البيوميمكري (Biomimicry) - محاكاة الطبيعة من البيولوجيا إلى التكنولوجيا
الطبيعة:
هي كلّ ما هو موجود ولم يُنتجه الانسان، من كائنات حيّة نباتيّة وحيوانيّة وجمادات ومصادر طاقة، محيطات، جبال وهضاب وظواهر طبيعيّة وما إلى ذلك. وهي تشكّل مصدر إلهام لأفكار لا نهائيّة لإيجاد حلول لمشكلات مستعصية يواجهها الإنسان على مرّ العصور. تحدّيات كثيرة نواجهها وسوف نواجهها، تمّ تخطّيها في الطّبيعة، غالبًا بأفضل الوسائل وبأقلّ ضررٍ ممكن وباستهلاك متّزن للمواد والطّاقة.
حاول الإنسان منذ الأزل أن يفسّر أسرار الطّبيعة، ماهيّتها، تكوّنها أو خالقها. وتعامل معها بحدود فهمه المحدود من خلال خبرته التي لم تتعدّ أكثر من 350 ألف عام على وجوده على الكرة الأرضيّة، إمّا من خلال فلسفات كبار المفكّرين والفلاسفة أو بمساعدة الأديان المتنوّعة المتوازية أو المتعاقبة من حيث الزّمن أو من خلال العلوم.
وقد نجح العالم البريطاني تشارلز داروين في وضع نظريّة التطوّر والنّشوء، التي وضعت تفسيراً لأصل أنواع الكائنات الحيّة والتّغييرات التي طرأت على الأنواع خلال 3.8 مليار سنة، بسبب التحدّيات البيئيّة التي واجهتها وبالتّالي تطوّر تنوّع هائل للكائنات الحيّة بسبب تطوير سُبُل للبقاء رغم كلّ التحدّيات، وانقراض أنواع أخرى فشلت في إيجاد حلول للتعامل مع التحدّيات التي واجهتها وتواجهها.
ولهذا، يمكن اعتبار الطّبيعة والسيرورات التي تحدث فيها بمثابة مختبرعظيم له مرجعيّة 3.8 مليار سنة من البحث والتّطوير وتجارب نجحت وتطوّرت وأخرى فشلت وانقرضت، وما زالت مستمرّة في البحث والتّطوير والتجدّد، ليس على صعيد كائنات حيّة فقط، وانّما في مستوى إقامة منظومات متناغمة مع بعضها البعض ما بين الكائنات الحية والمواد ومصادر الطّاقة.
إذن، لا عجب بأن يقف الانسان مذهولًا محتاراً أمام هذه النماذج الإبداعيّة التي اجتازت كل اختبارات الحياة واستطاعت أن تنجو بعبقريتها عبر مليارات السنين وأن يندهش من العمليات التطورية التي قامت بها تلك الكائنات حتى تنجو كل هذه السنين، ثم أن يحاول أن يتعلم من هذه التجربة المثيرة وهذه المسيرة التكاملية لتلك الكائنات.
محاكاة الانسان للطبيعة كحاجة بشريّة للإرتقاء والاستمرارية
كلمة Biomimicry هي كلمة يونانية الأصل مكوّنة من شقّين:
«bios» وتعني الحياة و«mimesis» وتعني المحاكاة (الْمُمَاثَلَةُ، الْمُشَابَهَةُ، التَّقْلِيدُ).
لطالما اجتهد الانسان في بناء معرفته التي اعتمدت على التّجارب والمشاهدات والتوثيق لمراكمة المعلومات للأنسال القادمة واستخدامها في مراحل المعرفة المتسارعة والآخذة في التطوّر المستمرّ للحفاظ على بقائه، كواحد من ملايين الأنواع من الكائنات الحيّة.
ورغم أنّه يُعتبر العدوّ الأوّل للطبيعة وهدّامًا لها بسبب نشاطاته غير المسؤولة، الّا أنّها تقدّم له الخدمات دون شروط أو مكافأة. بعض هذه الخدمات أصبحت علمًا متداولًا في خدمة أنواع الهندسات كافّة لبناء منتجات تكنولوجيّة تسهّل عليه حياته وتجعله منافسًا قويّا لباقي الأنواع من أجل البقاء والارتقاء.
وأقول هنا "منافسًا"، وهو ما يتعارض مع مفهوم التناغم مع باقي مكوّنات الطّبيعة بسبب عدم فهمنا الكامل لميكانيكيّة وفلسفة عمل الطّبيعة. وباعتقادي الشّخصي، إن لم يُصغِ الانسان للطّبيعة جيّدًا، فسيكون الخاسر الأكبر في نهاية المطاف، إذ لا يمكن الاستمرار دون الاهتمام بمصير باقي مقدّرات الطّبيعة.
نماذج لتطبيقات في محاكاة الطبيعة:
«Velcro tape»
عام 1941 علقت إحدى الثمار الجافة الشائكة لنبات أرض بفروِ كلب العالم السويسري "جورج دي ميسترال". وبدل أن يقوم بإزالتها ورميها، قرّر بحث آليّة التصاق النّبات بفراء الكلب. هذه النّظرة العميقة لجزء بسيط في الطّبيعة أدّت الى بناء أداة بسيطة وفّرت الكثير من المجهود للبشر:
الشّريط اللّاصق الذي يُستخدم في الكثير من الأدوات، بدءًا من بدلات رواد الفضاء وحتى أحذية وحقائب الأطفال.
روبوت لتنظيف الخلايا الشمسية مستلهم من "أبو بريص"
يشكّل "أبو بريص" استثناءً في قدرته على تسلّق الجدران وحتّى الأسقف دون أن يسقط. هذا الأمر أدهش الباحثين فحاولوا محاكاته في بناء روبوتات تستطيع أن تتسلّق على النوافذ الزجاجية الكبيرة والمرتفعة وكذلك على الخلايا الشّمسيّة لتنظيفها.
إليكم رابط فيديو يوضّح كيفيّة عمل الباحثين لتطبيق هذه المحاكاة، حتى وإن كان في مراحل التطوير:
https://www.youtube.com/watch?v=jxZGEXxHeyE
ANTBOT
يستطيع نمل الصّحراء الخروج من بيته للبحث عن الطّعام إلى مسافة أمتار كثيرة وأن يعود دون أن يخطئ أبدًا في تحديد مكان بيته. فهو يعتمد على الضّوء وتحديد الزوايا بمساعدة نظام معقّد موجود في دماغه. وعليه، قام الباحثون بمحاكاةٍ لدماغ النّمل الصّحراوي وإنتاج روبوت مستقل ذي نظام ملاحة يعتمد على الحواس الفريدة وقدرات استكشاف المسارات، مثل النمل الصحراوي.
هذا الروبوت يتفوّق على الكثير من أنظمة تحديد المواقع العالميّة مثل الـ GPS
الأنف الالكترونيّة
لن يدهشنا كلبٌ ينبح حتّى لعدم ملاحظتنا لأمر ما يزعجه. لكنّ فكرة انّه يستطيع أن يشمّ روائح وأن يميّزها عن بعد، خاصّةً إذا كانت روائح تصدر فقط من شخص مصاب بالسّرطان، فانّ الأمر سيدهشنا بحقّ وسنحاول قدر المستطاع محاكاة هذه القدرة على التّشخيص من خلال اختراع منتج تكنولوجي يعتمد في أساسه على الميكانيكيّة المتطوّرة بشكل طبيعي عند الكلب.
هذا ما قام به البوفييسور النّصراوي الباحث حسام حايك وثلّة من الباحثين المرافقين له في تطوير الأنف الالكترونيّة لتشخيص السّرطان وأدّى إلى اختراعات فاقت الـ 37 براءة اختراع.
المحاكاة الواعية والاستدامة البيئيّة
في كتابه " الحكمة الخفية في الطبيعة" يقول الباحث الألماني بيتر فولين إنّ الصحراء الافريقية تغذّي القارّة الأمريكيّة بفضل العواصف الرملية التي تقطع المحيط الأطلسي وتسقط في جنوب أمريكا بفعل المطر، وهي تحمل معها نحو 30 مليون طن من المعادن، منها 30 ألف طن من الفوسفور، الذي يخصّب الأراضي. وهكذا يحدث تكامل وتناغم في الطّبيعة بين القارّات. وقد فهم الإنسان ميكانيكيّتها بعد التقاط صورمن الأقمارالصناعية على مدى أشهر كاملة يوميًّا.
نحن نعاني من اضطراب نقصان الطبيعة في بيئتنا. فنحن لا نجلس بين الأشجار والنباتات ولا نستمتع بمشاركة الحيوانات حياتها الطّبيعيّة ولا نُصغي حقًّا لجماليّة التّناغم بين الأنواع الكثيرة وتوازنها المُدهش والذي نكاد من شدّة غرورنا أن نقضي عليه - وبهذا يكون قد انتهى دورنا في هذا الكوكب – دون أن نتنبّه لأهميّة التّوازن الحكيم الذي وصلت إليه الطّبيعة منذ تكوّن الأرض.
المحاكاة هي التقليد الواعي لعبقرية الحياة وليس التقليد الأعمى. أي، أن نأخذ مبادئ التصميم ونتعلم منها ثم نقوم بتحسين هذا النموذج لحلّ مشكلاتنا، دون التعرّض للتّوازن البيئي في الطّبيعة، بل لفهم عمل المنظومات البيئيّة الحكيمة والحفاظ عليها.
ولا يغيب عنا، نحن البشر، أنّ الإخلال في التّوازن يعني نهاية البشريّة، بينما غايتنا هي البقاء.