نقاش في مكانة فلسطينيي الـ48 في العملية الوطنية الفلسطينية

يبدو أن أمراض الكيانات السياسية للفلسطينيين في الخارج (الفصائل)، المتمثلة بالتكلّس والاختلاف والتفكّك، والتصارع على النفوذ والمكانة، والافتقاد لرؤية وطنية جامعة ولكيان وطني جامع، أصابت الكيانات السياسية لفلسطينيي الـ48، من "مواطني" إسرائيل، وهذا ما تجلى في خوضهم الانتخابات للكنيست الـ 25 (1 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي)، في ثلاث قوائم، بدلا من واحدة، تعزز وجودهم ومكانتهم ووحدتهم في مواجهتهم السياسات الاستعمارية والعنصرية الإسرائيلية.


ثمة ثلاثة تيارات أو كيانات سياسية منخرطة في العملية الانتخابية الإسرائيلية، واستثمار الهامش الديموقراطي المتاح، من وجهات نظر سياسية مختلفة:

الأول، "الجبهة الديموقراطيّة للسلام والمساواة" ("حداش")، برئاسة أيمن عودة، وهي تحالفت مع "القائمة العربيّة للتغيير" (برئاسة أحمد الطيبي). وطبعا فإن "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" هو العمود الفقري لتلك الجبهة، وتلك القائمة، وهي التيار المركزي، والتاريخي، في الحركة السياسية لفلسطينيي الـ48، ومن قياداتها القديمة الشاعر توفيق زياد، وشخصيات مثل إميل حبيبي إميل توما وتوفيق طيبي، وبعدهم محمد بركة. وهو تيار تأسس، منذ البداية، على الاعتراف بإسرائيل، والتعامل معها في إطار المواطنة، وتعزيز المشاركة السياسية، للتأثير فيها من الداخل، على مستوى الحقوق المدنية والوطنية، وفقا لما يتيحه النظام السياسي الإسرائيلي، وهي تقرن بين المواطنة في إسرائيل، وبين رفض احتلال (1967)، والدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كأساس للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين. أما "الحزب العربي للتغيير" فهو يتمحور حول شخص (أحمد الطيبي)، ويتقاطع في السياسة مع الجبهة؛ وطبعا فهي مدعومة من القيادة الفلسطينية الرسمية، أي قيادة المنظمة والسلطة. وفي المحصلة فقد حصلت هذه القائمة، المتألفة من كيانين، على خمسة مقاعد في الانتخابات الحالية (178,7 ألف صوت)، في حين أنها في انتخابات الكنيست الـ 21 (نيسان/أبريل 2019) كانت حصلت على (193.442)، بمعنى أنها خسرت كثيرا من الأصوات.

الثاني، ويتمثل بـ"التجمُّع الوطنيّ الديموقراطيّ" (برئاسة سامي أبو شحادة)، وقد تأسس في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بمبادرة من عدد من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين (منهم عزمي بشارة) وبعض نشطاء حركة "أبناء البلد"، وشارك في الانتخابات منذ حينه، ودخل في عضوية الكنيست. وهذا التيار يناهض طابع إسرائيل كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، وهو يعتبر أن فلسطينيي الـ48 هم جزء من الشعب الفلسطيني، وهو يقارب في أطروحاته تحويل إسرائيل إلى دولة لمواطنيها، بنزع طابعها الصهيوني، كدولة كولونيالية وكنظام أبارتهايد، كما يعتبر الكنيست منصة للصراع مع السياسات الإسرائيلية، وليست بديلا من النضال الشعبي، كما يعتبر نفسه جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية. وهذا ما يميزه عن التيار الأول (الجبهة) والتيار الثالث (الإسلامية الجنوبية). لكن التجمع هذه المرة لم يتمكن من تجاوز نسبة الحسم (وقدرها 3.25 في المئة من الأصوات الصحيحة)، رغم حصوله على 138 ألف صوت (بحصوله على 2.91 في المئة من الأصوات فقط)، علما أنه تعرض لحملة إسرائيلية مركزة لإضعافه، وحرمانه من المشاركة في الانتخابات، كما تعرض لحملة منافسة لعزله من قبل التيارات الأخرى بسبب مواقفه تلك؛ وضمن ذلك إخراجه من القائمة المشتركة بطريقة تعسفية، ربما للتخلص من الإحراج الذي يمثله، بشأن رفضه المشاركة في تسمية رئيس حكومة بين التيارات الإسرائيلية المتصارعة، وهذا هو الشق الثاني للقائمة العربية المشتركة.

الثالث، وهو "القائمة العربيّة الموحّدة"، التي تمثل الحركة الإسلامية الجنوبية، برئاسة النائب منصور عباس، وهي شقت القائمة العربية المشتركة في الانتخابات السابقة (الدورة 24، 2021)، بخروجها منها، إذ تمكنت في حينه من الفوز بأربعة مقاعد؛ علما أن ذلك التيار لا يمثل كل الحركة الإسلامية بين فلسطينيي الـ48. واللافت أن هذا التيار يدعو إلى الانخراط تماما في النظام السياسي الإسرائيلي، وفي "التأسرل"، باعتباره أمرا واقعا، والتركيز فقط على الحقوق الفردية، وعلى جلب ما يعتبره مكاسب للفلسطينيين من مواطني إسرائيل، من دون أي صلة بأهداف سياسية، أو وطنية. وهذا التيار صعد منذ الانتخابات السابقة (2021) بحيث بات بمثابة التيار الأكبر بين القوى العربية (المشاركة في الانتخابات)، وحافظ على مكانته هذه في الانتخابات الأخيرة، بحصوله على خمسة مقاعد في الكنيست، وقوة تصويتية قدرها 194 ألف صوت، بزيادة أكثر من 20 ألف صوت عن الانتخابات السابقة.

طبعا ثمة تيار رابع، وهو تيار مقاطعة الانتخابات الإسرائيلية، وهو تيار قوي بين فلسطينيي الـ48، لكنه مشتت، أي منقسم على نفسه، وهذا ما يتجلى في نسبة مشاركته في الانتخابات، فهي بلغت في هذه الانتخابات 55 في المئة، في حين بلغت في السابقة (2021) 43 في المئة، ما يعني أن نصف غير المصوتين (22 في المئة، بعد حسم فئة اللامبالين)، يرفضون التعامل مع إسرائيل، ويعتقدون أن الصراع معها، ومع سياساتها، ينبغي أن يكون خارج الكنيست الإسرائيلي؛ وبدهي أن ذلك يؤدي إلى عدم عكس القوة التصويتية لفلسطينيي الـ48 في الكنيست تماما. وباختصار فإن تيار المقاطعة لا يرى أن ثمة جدوى من المشاركة في الانتخابات، لا على مستوى الحقوق الفردية والمدنية، ولا على مستوى الحقوق الجمعية والوطنية، وينضوي في هذا الإطار يساريون وقوميون (أبناء البلد) وإسلاميون (الحركة الإسلامية الشمالية)، بزعامة الشيخ رائد صلاح.

على ذلك ثمة اختلاف بين تلك الكيانات، في طريقة استثمار الهامش الديموقراطي في إسرائيل، وفي فهم طبيعة المشاركة في الكنيست، كشكل وحيد للكفاح، أو لتحقيق المكانة والنفوذ، أو كشكل من أشكال الكفاح ضد إسرائيل، كما ثمة مشكلة في طريقة إدارتها للتنافس في ما بينها، بإعلاء شأن الصراع مع إسرائيل، بدلاً من التصارع فيما بينها، وفي تفاوت رؤيتها لطبيعة علاقتها بالحركة الوطنية والشعب الفلسطيني وقضيته عموما.

وفي المحصلة، فإن التنافس والتصارع بين تلك الكيانات، كما تجلى في الانتخابات الأخيرة، أدى إلى حصولها على عشرة مقاعد في الكنيست فقط، أي خسارة خمسة مقاعد (كانت القائمة المشتركة حصلت على 15 مقعدا في الكنيست - 23، 2020)، كما أدت بشكل خاص إلى اتساع الفجوة بين تلك الكيانات وخلق حالة من التوتر بين مناصريها، الأمر الذي أفاد بنيامين نتنياهو، وأطراف ائتلافه، لا سيما اليمين الديني والقومي المتطرف، وأضر بالحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل والخارج.
أيضا فإن تلك الانتخابات بينت تآكل التيار المركزي التاريخي، المتمثل بالجبهة، كما تبيّن من التصويت، وصعود تيار الحركة الإسلامية الجنوبية، بوصفها التيار الأقوى، كما بصعود تيار التجمع الوطني الديموقراطي، بحصوله وحده على 138 ألف صوت، رغم كل محاولات تحجيمه وضعف إمكاناته.

الملاحظة الأخيرة هنا تفيد بأن الحركة الوطنية الفلسطينية قصرت تاريخيا بحق فلسطينيي الـ48، منذ نشوئها أواسط الستينات، إذ أخرجتهم من المعادلة الوطنية الفلسطينية، بدلالة مواطنيتهم الإسرائيلية، بدل التعامل معهم بدلالة أنهم جزء من الشعب الفلسطيني، والمفارقة أن ذلك تم من قبل حركة وطنية اعتبرت ذاتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، رغم إخراجها جزءا من شعبها من تلك المعادلة، ورغم أن تلك الحركة انطلقت قبل احتلال 1967.

وباختصار فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن، أيضا، في أنهم لم يستطيعوا التعامل مع إسرائيل، على التناقضات الكامنة فيها، بين علمانيين ومتدينين، وشرقيين وغربيين، ويسار ويمين، وفقراء وأغنياء، ومستوطنين قدامى ومستوطنين جدد، بطريقة تمكنهم من الاستثمار بهذه الفوارق والتناقضات، بسبب اختلافاتهم، وبحكم ضعف كياناتهم، كما بواقع قصور إدراكاتهم لطبيعة إسرائيل، وهذا ينطبق على الحركة الوطنية الفلسطينية، المتمثلة في منظمة التحرير والفصائل المنضوية فيها، أو المعارضة لها، كما يشمل الكيانات السياسية لفلسطينيي الـ48.

 

عن موقع "النهار العربي".


(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]).

ماجد كيالي

كاتب وباحث سياسي فلسطيني

رأيك يهمنا