هل سننجو من كلّ هذا؟!
نصحتني معالجتي النفسيّة عند زيارتي لها بعد نحو ثلاثة أسابيع من الإعصار بأن أكتب.
باغتني اعترافي السريع أمامها: أخاف أن أكتب ما أفكّر به.
في اليوم الأوّل للحرب، تلقيت مكالمة عادية من العمل لتكليفي بالتغطية الإخبارية، كانت عملية اختراق الجدار الأمنيّ الذي يحاصر قطاع غزّة من قبل حركة حماس قد بدأت قبلها بنحو ساعة أو أكثر بقليل، تجهّزت وودّعت ابنتيّ وخرجت إلى مهمّتي.
كان جليّا أن ما يجري - وإن لم تكن التفاصيل بعد واضحة – كان جليّا أنه حدث لم نعهده ولم نشهده من قبل بمقاييسه الأمنية، بمرور الساعات تكشّف حجم الإخفاق الاستخباراتيّ والعسكريّ الإسرائيليّ الكبير والعميق كما وبدأت ترشح قصص صعبة من غلاف غزّة والمناطق التي اقتحمها مقاتلو حركة حماس وغيرهم من الفلسطينيين كما قيل، دفعتني لأقف مع نفسي وأخوض كصحافية وكفلسطينية وكإنسانة في أسئلة قيمية صعبة كذلك، أسئلة حول الخطوط الحمر، وحول سياق التاريخ الممتد منذ أكثر من قرن، وحول النتيجة، أسئلة عن العدالة ومقاييسها، وعن دموية الصراع ودائرته المفرغة، أسئلة حول نتائج التاريخ الحتميّة وحول النتائج المباشرة لعملية "طوفان الأقصى"، ثمّ شعرت بالخوف والحزن الشديدين، حين فهمت في لحظة فارقة من الواقع كم هي خطرة، أغلال الإنتقام.
أتمنى أن تنشر هذه المادة في موعدها المحدّد وقد توقّفت الحرب، وأٌنقذت آلاف الأرواح البريئة. لكنّي أكتب الان ولأوّل مرّة بعد مضي ثمانية وأربعين يومًا من بدء العدوان الانتقاميّ الدمويّ على غزّة ولا عزاء جديّ في الأفق، ولا انفكاك حقيقيّ من حبل الرقابة الذاتيّة المشدود حول عنقي وعقلي كطوق من الشوك منذ بدأت هذه الحرب.
العدوان تخطّى مسطّحات الرد العسكري على الإخفاق العسكري ولم ينجح بعد بقطف أي إنجاز يحاكي أهدافه المعلنة، وتخطّى –إن كان في الأصل يجوز شيء كذلك- تخطّى خطوط الانتقام للمدنيين من المدنيين! وكشّف بالفعل وللمفارقة كما صرّح المسؤولون الإسرائيليون عن عالم ينقسم عاموديا بين الخير والشرّ، بل ينقسم بين غريزة الدم والقتل والتعصّب وغريزة العدالة الإنسانيّة والمساواة البشريّة والأمميّة.
حتّى الان أخاف أن اكتب ما أفكّر به تماما، فهذه الحرب الدمويّة فضحت أكثر فأكثر السوس الذي ينخر الديموقراطيّة الإسرائيليّة المدّعاة، بل أكثر من ذلك قد عرّتها تماما، حيث أننا هنا البقيّة الباقية المتشبّثة بوطنها نواجه آلة خلّاقة خطيرة من العنصريّة والتحريض والترهيب والملاحقة في أعمالنا وأفعالنا وأقوالنا وأفكارنا وهواجسنا ومشاعرنا، وفي تأويلها حسب قياسات المحظورات الاسرائيليّة الطارئة.
ورغم أننا ما زلنا بعد قادرين على الحركة والتنقّل من منطقة الى أخرى من دون الخضوع الى تصاريح خاصّة! إلّا أننا نشعر اليوم أننا نعيش – لربّما بسِمات عصريّة - حقبة تماثل الحياة التي عايشها آباؤنا وأجدادنا في ظلّ الحكم العسكريّ الذي امتدّ من العام 1948 وحتى العام 1966. وإذا ما حيّدنا جانبا حقيقة أن إسرائيل على اعتبار نشأتها السياسيّة والتاريخيّة وممارساتها المنهجيّة، هي دولة احتلال واستعمار وفصل عنصريّ بحسب التعريفات العلميّة والحقوقيّة، إذا ما وضعنا تلك الحقيقة على أهميّتها جانبًا، ونظرنا فقط إلى المنظومة الداخليّة لنظام الحكم في إسرائيل اليوم وتعاطيه معنا كأقليّة قوميّة وكمعارضة في العموم، فإننا في الحقيقة قد نكون في حقبة أخطر من الحكم العسكريّ وأشبه بأوروبا الفاشيّة ما قبل الحرب العالميّة الثانية.
يهيمن اليمين المتطرّف المهووس بالبطش على زمام السياسة والحكم، وتهيمن الفوقيّة القوميّة العنصريّة المطلقة والمدفوعة بأيديولوجيا صهيونية وصهيونية دينية متعاظمة على كوابح القانون والقضاء والشرطة والجيش والإعلام وتتغلغل في قواعد جماهيرية واسعة من المجتمع الإسرائيلي رغم الفروقات السطحيّة الطفيفة في عقليّته وتوجّهاته، مشرعنةً استخدام العنف ضد من يعارض تكميم الأفواه وسحق الحريّات ومناهضة الاحتلال وسياسات التهجير والاستيطان والحرب، وضدّ كل من يدعو الى تغليب العقلانية السياسية على غريزة الانتقام العمياء، والأخطر علينا كفلسطينيين أنّها جهنّم مشرّعة ضد كلّ من ينطق بلغته العربية الأم ويجاهر بهويته الوطنيّة في بلاده التي ليس لنا من بلاد سواها.
إنها فوقيّة قوميّة ودينية عنصريّة حاكمة ومهيمنة تستغلّ لإذكاء مخططاتها السياسيّة وشرعنتها دوليًّا وإسرائيليًّا مأساة اليهود في المحرقة وأيضًا مأساة الإسرائيليين في السابع من أكتوبر، وتنكر على اعتبار أنهم ليسوا بشرًا بل "حيوانات بشرية" تنكر مأساة الفلسطينيين المتواصلة منذ عقود، وخصّيصا مأساة أهل غزّة المحاصرة. مأساة تجدّدت منذ السابع من أكتوبر تحت شعار " سحق حماس" وشعار "تغيير الشرق الأوسط" على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلي بينيامين نتنياهو، من خلال تنفيذ حملة إبادة عسكريّة مرعبة ضدّ المدنيين الفلسطينيين، لم يتوان ساسة إسرائيليون في حزب الليكود عن وصفها بنكبة غزّة 2023.
لكن هذه المرّة هي "نكبة" بالبثّ المباشر يشهد عليها العالم كلّه، وفي العالم كما اتضح ضمائر حيّة كثيرة تنتفض رفضًا للظلم، لكنّها غير كافية بعد لإحقاق الحقّ التاريخيّ للشعب الفلسطينيّ بتقرير مصيره واستقلاله وحريّته على أرضه.
خلال هذه الحرب استشهد وأصيب عشرات الصحافيين واعتقل كثيرون، وأجزم أنّ البقيّة قلقة من التعقّب والمطاردة والملاحقة أو من الاعتقال والاعتداء أو حتّى الاغتيال. الصورة قاتمة جدًا، يشعر الصحافيّ بالشلل رغم نشاطه المحموم لنقل الحقيقة بأوجهها الواضحة والمركّبة، حيث أصبح العمل الصحافي بمثابة منطقة مزدحمة بالألغام، فعدا عن المخاطر خلال التغطية الميدانيّة لمناطق الاشتعال والمواجهة وانعدام الأمن الشخصيّ إما نتيجة بيئة قد تعاديك بسبب لغتك أو وجهك أو لوسيلتك الإعلامية وإمّا نتيجة تهديد الأسلحة الحربيّة من حولك، باتت معايير المهنة والصورة واللغة كذلك مصيدة خطيرة حين أصبح التعريف الإسرائيلي لما يسمّى " الإرهاب" والتماهي معه فضفاضا بل من دون "تعريفٍ" الى درجة لا يتصورها عقل ولا منطق، وأصبحت مهام العمل الصحافي البديهيّة تحت طائلة الشكوك والتهم الأمنيّة إذا ما كان الصحافيّ عربيًّا.. حتى ان شبكات الإعلام والصحافة في العالم أجمع تمرّ منذ بدء الحرب مخاضات نوعيّة في تعاطيها ونقلها وصياغتها للأحداث وأيضًا في مواجهتها للمحاذير والمحاسبة السياسيّة من جهة والمحاسبة الشعبيّة من جهة أخرى. للأسف نقلق كصحافيين اليوم على سلامتنا وسلامة زملائنا وعائلاتنا أيضًا، بشكل غير مسبوق.
أما الإعلام الإسرائيليّ فقصّته قصّة ومشكلته الرئيسية برأيي أنه يكذب على نفسه وعلى جمهوره بأعلى الصوت، ويختلق وهمًا بالمهنيّة والموضوعيّة والأخلاقيّة وهو قاب قوسين وأدنى من أن ينطق بدلا من المتحدّث العسكريّ للجيش الإسرائيليّ، وبدلا من رئيس الحكومة الذي استمات قبل الحرب بانتقاده على خلفيّة حالة التشظّي الإسرائيليّة تحت شعارات زائفة لحماية "الديموقراطية" في ظلّ ما عُرف بالإصلاح أو الانقلاب القضائيّ، فسبحان مغيّر الأحوال!
إنّ الحرب هذه بكل ما فيها تفتح أسئلة عميقة لدراسات معمّقة في مختلف العلوم الاجتماعية لتستخلص من هذا الإعصار الكبير الذي طغى على العالم، بل وقد يجرف معه المزيد من التطورات الحربيّة والسياسيّة.
السؤال الأوّلي الذي لم يفارق ذهني منذ شعرت باهتزاز العالم أمامنا جميعا منذ وعقب السابع من أكتوبر، وبعد كلّ ما نشأ فينا وسقط فينا، كبشر:
هل سننجو من كلّ هذا؟
وهل حقَّا سيقبل التاريخ بالأشجار التي تنحني حتى تمرّ العاصفة، فلا تنكسر فيها؟!
23.11.23