كيف ستُغيّر التكنولوجيا وجهَ قطاع الصحّة في العام الجديد؟

تنقضي السنوات ومعها يتغير عالمنا بوتيرةٍ مُتسارعةٍ وغيرَ مسبوقة، مصحوباً بتطورات تقنيّة هائلة تُعيد هيكلة العالم من حولنا وتلقي بظلالها وتأثيرها على عدة اصعدة أبرزُها مجالات الطب والصحّة. إلى جانب هذا التطور الهائل، يزدادُ في المُقابل استفحال الأمراض المُزمنة والمستعصية كأمراض القلب، السرطان، السكري وغيرها وذلك نظراً لنمط الحياة السريع وغير الصحّي، الضغط النفسي، زيادة نسبة التلوّث والعوامل البيئية الأخرى لتصبح هذه الامراض أكثر تعقيداً وأوسعَ انتشاراً. ويأتي هذا مَصحوباً بظهورِ أمراضٍ وجوائح جديدة لم يبسق لنا التعامل والتعاطي معها، وهو ما يؤدي، بالتالي، إلى ارتفاع نسبة انتشار الأمراض وعدد الوفيات حولَ العالم. وأبلغ مثال على هذا هو "تجربة الكورونا" حيث قوبلنا بوباءٍ غير معروفٍ ولا نملك الأدوات والخبرات اللازمة للتعامل معه ومُجابَهَتِهِ. كل هذه العوامل والمُسبّبات دفعت بنا إلى استحداث وابتكار تقنيات جديدة وتسخير التطوّر التكنولوجي لمساعدتنا على مواجهة الأمراض والاوبئة المُختلفة.

كيف أدّت الجائحة الى تسارع التطور التكنولوجي؟

 وفقَ تقرير لشركة ماكينزي العالميّة، ازداد استخدام الأدوات والخدمات الصحيّة التكنولوجية عن بُعد بـ 38 ضعفاً عمّا كان عليه ما قبل الجائحة. ويعزى ذلك إلى تَبِعات الوباء التي أدت إلى تشكيل الكثير من الضغط على المشافي والأطباء، وهو ما نَجَمَ من عدة عوامل أبرزها عدم امتلاك الطواقم الطبيّة المعرفة الكافية بمكنونات المرض وكيفيّة علاجه والتعامل معه، إنشاء أقسام خاصة في المستشفيات وفصلها عن بقيّة الأقسام، النقص في الأسرّة الطبيّة والنقص في الطواقم الطبيّة والتمريضيّة. من جانب آخر، ازداد الاحتياج للأدوات التكنولوجيّة، لأنّ العديد من المرضى ـ وبالأخص أولئك الذين يعانون من أمراضٍ مُزمنة، كبار السن، والمُصابون بأمراض مُستعصيّة تحتاج إلى مراقبة طبيّة صحيّة متواصلة ـ امتنعوا عن زيارة المشافي والأطباء خوفاً من التقاط العدوى، حتى ولو كان ذلك لغرض إجراء فحوصات روتينيّة بسيطة كفحوصات الدم وغيرها، وبالتالي، اعتادَ المرضى على التزام البيت رغم الحاجة إلى مراقبة وتحليل وضعهم الصحّي عن كثب الأمر الذي أدى الى تدهور حالتهم الصحيّة في الكثير من الأحيان. علاوةً على ذلك، تُعتبر غالبيّة الوسائل التي يتم استخدامها اليوم لتحليل وتقييم الحالّة الصحيّة وسائل تقليديّة وتفتقر إلى السرعة والراحة وتشمل فحوص الدم التقليديّة، استخدام أجهزة ثقيلة ومعقّدة والاعتماد على خبراء لإجراء الفحوصات وتحليلها ولذلك، فهي تتطلب بالتالي إجراءات طويلة وتستهلك الكثيرَ من الوقت. على سبيل المثال، فحوصات الدم التقليديّة تتطلب تحديدَ موعدٍ، الذهاب جسدياً إلى عيادة المرضى وهناك يتم استخدام إبرة وخزتها مؤلمة لاستخراج الدم بواسطة الطاقم الطبّي، ثم إرسال العيّنات إلى مختبرات خاصّة لفحص نسبة المتغيّرات الصحيّة الحيويّة لدى المريض والانتظار حتى صدور النتائج. جميع هذه العوامل غيّرت نظرة العالَم إلى التطورات التكنولوجيّة وشجعت على استغلال التكنولوجيا بطريقة مُغايرة لتخدمَ متطلبات العصر. حفزّت هذه الحاجة العلماءَ على استحداث ابتكاراتٍ تتماشى مع احتياجات العصر الجديدة، أو كما أدعوه "العالم الجديد ما بعد الجائحة"، فأصبحَ على سلم الأولويات من تلك اللحظة الإتيان بحلول تقنيّة في مجالات الطب والصحة.

أبرز الحلول والتقنيّات التكنولوجية في مجال الطب والصحّة

كما أسلفت، منذ تفشي الوباء وحتى عامنا هذا، تشكلّت معالم التقنيّات وتداخُلها في مجالات الصحّة وهي من ذاك الوقت في عملية تطور تصاعدي مستمر ومن المتوقع أن تشهدَ تطوراً إضافياً ملحوظاً في السنة المُقبلة. من ضمن هذه التقنيات، تقنيات الذكاء الاصطناعي، تقنيات انترنت الأشياء، الروبوتات، الحوسبة الكميّة، التكنلوجيا الحيويّة والعلوم الدقيقة. سأتطرق في هذا المقال إلى 3 تقنيّات تُعتبر في نظري من أبرز التقنيّات تأثيراً على مجالات الصحّة والتي ستغيّر وجه قطاع الصحة والطب في مطلع العام المُقبل 2023. هذه التقنيّات يتم استخدامها بشكل منفرد كلّ على حدة أو مدموجةً معاً وفقَ التطبيقات والحاجة لمضاعفة تأثيرها ونطاق عملها. أولاً، تقنيات الذكاء الاصطناعي. الذكاء الاصطناعي هو الصفات، الخصائص والسلوكيات التي تتسم بها البرامج والأجهزة الحاسوبيّة وما يجعلها قادرةً على الاتسام بصفاتِ "ذكاء" وقدرات ذهنيّة تحاكي المقدرات البشرية بحيث يصبح بمقدورها التعلُم، التفكير بشكل مُستقل، التفسير واستنباط الاستنتاجات وفقَ ما تعلمته، وبالتالي يمكنها التعامل والتعاطي مع بيانات ومعلومات سريريّة ضخمة بشكلٍ دقيق وسريع بما يفوقُ قدرة البشر. في مجالات الصحّة، يساهم الذكاء الاصطناعي في زيادة السرعة والدقة في الكشف المبكر والتشخيص الطبي للأمراض المختلفة، ويتداخل كذلك في مجال تطوير الأدوية وتطوير البحث العلمي، إضافةً إلى مراقبة الوضع الصحي للمرضى عن بُعد والتنبؤ بتفشي أو حصول الأمراض قبل الأوان، الأمر الذي من شأنه أن يساهم بتقديم حلولٍ طبيّة في المناطق النائية التي يصعب على الطواقم الطبيّة الوصول إليها، إضافةً إلى تقديم بديل عملي لتخفيف الضغط عن عمل المشافي وفي حال وجود نقص في الأيادي الطبيّة العاملة. خلال السنوات المُقبلة، من المتوقع أن تعتمد المشافي على هذه التقنيّة أكثر فأكثر حدّ استخدامها عوضاً عن التشخيصات البشرية.

ثانياً، الأجهزة المبوسة، أو الأجهزة القابلة للارتداء والتي بإمكانها تشخيص الحالة الصحية عن طريق دمجها مع مستشعرات بمقدورها قراءة وقياس متغيّرات صحيّة من الجسم بشكل مباشر، متواصل ومريح كقياس معدل نبضات القلب، درجة الحرارة ومتغيّرات حيويّة أخرى. مثلاً، ساعة "أبل" هي أحد الأمثلة على جهاز ملبوس بإمكانه قياس نبضات القلب وتحليل الحالة الصحيّة لمُرتديها. هذا المجال مستمرٌ بالنمو ويطور المزيد من العلماء أجهزةً ملبوسة ذات خصائص أكثر تطوراً، مثل جعلها أصغر حجماً أو صُنعها من الكترونيّات مرنة تتناسَب مع نمط الحياة اليومي. وتستبدل هذه الأجهزة الحاجة إلى زيارة الطبيب لأن مرتديها سيتمكن من مراقبة حالته الصحية عن بُعد وبشكل متواصل دون الحاجة إلى الذهاب إلى المشفى أو زيارة الطبيب. وقد أدت الجائحة إلى زيادة الاقبال والطلب على هذه الأجهزة ودفعت بالعلماء إلى توسيع دائرة الابتكار وتطوير خصائص وخاصيّات هذه التقنيّات لتقوم بقياس متغيرات صحيّة حيوية إضافية مثل نسب السكر، نسبة الحموضة، الأملاح وغيرها، ثم تقديم تشخيص كامل وسريع، مريح ومتواصل بدون الحاجة إلى الخروج من البيت لإجراء الفُحوصات.

ثالثاً، تقنيات انترنت الأشياء والرعاية الصحيّة عن بُعد. تعتمد هذه التقنيّة على ربط الأجهزة التكنولوجيّة في "شبكة" واحدة، الأمر الذي يؤدي إلى التواصل والتناغم بين هذه الأجهزة ويضبط عملها معاً. تُربط هذه الشبكة بغيمةٍ الكترونيّة تستقبل البيانات من الأجهزة وتقوم بنقلها بالمقابل بين الأجهزة المختلفة. عادةً ما يتم استغلال هذه التقنيّة إلى جانب الأجهزة الملبوسة وتقنيّات الذكاء الاصطناعي لتنجيع دمجها في تطبيقات وأهدافٍ صحيّة بشكل أكثر فاعلية. على سبيل المثال، بالإمكان ربط الأجهزة الملبوسة القابلة للارتداء لقراءة متغيرات صحيّة مثل قياس نسب السكر، ثُمّ بواسطة استخدام تقنيّة انترنت الأشياء يتم نقل هذه القراءات والمعلومات مباشرةً من الجهار الملبوس إلى الهاتف النقال الخاص بالمريض وفي الوقتِ عَينِهِ إلى الحاسوب الشخصي الخاص بالطبيب الذي يستقبل الكثير من البيانات والمعطيات. أخيراً، وباستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، بالإمكان تصنيف هذه البيانات وتشخيص الحالات الصحيّة المختلفة في ملفات المرضى، تصنيفها وإرسال نتائج التشخيص النهائيّة للطبيب والمريض. يحدث كل ذلك بينما يجلس المريض في بيته براحة تامة مرتدياً الجهاز الملبوس الذي يُراقب حالته الصحيّة ويرسلها إلى طبيبه. وعليه، تُسهل التكنولوجيا سيرورة الحياة العامة وعملية تشخيص الأمراض بشكل سريع وعملي ومتطور. ورغم انقضاء الجائحة، إلا أنّ مستوى الراحة في استخدام هذه التقنيّة ومدى تسهيلها لحياة مستخدميها قد دفعا إلى اعتمادها واستمرار تحديثها ومن المتوقع تطورها بشكل أكبر في العام القادم.

ماذا ينتظرنا بعد؟ 

كانت جائحة الكورونا إحدى الظواهر التي غيّرت المعادلة في مجالات الصحّة وسلطت الضوء على أهميّة تطوير الوسائل التقنيّة وتسخيرها لمصلحة البشريّة. مضت هذه الجائحة، لكن العام الجديد قد يأتي ومعه أوبئة وأمراض أُخرى شبيهة أو اشدَ تأثيراً وأكثرَ خطورةً. لذا، علينا أن نكون دوماً على أتم استعداد لمجابهة الامراض والأوبئة واتخاذ إجراءات احترازيّة مُسبقاً. ولحسن حظنا أن لدنيا التقنيات الحديثة والابتكارات التي بمقدورها تقديم المَعونة والحلول، والتجربة السابقة سرّعت من تطور هذه التقنيّات وشددت على أهميّة الاستمرار في تطويرها وتحديث خصائصها في العام الجديد. أخيراً، وعلى الرغم من أن التكنولوجيا تُسهِم في تحسين جودة الحياة وتساهم في التشخيص الطبي والصحي السليم، إلا أنه يتعين علينا الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أنّ هذا التطور الكبير مصحوبٌ ببعض الإسقاطات السلبيّة التي تتعلّق بأمان المُستخدم. لذا، وإضافةً إلى تطوير الجانب التكنولوجي من التقنيّات في العام المُقبل، يتوجب إخضاعها لمنظومة من الضوابط الأخلاقية والرقابية لضمان الحفاظ على معلومات المَرضى الشخصيّة وضمان تجربة سلسة وإيجابيّة للمستخدمين والطاقم الطبّي. لا شك في أن العام المُقبل سيشهد تطورات إضافية للتقنيّات التي عرضتُها في هذا المقال وتقنيّاتٍ إضافيّة أخرى من أنها أن تغيّر وجه قطاع الصحّة، بما في ذلك منظومة تشخيص الأمراض ومعالجتها وطريقة عمل المشافي والكوادر الطبيّة وكل ذلك يصب في مصلحة البشريّة في حال تسخير هذه التقنيّات بالشكل الصحيح كي تُقدّم لنا حلولاً كبيرة الأثر والتأثير.

د. روان عمر

حاصلة على لقب دكتوراة في مجال علم وتكنولوجيا النانو من معهد "التخنيون" في حيفا

رأيك يهمنا