدعي الحضارة. واستبدلت بكلمة "ثقافة" الشعوب (culture)، ذات المعنى غير المنحاز. ولذلك يتم التشديد اليوم على مفهوم احترام الاخر، في "عالم متعدد الثقافات". وتزامنت بداية هذه التشققات في استعمال المصطلح بربرية مع اكتشافات علماء الانثروبولوجيا، السكان الاصليين في أمريكا لديهم مجتمعات ذات قوانين معقدة، وعادات اجتماعية واسعة ومتنوعة، وفيها منطق اداري كبير، لا بل إن الكثير من المجتمعات الأصلانية لديها حكومات ومجالس ادارية وقوانين بعد أن اعتبرت بأنها شعوب بربرية. مثلا اكتشف عالم الانسان هنري لويس مورغان (Lewis Henry Morgan) إن شعب الأوركوا (the Iroquois) هو جزء من تحالف سياسي واسع بين خمس شعوب أصلانية، والتي نجحت لفترة طويلة في صد الاحتلال البريطاني لأراضيهم في شمال شرق القارة الأمريكية.

يجب الشديد هنا أنه نظرا لاكتشاف علماء الانسان أن المجموعات البشرية لديها قدرات عقلية متشابهة، اي ان ابن القبيلة الافريقية المنعزلة التي لا تستعمل التكنلوجيا الحديثة لديه ثقافة وقدرات عقلية بشرية متشابهة مع البرجوازي الساكن في لندن، قد ساهم ايضا للتخلص من فكرة وجود سلم للتطور البشري من الهمجية والبربرية حتى الحضارة.

لكن كما يبدو، لا زال هناك بعض أصحاب القوة حول العالم ممن يستعملون المفهوم القديم لكلمة حضارة ولا يترددون عن وصف الشعوب الأخرى حول العالم بالشعوب البربرية. نلاحظ ذلك بالأساس لدى اصحاب الفكر اليميني المتطرف في العديد من الدول، وأصبح استعمال التناقض المتلازم دوما "حضارة/ بربرية" من الصفات المميزة للأحزاب العنصرية الاستعلائية. وقد يكرر التاريخ ذاته أحيانا، كما نرى في خضم الحرب على غزة: حيث يقوم المتفوق بأسلحته والمحتل بوصف نفسه بأنه صاحب حضارة عليا، وفي نفس الوقت يصف العلاقة مع الفلسطيني كعلاقة مع طرف بربري، وهو طبعا يريد بذلك التقليل من قيمة الانسان الفلسطيني وتحوله الى "وحش" ليسهل التخلص منه. لكن ذلك، على الاقل، يثبت مجددا أن الاحتلال فعلا وفكرا هو من مخلفات حقبة الاستعمار الغابنة.

د. رامز عيد

محاضر وباحث في العلوم الإنسانية بالجامعة المفتوحة

شاركونا رأيكن.م