في ذكرى تبني الإعلان العالمي لحقوق الانسان: بعض الملاحظات

تحتفل الأمم المتحدة ونشطاء حقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر من كل عام بالذكرى السنوية لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وتعتبر هذه الوثيقة حجر الزاوية للقانون الدولي لحقوق الإنسان. هذا الصك هو أول من اعترف بوجود حقوق أساسية غير قابلة للتصرف والتي يحق لكل إنسان التمتع بها، بغض النظر عن العرق، أو القومية، أو الجنس، أو اللون، أو الدين، أو الوضع الاجتماعي الذي ينتمي أو تنتمي إليه. ومع ذلك، تظل مسألة الطابع الكوني لحقوق الإنسان قضية خلافية في بعض الأوساط حتى يومنا هذا. يتخذ عدم الاعتراف بكونية حقوق الإنسان شكلين. الشكل الأول هو أكثر شيوعًا في بعض الدوائر السياسية، وله جذور استعمارية، مفاده بأن بعض الشعوب والثقافات غير مستعدة لاحتضان مشروع حقوق الإنسان الكوني. تنتشر مثل هذه الخطابات في صفوف الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وأماكن أخرى في العالم، ولكنها تنتشر أيضًا بين الأنظمة غير الليبرالية التي تبرر فشلها في احترام حقوق الإنسان، مثل المساواة الجندرية، بحجة عدم جاهزية شعوبها. هذه الانتقادات لا تمثل نقدا للطابع الكوني لحقوق الإنسان بقدر ما هي تعكس توجهات عنصرية ومعاداة للقيم التي يمثلها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أما النقد الأكثر عمقا للطابع الكوني لحقوق الإنسان يتمحور حول ظروف نشأة هذا المشروع. إذا يركز البعض على إقصاء الشعوب المستعمَرة من عملية صياغة واعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. عندما تم اعتماد الإعلان، كانت معظم أفريقيا وأجزاء كثيرة من آسيا ما تزال تحت الحكم الاستعماري للدول الأوروبية ولم يكن لها الحق في العضوية في الأمم المتحدة المنشأة حديثًا. لذلك، تم استبعاد هذه الدول من السيرورات التي أدت إلى اعتماد الإعلان. وتبعا لهذا الخط من النقد، يزعم البعض أيضا أن وجهات النظر الإسلامية حول حقوق الإنسان كانت شبه معدومة نظرًا لعدم مشاركة العديد من الدول الإسلامية في هذا المسار، وحتى الدول التي شاركت مثل مصر والسعودية كانت ممثلة من قبل مندوبين علمانيين كانوا قد درسوا في الغرب.

للوهلة الأولى تبدو هذه الحجج صحيحة، مع هذا يجب التعامل معها ببعض من الحذر. إن القول بأن العديد من الدول لم تكن ممثلة لا يعني أن أبدأ بأن صياغة الإعلان كانت مسعى غربيًا حصريا. العمل على صياغة الإعلان بدأ في شباط 1947 مع تولي لجنة فرعية من لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مؤلفة من إليانور روزفلت، والصيني بن-تشون تشانغ، واللبناني شارل مالك مهمة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في وقت لاحق، تم ضم ممثلين من أستراليا وتشيلي وفرنسا والمملكة المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية لهذه اللجنة. تظهر السجلات التاريخية بشكل لا لبس فيه الدور المحوري للمندوبين والدول غير الغربية في عملية صياغة الإعلان. هذا في حد ذاته لا يعالج عدم مشاركة الشعوب القابعة تحت الاستعمار في هذا المسار، إلا أن التطور اللاحق للمنظومة الدولية لحقوق الإنسان يشير إلى أن الدول المستقلة حديثًا لم ترفض هذا المشروع برمته. يشير بعض الباحثين، إلى أن الشعوب الواقعة تحت الاستعمار اعتمدت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في نضالها من أجل الحرية والتحرر من الاستعمار. وبالمثل، لجأت الدول التي استُبعدت من عملية صياغة الإعلان إلى نفس الحقوق التي ينص عليها الإعلان لتعزيز أجندتها السياسية بعد الاستقلال، مثل الدعوة إلى إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. علاوة على ذلك، فإن انضمام العديد من الدول الأفريقية والآسيوية إلى معاهدات حقوق الإنسان اللاحقة مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية يشير إلى أنها لم ترفض مشروع حقوق الإنسان العالمي. هذه الدول لعبت دورا أساسيا في الترويج لمعاهدات حقوق إنسان اضافية، والتي تستند إلى الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. على سبيل المثال، تم اقتراح الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري من قبل البلدان الأفريقية والآسيوية التي حصلت على استقلالها بعد اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن الأهم من ذلك، أن تعاطي هذه الدول مع القانون الدولي لحقوق الإنسان يعكس محاولات مثيرة وناجحة في كثير من الأحيان لتحرير خطاب حقوق الإنسان من مخلفات الاستعمار. يمكن أن يُعزى أحد الأمثلة المبكرة لهذا النهج إلى المندوب المصري لدى الأمم المتحدة، محمود عزمي. بعد اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بدأت الأمم المتحدة العمل في الخمسينيات من القرن الماضي على معاهدة دولية ملزمة لحقوق الإنسان. في حينه سعت القوى الاستعمارية، التي كانت قلقة بشأن تداعيات معاهدة حقوق إنسان ملزمة على مشروعها الاستعماري، إلى إعفائها من تطبيق حقوق الإنسان على مستعمراتها بحجة أن الشعوب الواقعة تحت حكمها الاستعماري لم تصل إلى درجة التحضر اللازمة لممارسة حقوق الإنسان المكفولة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

حتى الحقوقي الفرنسي رينيه كاسان، الذي عمل على صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان متعاطفًا مع هذه الحجة على الأقل فيما يتعلق بحقوق معينة، مثل مبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الأسرة. السجلات التاريخية تشير إلى أن محمود عزمي ومندوبة عراقية تدعى بديعة أفنان شكلا سدا في وجه هذا الادعاء، من خلال فضح العنصرية المتأصلة في مثل هذه الادعاءات، حيث وصفها عزمي بـ "الهتلرية". في الواقع، يعود الفضل لبديعة أفنان في اعتماد المادة 3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تضمن المساواة بين الرجل والمرأة في التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في العهد.

وفي مكسب مهم أيضا نجحت الدول المستقلة حديثًا في إدراج مادة بشأن حق الشعوب في تقرير المصير في معاهدتي حقوق الإنسان الأساسيتين، أي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. كانت الرسالة واضحة: الاستعمار تَضَادِّيّ مع حقوق الإنسان العالمية. استراتيجية أخرى تبناها بعض المثقفين من الدول الأفريقية والآسيوية هي التشديد على أن الطابع العالمي لحقوق الإنسان لا يتطلب التوحيد في دعائمها النظرية حيث يمكن للثقافات غير الغربية أن تقدم دعامة نظرية لحقوق الإنسان أيضا.

محاولة كشف وتنقية قانون حقوق الإنسان الدولي من مخلفات الاستعمار هي ليست حكرا على الدول الأفريقية والآسيوية، بل هي تشمل أيضا الأقليات والجماعات الأصلية والحركات النسوية. على سبيل المثال، في تعاطيهم مع القانون الدولي لحقوق الإنسان نجح السكان الأصليون في زعزعة المفاهيم التقليدية والاستعمارية لمفهوم السيادة التي كانت المسبب في إخضاعهم. أثرت نظرية العرق النقدية التي ظهرت في سياق التمييز العنصري ضد السود والأقليات الأخرى في الولايات المتحدة تعريف مفهوم المساواة في القانون الدولي من خلال التركيز على العوائق البنيوية التي تنتج عدم المساواة والتهميش. من بين مساهماتها الرئيسية أيضا إدخال مصطلح التقاطعية في قاموس القانون الدولي لحقوق الإنسان. ويكشف المفهوم الأخير كيف أن الأشكال المتداخلة للتمييز تعزز بعضها البعض وتخلق نقاط ضعف فريدة. أما النسويات فقد نجحن في زعزعة الفصل بين الحيز الخاص والحيز العام، المبني على فكرة السوق الحر وعدم وجوب تدخل الدولة في الحيز الخاص.

ما الذي يمكننا أن نستخلصه من كل هذا؟ أولا، يجب أن نعي بأن المشروع الدولي لحقوق الإنسان ليس مشروعًا غربيًا حصريًا. إن تجاهل وتقليل دور الدول غير الغربية والمندوبين عنها في تبني هذا الصك التاريخي هو أمر غير منصف، ويخدم أولئك الذين يروجون لخطابات عنصرية حول عدم استعداد بعض الشعوب والثقافات لاحتضان حقوق الإنسان. كما أنه يقلل من أهمية الجهود التي يبذلها النشطاء والأكاديميون في فضح المخلفات الاستعمارية للقانون الدولي وتأثيرها على حقوق الإنسان ومحاولة التخلص. ثانيا، يجب أن ندرك أن المنظومة الدولية لحقوق الإنسان هي في حالة تطور مستمر، بالتالي يجب علينا الانخراط بها والتعاطي معها بشكل نقدي للتأثير على سيرورات تطورها بما يخدم مصلحة وكرامة جميع البشر في كل مواقع تواجدهم.


كاتبة المقال: د. سونيا بولس وهي أستاذة القانون الدولي ومتخصصة في مجال حقوق الإنسان ومحاضرة في كلية القانون والعلاقات الدولية في جامعة "نبريخا – مدريد".

د. سونيا بولس

أستاذة القانون الدولي ومتخصصة في مجال حقوق الإنسان ومحاضرة في كلية القانون والعلاقات الدولية في جامعة "نبريخا – مدريد"

رأيك يهمنا