هل تحرّيت درجتك في "مقياس آينشتاين"؟

إن كنت ممن لم تسترعي اهتمامهم الأخبار العلميّة من قبل ولم يسمعوا عن أن إحدى جوائز نوبل العام الماضي حيزت في علمِ الوراثة لتقنية كريسبر للهندسة الجينيّة، أو عن غزو الفضاء والابتكارات الحديثة كتقنية مسبار جيمس ويب والصور المذهلة التي أرسلها لنا للمجرات، ولربما لم تصلك بعد أخبار الاكتشافات البحثّية في مجال الطب ونجاح العلماء في تنميّة أجنّة لفئران خارج الرحم. ومن المحتمل أنه وحتى وقت ليس ببعيد كان كل ما يشتق من الجذر ع.ل.م كان يقبع في ذهنك ضمن خانة الأمور المستعصية والبعيدة، وفي أفضل الحالات، في سيناريوهات قصص الخيال العلمي وأفلامه إن كنت من هواتها.

لكنك حتمًا لا بدّ وأنّك اضطررت مجبرًا لا بطلًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة على التطرّق للعلوم وخاصة أبحاث علوم جهاز المناعة وأخبارها، على إثر جائحة كورونا التي سيطرت على العالم والبشرية في قطاعاتٍ عديدةٍ، وأعادت صقل هيئة الحيّز البشري العام من جديد.  فهل استطاعت الأزمات العالميّة -كالجائحة على سبيل المثال لا الحصر- حقًا أن تغيّر نظرتنا للعلوم وأن تشكّل وعيًا ثقافيًا علميًا جديدًا لدينا؟ وما شكل الوعي الذي نحتاج، وما أولوية وأهميّة التثقيف العلميّ في عصرنا الحالي؟

ربّما يكون من المبكّر الإجابة بقطعيّة على كلّ هذه الأسئلة، فصنع الوعي إزاء أمرٍ ما هي سيرورة معقّدةٌ ذات أبعادٍ شتّى، فكيف بالحري العلوم التي لطالما اتّسمت بالتعقيد والصعوبة، ولا تزال في نظر الكثيرين حكرًا على العلماء أو"العباقرة"، ولربما تتبادر إلى أذهان الكثيرين صورة آينشتاين الأيقونية المجنونة، أو "فلاش باك" لإحدى تجارب ناسا في الفضاء…وحقيقةً لا أكتب هنا لأجيب عن هذه الأسئلة بقدر ما جئت لأعرّج عليها وأطرحها على الطاولة، ولأخوض في بعض النقاط في محاولةٍ لتسليط الضوء أكثر على اصطلاحٍ لربّما غير مألوفٍ ألا وهو "التثقيف العلميّ"، والذي هو كحالِ كثير من المجالات في العالم عامةً وعالمنا العربيّ على وجه الخصوص، لم يلقى التفاتًا واهتمامًا ولا حتى تمويلًا كافيًا حتّى يومنا هذا.

وعي البشرية بأهميّة التثقّف ليس حديث العهد، فقد عبر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 - 1778) منذ أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمان، من خلال خطابه الذي قدمه إلى أكاديمية ديجون في عام 1750، عن أثر تقدم العلوم والفنون على الأفراد. أما في عالمنا الحاضر الذي يتّسم بالسرعة والحداثة والجنون فالثقافة العلمية التي تعتمد على العلم الصادق، وليس على الوهم أو المبالغة، باتت حاجةً أساسيّة للبقاء ومواكبة الأحداث وليست رفاهيّةً بالإمكان الاستغناء عنها. إذ أننا نقف اليوم مواجهين لتحدّياتٍ جديّة، كإيجاد حلول لاختلال النظم البيئيّة وأزمة الاحتباس الحراريّ التي تهدد الكوكب من جهة، واحتواء الأوبئة والأمراض المعديّة وتطوير خطوط دفاعٍ متينة من جهة أخرى، وتطوير خدمات الرعاية الصحيّة عامةً حول العالم. ولنفترض أننا استطعنا بشكلٍ ما أن نسيطر على ما سبق فسيتبقى علينا مواكبة التطور التكنولوجي المتسارع بجنون وهذه مهمةٌ صعبةٌ ذات تحدّياتٍ متفرعةٍ بحد ذاتها. ولكي نستطيع مواكبة هذه التحديات ومواجهتها كمجتمعات، تدفع بنا الحاجة إلى الولوج بثقافتنا العلمية إلى جميع الأطر العلميّة لنخلق حولنا مناخًا علميًا مواكبًا للعصر ولحاجاته. ولكي ننجح في خلق هذا الفضاء، نحتاج أولًا لمحو الأميّة العلميّة لسكان هذا الكوكب.

وإذا خرجنا من نطاق العامة والمجتمع وتخصصنا أكثر في الأفراد، فإنّ توفر الثقافة العلمية لدى الأفراد يوفر لهم القدرة على التفكير المنطقي والنقدي في مختلف الأمور التي تواجههم وعلى فهم العالم وما يجري فيه بصورة أفضل وأوضح، ويساعدهم على حل بعض المشاكل التي قد تعترضهم.  كما ومن شأن هذه الثقافة جعل حائزيها يتسمون بالعقلية الرقمية التي تدفعهم إلى استخدام الأرقام في عرض آرائهم، وتجنب الأساليب الخطابية المرسلة.

بالإضافة إلى كل ما سبق فإنّ الثقافة العلمية توفر مهارة استخدام الاصطلاحات العلمية السليمة، وتسخير التفكير النقديّ في تحقيق الأهداف، وتحول الفرد من "لاعب طاولة" إلى "لاعب شطرنج"، أي من ممارسة حياتية بطريقة عشوائية تعتمد على الحظ والصدفة إلى التفاعل مع الأمور الحياتية اعتمادًا على إمعان الفكر.

قوتُنا اليوميّ من العلوم


يشتمل "التثقف علميًا" في مضمونه على ما هو أبعد بكثير من مجرّد دراسة العلوم أو فهم النظرياتٍ العلميّة، ويتحقق هذا المعنى الذي أقصده حين يجعل المرء الأفكار العلميّة ذات معنًى في حياته اليوميّة ليعيش ويغيّر ويتصرف بحسب ما يمليه ذلك المنطق العلميّ على الموقف. فيفيد ويستفيد ويوفّر ويستزيد ويحمي نفسه وغيره في حالاتٍ أكثر مصيريّة، من نشر عدوى وبائيّة قاتلة مثلًا إذا ما استشهدنا بجائحة كورونا. ففهم العلوم قد يفيدنا في المطبخ فيوفّر علينا وقتًا ثمينًا ومالًا في تخمير العجين، فقط  إن فهمنا  طرق تنشيط الخميرة الطبيعيّة، أو الفروقات الكيميائية بين مسحوق الخبيز (البيكينغ باودر) وصودا الشرب وبأنّ الأخيرة مادة حامضيّة بحاجة لأحماض في الخليط لتنشط وتتفاعل ويثبط هذا التفاعل عوامل كالحرارة والرطوبة، في حين أن مسحوق الخبز مركّب من مادتين حامضية وأخرى قاعديّة فلو أردنا استخدامها للحصول على التفاعل المطلوب وكعكة منتفخةٍ جميلة، فعلينا خلطها في سائل وتفعيل مصدر حرارة !

وإن لم تكونوا من هواة الطبخ والخبز، فلا بد وأنكم من محبي الطعام والأكل، مما يستدعي التثقف علميًا في علوم الفيزيولوجيا وعلوم التغذية وفهم جهازنا الهضمي وتأثير الأطعمة المختلفة عليه، وفي ذلك سبيلٌ رائعٌ للحفاظ على الصحة والشعور الجيّد عامةً، والوقاية وعلاج أمراض قد تُلمّ بنا!

أما الفيزياء، فهي إحدى العلوم التي تحيط بنا وترافقنا على مدار الساعة في دوران الكرة الأرضيّة، في طلوع الشمس علينا في الصبّاح، وحركة الرياح وفي الكهرباء التي تسري  بزرٍ نضغطه لنضيئ غرفة أو  لنسخن الماء للاستحمام أو شرب كوب من القهوة أو نشحن تقريبًا كل شيء نستخدمه ليسهّل حياتنا. في تفضيلنا لسلك طريق أقل ازدحامًا أثناء قيادتنا السيارة، في الجاذبية وحركة الأجسام من حولنا وقدرتنا على توقعها بشكل نسبي، مرورًا بالآلات التي تسيّر أمور حياتنا وحتى قدرتنا البشرية اليوم على غزو الفضاء.

وإن تبحّرنا أكثر في علوم الطب وجهاز المناعة لتعمق فهمنا لأجسامنا وردود أفعالنا وأفعال الآخرين أكثر، فسنعي أكثر مثلًا أن  شعورنا بالألم غريزةٌ بقائيّة، وإشارةٌ يستخدمها الجسم لإخطارنا بأنّ أمرًا ما يستدعي منّا إما الإبطاء في الوتيرة والراحة، أو مساعدته عن طريق علاج خارجيّ. سنعي أكثر أسباب شعورنا بالتعرق وبتسارع نبضات قلوبنا عند التوتّر. وإن فهمنا أن بعض الأمراض الرشحيّة كالزكام مثلًا قد يسببها مصدران مختلفان إما بكتيري وإما فيروسي، والأول يعالج بالمضادات الحيويّة (Antibiotics) في حين أن الفيروسات لا تؤثر فيها هذه المضادات، وبأن تعاطيها في مثل هذه الحالات هو ذو تأثير ضار على البيئة البكتيرية الجيّدة في الأمعاء، وقد يكون لذلك تبعاتٌ صحيّة خطيرة على المدى البعيد، حين ندرك الأمور من خلال المنطق العلميّ المتصل بالسياق، فلا بدّ وأن نصبح أذكى بالتعامل مع أجسامنا وبالحفاظ عليها، وحين نفهم أكثر حول هندسة اللقاحات ومركباتها وعن كونها أداةً ناجعةً لتحفيز الجسم على إنتاج مضادات وتدريب جند الدفاع وخلايا الذاكرة في جهازنا المناعي على معرفة شكل الفيروس والاستجابة بسرعة ونجاعة، لن تنطلي علينا المعلومات المضللة ونظريات المؤامرة التي أسهمت -ولو جزئيًا- بأن تودي بحياة أكثر من 6.6 مليون إنسان حول العالم منذ اندلاع الجائحة (وفق إحصاء موقع Coronameter). 

إتاحيّة المعلومة - سيف ذو حدّين

في حين أن إتاحيّة الوصول إلى المعلومات في عصرنا، عصر الثورة المعلوماتيّة والرقمنة، هي في أوفر ما عرفته البشريّة، فبكلمة مفتاحيّة ونقرة ينكشف بحرٌ فسيحٌ من المعلومات، إلا أنّ هذا البحر يحوي بداخله ما قد يضلّل أيضًا في ظل الرقابة الركيكة على سلامة المحتوى العلميّ الرقمي. وهنا تكمن ضرورة أن يمتلك الباحث عن الإجابات وعن المعرفة الأسس السليمة للتعامل مع المعلومات المتلقاة كنتائج بحث أو كرسائل واسعة الانتشار عبر شبكات التواصل على اختلافها، وانكشافًا صحيحًا على طرق تمييز المعلومات الصحيحة من المضللة، والمصادر الموثوقة من تلك الزائفة أو غير المهنيّة، فلا شك أن ثقافتنا العلمية سيزيد اعتمادها على الشبكة الإلكترونية يومًا بعد يوم.

وعربيًا ففي ظلّ شح الموارد العلميّة المكتوبة باللغة العربيّة المبسّطة، يترك ذلك مجالًا واسعًا لتأويل عديد من الظواهر والقضايا العلميّة المثارة، كما شهدنا في أزمة كورونا من مناهضات غير واعيّة ولا مدعمةٍ علميًا للقاحات، واستهتارٍ وصل حد الإنكار والضرب بعرض الحائط بصحة وجود فيروس كورونا أصلًا، أو كما هو الحال في كلّ مرة يغيّب فيها المنطق العلميّ تظهر نظريات المؤامرة على تنوّع رواياتها. وقد أثبتت لنا الجائحة أهميّة إتاحة مضامين علميّة واضحةٍ ومبسّطةٍ بلغةٍ يألفها متلقيها مهما كانت خلفيّته الثقافيّة، مدعّمةٍ علميًا وملاءمةٍ ثقافيًا وحضاريًا، وهنا دور ذوي الاختصاص في تيسير مثل هذه المضامين وإتاحتها للعموم.

ومن المثير حقًا أن ندرك أن العلاقة بين الجمهور العام في مجتمع ما من جانب، والصفوة من أهل العلم من جانب آخر، والذين بيدهم تيسير المضامين والموارد العلميّة بمهنيّةٍ لتكون مصادر معلوماتيّة موثوقة، هي علاقة متبادلةٌ ذات اتجاهين، فإذا ما حرص مجتمع ما على دفع الصفوة لإشاعة الثقافة العلمية بين عموم الجمهور وتم توفير الآليات المحققة لذلك، فإن عموم الجمهور المثقف علميًا سيشكل عندئذ رافعةً للمجتمع ولنخبة أهل العلم لكي يعملوا على تحقيق إنجازات علمية على مستوى رفيع من شأنها أن تنصب في مصلحة هذا المجتمع والبشرية بشكل عام. إذن فالعلاقة بين الحاجة للمحتوى العلميّ الميسّر وطلبه وبين إنتاج هذا المحتوى على مستوًى مهنيّ هي علاقةٌ تكامليّةٌ وثيقة، وإن وُجدت في الحيّز العام فسيكون هذا بحد ذاته قوّةً ضاغطةً على المؤسسات المختصة والحكومات لتموّل بدورها هذه الحركة الإنتاجيّة وتولّيها العناية والاهتمام الذي يتناسب مع أهميّتها.

يقول د. منير الجنزوري في كتابه "الثقافة العلمية ضرورة في المجتمع المعاصر" وهو كاتب وباحث في بيولوجيا الخليّة: "الثقافة العلمية تعمل على تعظيم القدرة على تحليل المعلومات المتاحة وربط القضايا بعضها ببعض على وجه سليم، وتوليد أفكار جديدة تخدم الفرد والمجتمع، حيث تستهدف الثقافة العلميّة إكساب الفرد الطرق إلى المعرفة، وليس فقط تزويد الفرد بالمعرفة. وبالثقافة العلميّة نستطيع أن نتخذ موقفًا سليمًا وإيجابيًا ضد من يوظفون العلم لأغراض غير سوية".

ربّما حتّى زمنٍ ليس ببعيد سرى الاعتقاد بأنّ العلوم هي رافعةُ البشريّة، لكننا اليوم على ثقةٍ أكبر من أي وقتٍ مضى بضرورةِ  إشاعة الوعي العلميّ للعامة وعدم حصره لدى نخبةٍ من النّاس، لأنّه بالفهم العميق للعلوم سنتمكن من عيش حياةٍ أكثر أمنًا وصحةً وتطوّرًا دون شك، ولن يتحقق هذا حتّى تنصب جهود أصحاب التأثير والحكومات بصورةٍ متناغمةٍ لإتاحة وتيسير المحتوى العلمي الموثوق بكلّ لغات أهل الأرض، ليتحرّى بعد ذلك كلّ منّا ضمن وتيرته، على أي درجةٍ يقف في "مقياس آينشتاين" الوهميّ الذي صنعته رهبتنا المتوارثة من العلوم.

رقيّة صبّاح - أبو دعابس

حاصلة على ماجستير في أبحاث جهاز المناعة والسرطان ومحررة موقع دافيدسون للعلوم بالعربيّة 

شاركونا رأيكن.م