إِعلام الدّاخل الفِلسطيني: كَيفَ ولِماذا غَاب؟

الأسبوع الأول مِن الحرب على غزّة: الصدّمةُ سيّدة المشهد، عربيًّا، وفلسطينيًّا، وإسرائيليًّا ودوليًّا، حتّى لأولئك الذين كرّسوا دراساتهم وأبحاثهم وقراءاتهم، لاستشرافِ مستقبَل القضية الفلسطينية، على جانبيّ "الخطّ الأخضر."

أمّا الصحافيون، فهُم أمامَ تحوّل نوعيٍّ، حدَثًا وإحداثيّات، مُنتقِلين من تغطيةِ "انقلابٍ على القَضاء" -كما تسمّيه المعارَضةُ في إسرائيل- ومظاهراتٍ شبه يوميّة في أرجاء البلاد، إلى رَصد تَسارع الأحداث والحربِ التي أُعلنت إسرائيليًّا. وسطَ هذا وذاك، لم يُدرك أيُّ صحافيِّ، أن الحرب كذلك ستكونُ على "المِهْنة" وأدواتِها ومصطلَحاتِها ووجودها أَصلًا. لا حرّيةَ في الحرب، انتهى البيان.

الشَّهر الأوّل، وبعد استنفارِ الرّقابةِ الشعبية والسُلطوية الإسرائيليّة، اقتُحمت الرسائلُ التلفزيونية المباشِرة لمراسلي الحَربِ وصحافييها، اضطُّرت الإذاعاتُ المحلّية، وهي وسائلُ الإعلام الأقوى والأكثر تقدمًّا وتأثيرًا وشعبيّة داخل "الخطّ الأخضر"، اضطُّرت إلى "تحييد" قاموسِ مصطلَحاتها المُتّبع والمتعارَفِ عليه، منذ أكثرَ من عشرين عامًا، والتحييدُ هنا شرطُ البَقاء على الهَواء، كما خاضت الإذاعاتُ المحليّة صراعاتٍ قانونيةً إثباتًا لولاءٍ "مجهول الهويّة"، مع مَن ولِمَن؛ وبالتزامن مع ذلك، اتُّخذَ القرار، القناةُ الفضائية الوحيدة التي تبثُّ من الدّاخل، تُعلّق البثَّ، تُسرّح النشراتِ المسائية إلى أجلٍ غير مسمّى. انتصرَت الرّقابة والملاحَقةُ السُلطوية بفعلِ القوّة والإخضاع. كلُّ ذلك حدث توازيًا مع ملاحَقةِ الناشطين والصحافيين وحتّى مُتابِعي الأَحداث، مِن قبلِ عناصرَ شرطيّةٍ ومجموعات يديرها أنصارُ اليمين المتطرّف في إسرائيل، مجموعاتٌ لم تكتفِ بنشر ما كُتبَ أو تمَّ تداوله، إنما نشرت مَلفاتٍ تضمُّ كلَّ التفاصيل الشخصية والمهنية المتعلقة بالصحافيين والناشطين العرب. باتت البلاد أرضًا خصبة للتعبئة والتّحريض.

تَطويع اللغة والتوجّه العام واختزال مَساحات المُناوَرة التحريريّة

أمّا بَعد، ما كانَ مقبولًا لم يَعُدْ كذلك، فالسياسات الإسرائيلية مع الإعلامِ العربي الفلسطيني المحليّ، أيقنَت أنَّ الواقعَ الجديد يحتاجُ سُبلًا مغايرة في التحرير والرقابةِ والمتابعة، سياسةً تبنّت تطويعَ اللغة العربية والتوجّه العام واختزالَ مساحات المناوَرة التحريريّة، فلا "شهيدَ" في الحرب سوى القتلى الجنود، ولا "مقاومةَ" موجودة في الصياغات الخبريّة (حتّى وإن كانت حرفًا من تركيب اسم "حماس" الحركة التي تُحاربُها إسرائيل)، وبذلك تحولت "الدولة" إلى المحرّر والمُحاور والمحلّل والقاصّ لرواية واحدة ووحيدة، رواية الجيش الإسرائيلي. أمّا أرباب المؤسَّسات الإعلامية العرب، المؤسسَّات التي تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، فَصَمتوا قليلًا، وكانت البراغماتية والمسارات القانونيّة، مَلاذهم.

لماذا كان الإعلام العربي هشًّا وغيرَ مُتَماسك؟

قبل اندلاع الحرب بيوم واحد، لم يكُن المشهد الصحافي والإعلامي الفلسطيني داخل "الخطّ الأخضر"، ورديًّا، مُتطورًا ومتماسكًا، أو حتى ذا مساحات متجانسة وفرص مفتوحة، بل كان مرتهنًا للإعلام الإسرائيلي وأجسامه المُختلفة، فالإذاعات "الذراع الإعلامي الأقوى" تعمل تحت مظلّةِ سلطة البثّ الثانية، والمؤسسات التي تقدّم التدريبات والاستكمالات المهنية، تنظّم الدورات في صحفٍ أو قنواتٍ إسرائيليّة، وحتّى الصحافيون الجدد، لا يجدون مساحةً للتعلّم والتدريب إلّا هناك، و"هناك" مختلفٌ ومغايرٌ تمامًا عن "هنا"، "هنا" في المجتمع العربي الفلسطيني الأصلانيّ، حيث تغيبُ المؤسسات الإعلاميّة، والصناعةُ مَريضة بقلّةِ الإمكانيات وتراكميّة التجربة والخبرة (تحديدًا الإعلام المرئي والمسموع). هذا كلّه جعلَ مما يُنتَجُ عربيًّا في الداخل الفلسطيني، بعيدًا عن الاستقلالية، قريبًا من الارتهانِ للتغيّرات السياسية والمؤسساتِ السلطوية الإسرائيلية، وكتحصيل حاصل، ومنذ اليوم الأول للحرب، كان الإعلامُ هشًّا، دون ظهرٍ أو مرجعيّة، وسهلٌ هو لَيُّ ذراعه. 

الماكِنة الإعلامية في الحُروب والأَزمات وحاجتُها للمَأسَسة والتّنظيم

إلى ذلك، من يظنُّ أنَّ تقدمًا قد يَهبط من السَماء في المشهد الصحافي/الإعلامي، هو مخطئٌ، فالأزمةُ والحروب، إنما هما مختبر، وبتقديري، ما لم يُأسس لإعلامٍ مستقلٍّ ووطني وغير حزبيٍّ ومُتماسك، فلن نتفاجأَ من تلاشي ما بَقي من الصّحافة والإعلام، ولن نُصدم من تكميم الأَفواه بمنسوب أكبر، عند حدوثِ أيّ أزمة أو حرب مُقبِلة.

قبلَ عقود، كان أيُّ مبادرٍ مُستقلّ، يحتاج مُوافقاتٍ ومسارًا بيروقراطيًّا طويلًا ومضنيًا وعلاقات واسعة، من أجل استصدار رخصةٍ لقناة إعلامية في البلاد (راديو أو تلفزيون، لاقتصار المشهَد على الإعلام التقليدي)، أمّا اليوم، فالحالة مختلفة، الإمكانياتُ مع الثورة التكنولوجية، تُحتّم على صنّاع "المعلومة"، علينا، تبني مساراتٍ أقصر وأبسط، للبثّ والإنتاج والبناء الإعلامي اليوميِّ في المجتمع العربيِّ داخلَ "الخطّ الأخضر"، لألا يرتَهن لأجسامٍ لا ترى العربيَّ إلا مستهلِكًا لإعلاناتِ المتاجر والمطاعم وقطاعات الترفيه عمومًا، والحلُّ هنا.. استثمارٌ ماليٌّ، مشروع إعلامي جامعٌ ومستقلٌّ متجانس وغيرَ مَنوط بالمؤسسة وأَذرعها.

أمير الخطيب

مذيع وصحافي، مقدّم للنشرات والبرامج الإخبارية والحواريّة التلفزيونية والإذاعيّة 

رأيك يهمنا