بيتُك بِلا جُدران؟ اقْبَلْ تَهانينا بـ "العِمْدان"!

اشتعل الرأس شيبًا لعام وثلاثة أشهر، نتلقّف مشاعِرنا ونَخيطُها نَضَع مئة صخرة فَوقها، فقط نُريد أن تَقف الإبادة أن تخلو السّماء مِن الطائرات، نُريد حياة بلا طائرات، بلا قصف، بلا تفجيرات، بلا قَتل وأعداد شهداء وجرحى، لقد خارت قُوانا حتى نكاد أن نصرخ لكنّنا نعود ونَخيطُ مشاعرنا ونضع حَجَر صُوان فوقها، فبتنا كبركان هادر تتصاعد أبخِرته فنكاد نختنق بعَبَراتنا، بقهرنا بوجعنا لكنّنا جميعا نهدئ أنفسنا وبعضنا بأن ما نتمنّاه هو أن تَقف الحرب وتَقف المَجازر الآن..

الآن أصبحنا في اليوم العاشر من الهُدنة، وجاء صَفيح ساخن بجمرات متّقدة حديثًا مرّت على كلّ آلامنا، يَهرع الأهل سيرًا على الأقدام بينما لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي تجوب أنحاء رفح، حيث تزال هنالك مَناطق حمراء، ولا يزال الشّهداء يتساقطون كأنما رفح في زمن وبُعد آخر!

كلمات المواساة لم تَعد ذات قيمة، فما نلفُظه فيما بيننا يفوق الخيال، هكذا وبدون مقدّمات ودون توصيف، البيتُ محترق بدءًا من الدور الأرضي، الأثاث بات رمادًا، الحيطان سوداء كالحة، الحُطام يملأ الصالون، الحيطان متساقِطة، جزء خلفيّ من البيت بلا جدران، كأنما داسَتها دبّابة من الخَلف، أمّا من الأمام فهنالك سور البيت والمدخل بدرجاته الثلاثة عشر التي أحفظُها عن ظهر قلب قد داستها دبّابة أخرى، فقد أصبحت مهروسة بينما نَجَت بضع دَرَجات منها، السَّواد يُغَطي كلّ شيء، لم يَبق شيء، هناك الدور الثّاني حوله جنود الاحتلال الإسرائيلي إلى مَصيَدة وقد اتّخذوا من الشُرفة (البلكونة) مكانًا للقَنص، فهناك مئات الفَوارغ وصَناديق الرّصاص، وعَشرات العبوات الفارغة من القنابل، المَكان أسود والجُدران متهدّمة لم أعرف البيت أو بقاياه .. صُدِمت مِن مَشهد بيتي الذي عملت أكثرَ من 22 عامًا أنا وزوجي كَي نبنيه بعَرَق الجبين، كما كلّ فلسطيني مكافح بالقليل لأجل أن يكون له بيته الخاص، فهذا البيت الذي أحرقُه جنود الاحتلال وأحرقوا معه ذكرياتنا وصورنا وثيابنا وأثاثنا وأوراقنا، رمادٌ، أكاد أشمّ رائحة الاحتراق، أكاد أرى السّواد ولا يمكنني أن أفرّق بين غرفتي والغرفة المجاورة وبين الصالون، الحجارة تئن ألمًا وكمدًا من مشهد يعتَصر قلبَ كلّ من زاره أو عاش فيه، كلّ الدفء تحوّل إلى ركام، لكن المُفارقة أنني أبدو قادمةً مِن عَصر آخر، فالجميع يهنئني!

لم أَفهم! بَذَلْتُ جهدًا كبيرًا كي أفهم وأدرك ما يشعره أهلي وأحبّتي في رفح، نعم لقد اعتصر قلبي الألم على بيتي الذي بنيته مع زوجي وتعبنا ونحن نُجاهد كي يكون بيتنا وبيت أولادنا مِن بَعدِنا، لكن التهنئة كما قالوا لي لأنّ (عمدان) البيت لا تزال قائمة ولم يتكئ على وجهه، البيت محترق لكّنه سيبقي ناجيًا لا تخافي، لا تجزعي، البيتُ بلا جُدران، اهدئي ليس الأمر جللًا لو نظرت لمَن حولك في الحارة وفي الشارع لعلمت أنك صاحبة بيت ناجٍ من المذبحة؟! رفح منطقة منكوبة، معظم البيوت سوِّيت بالأرض فباتت رمالًا وركامًا على مرمى البصر! ما هو مفهوم النجاة؟ البيوت حولك مادَت في الأرض، هنالك سَقف قد نجا رغم التشقّقات، رغم الحريق، رغم ورغم ورغم، إلا أنه قد نجا ببعضه ولبعضه...!

كتَبَت صديقة في رفح: "لم أظن يومًا أني سأحسُد أحدًا على رُكام بيته، فبيتي لم أجد ركامًا له؟!

وقالت أخرى: "لم أعرف الطّريق لبيتي، لم أعرف الشّارع، كلّ البيوت مقتولة بجانب بعضها".

وقال آخر: "بيت المخيّم مَهروس، بيت أهلك "مهروس هَرْس"؛ حجارة بعضها فوق بعض، لم نعرِف البيوت من بعضها".

أما أخي فقال: "بيتي لم يبقَ فيه إلا الباب والمُفتاح، لم يبق شيء!".

وقال أخي الثاني: "دُمّر البيت، لا يمكننا إخراج شيء صالح مِن البيت، لا أثر لمقعد أو دولاب خشبيّ أو أَريكة، لا أَثر إلا لحجارة قاسية مكلومة"!

أما أم الشهداء فقالت: "أريد أن أرى حجارة البيت كَي أشم رائحة زوجي وأولادي، ربما أجد عظامًا مع الحجارة لأدفنها في قبر ويرتاح قلبي!".

وفي اليوم الأول من الهُدنة صَرَخت الأم وهي تقبّل جمجمة ابنها: "أجيت يم يمّا، والله حسّيت فيك، جيتك يما هيني وحضنت عظامك، والله جيت يمّا".

البكاء سيّد الموقف الآن، البكاء الذي لا يتوقّف تمامًا كانهمار المطر، لكنهم استكثروا علينا البكاء فعادوا في رفح يقتلون الأطفال والرّجال، توقّف البكاء وعاد القَلَق والهَلَع على الأهل والأحبّة، المناطق في رفح لا تزال خَطيرة لا يُمكن حتى التّفكير في ما يُمكن القيام به، هذه أوقات عصيبة، صفيح مغليّ بقَهرنا وحزننا وإنسانيتنا، يُباركون لي عِمدان الدار وقبِلتُ التهنئة بعدما رأيت ما لا تَراه عَين، وبعدما أيقنت أن الوجَع الكبير المتجذّر الآن في قلب وروح كلّ غزيّ يقول لك: أنت بخير ما دام لديك حائط واحد تستند إليه، أنت بخير ما دام هنالك سقف ولو غرفة واحدة يسترانك عن العيون، أنتَ نجوتَ ما دُمت عرفت الطريق إلى البيت، أنت قد نجوت من الهلاك القادم لا الراحل إذ وجدت بابًا يغلق عليك ويردّ لأهلك بعضًا من خصوصيتهم المسلوبة، وأنت ستكون بحال أفضل إذا لم تكن في الخيمة المهترئة لسنوات قادمة!

لغزّة قاموسها في المُواساة، لغزة ما لها من كلمات قد تبدو الجُنون بعينه، فمن يبارك لك وقلبك محترق كما البيت بأن بعضًا منه قد نجا، لغزة جنونها وعظمتها وقدسيّتها، ولنا-يا وحدنا لسنوات قادمة ولنا ما ليس لكم!

الحمد لله والشكر لله والامتنان من القلب على سلامة بعضنا، فقد جعَلتنا أم النّكبات بقلوب وأرواح لا تشبه قلوب وأرواح من لم تمضُغه الحَرب، وتَقلب حياته رأسًا على عقب...!

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

رأيك يهمنا