ثمانية أشهر من التصعيد في شمال الضفة، فهل حققت اسرائيل أهدافها؟
لم يكن ما جرى اعلانه من قبل اسرائيل في آذار الماضي ببدء عملية "كاسر الأمواج" لضرب حالة المقاومة المتصاعدة في محافظة جنين، بجديد على أهالي المحافظة التي شهدت عمليات تصعيد اسرائيلي متعاقبة طوال السنوات الماضية، أبرزها الاجتياح في العام 2002.
ورغم أن الاقتحامات والاعتقالات لم تتوقف في المحافظة إلا أن عودة التصعيد بشكله الحالي ضد المحافظة كانت منذ شهر آب أغسطس من العام 2021 عندما اغتالت وحدات خاصة الشاب جميل العموري واثنين من عناصر الاستخبارات العسكرية الفلسطينية في شارع "الناصرة" شمال مدينة جنين.
عقب اغتيال العمور
ي الذي لاقى التفافًا وتعاطفًا كبيرًا، خاصة اشتباكاته المسلحة مع الجيش الإسرائيلي في اقتحاماته للمدينة والمخيم، وبرز الشاب بشكل كبير بعد اغتياله حيث أصبح قدوة لكثير من الشباب في المخيم وأطلق عليه فيما بعد مجدد الاشتباك لدرجة أن اسمه يتردد في معظم جنازات الشهداء.
اسرائيل بترسانتها العسكرية والاعلامية بدأت حملة تحريض ضد المحافظة تلتها عملية نفق الحرية عندما تمكن ستة أسرى من المحافظة من الفرار عبر نفق أسفل سجن "جلبوع" في أيلول من العام 2021 حيث شهدت المحافظة حالة تعبئة كبيرة لدى عشرات الشبان المسلحين وبدأوا بتكوين ما أطلق عليه كتيبة جنين.
حالة التعبئة قادت عشرات الشبان الى التمركز في مخيم جنين الذي كان بؤرة للمقاومة في الانتفاضة الثانية وبات عدد المسلحين يزداد بالتزامن مع ارتفاع وتيرة التهديد الاسرائيلي باقتحام واسع أو تنفيذ عملية عسكرية ضد هؤلاء الشبان في المخيم الذي في الغالب لا تزيد أعمارهم عن 22 عاما، بما يحمله هذا العمر من قلة في الخبرة وضعف في التجهيزات العسكرية على عكس ما كانت تشيع الماكنة الاسرائيلية الإعلامية.
وما كان من تهديد بعملية واسعة إلا محاولة لإطلاق يد الجيش الاسرائيلي في تنفيذ الاغتيالات والاقتحامات، فكانت اسرائيل تريد الاستمرار في عمليات محدودة ولكنها لم تكن تنوي فعليا شن اجتياح واسع على غرار العام 2000 رغم التهديد بذلك، لاعتبارات عدة أبرزها تأثير ذلك على صعيد العلاقة مع السلطة الفلسطينية ومحاولتها اضعاف السلطة ولكن دون إنهائها، حيث عملت إسرائيل عبر اقتحاماتها الى فعلا اضعاف دور السلطة وإنهاء أية التزامات من اتفاق أوسلو الموقع مع منظمة التحرير ويقضي بمنع الاقتحامات لمناطق "أ"، اضافة الى أن اجتياحا كهذا سيقود الى انتفاضة شاملة، وكذلك وجه إسرائيل أمام العالم الذي بات يشهد انزياح عن مواقفه السابقة الداعمة لإسرائيل.
بدأت اسرائيل بتنفيذ عمليات ضد الشبان مستخدمة أعتى التجهيزات العسكرية من طائرات استطلاع وسيارات مصفحة و قناصة محترفين ما أدى لاستشهاد عدد كبير يفوق الأربعين في جنين في محاولة لضرب معنويات الشبان وإيقاع الرعب في نفوسهم، حتى أنها استخدمت أساليب الحصار في موسم تجاري خلال رمضان الماضي لضرب الاقتصاد وايقاع الفتنة ما بين المسلحين والتجار.
هذه المقدمة لما شهدته محافظة جنين وتبعها بعد ذلك مدينة نابلس حتى أصبحت منطقة شمال الضفة الغربية في مركز الاستهداف الاسرائيلي سواء عبر التهديد الإعلامي أو تنفيذ عمليات عسكرية ضد الشبان المسلحين في المحافظتين.
ما أراه أن اسرائيل كانت تحاول بلورة صورة لدى الرأي العام العالمي بأن هناك تهديدا وجوديا ربما، بينما في واقع الأمر هي كانت تريد ضرب أي محاولة فلسطينية تقول كفى لانتهاكات اسرائيل، وقتل المعنوية الفلسطينية لتكون غير قادرة على مواجهة ما هو قادم مما تنفذه تل أبيب من إجراءات ضد المواطنين الفلسطينيين أو ارضهم عبر توسيع الاستيطان.
ورغم أن الشبان في جنين كانوا عرضة للاغتيال والاستهداف بشكل متواصل لكن خلقت تلك الظاهرة حالة تعبئة شعبوية كبيرة ترافقت مع التفاف جماهيري من المحافظة وكذلك بقية المدن الفلسطينية، وهذا الهاجس الأكبر لدى اسرائيل بأن يتحول المخيم قدوة بشبابه لمناطق أخرى وتنتشر ظاهرة المقاومة المسلحة.
فأصبحت ظاهرة المقاومة المسلحة في جنين يحسب لها حساب لدى إسرائيل التي تعد العدة في كل مرة تفكر فيها باقتحام المدينة أو المخيم، واستطاع الشبان على ضعف امكانياتهم أن يشكلوا رادعا لبعض جرائم اسرائيل خاصة خلال اقتحامها لأحياء المخيم أو المدينة، التي باتت تشرك مئات الجنود وعشرات الآليات العسكرية.
كما شكلت وسائل التواصل الاجتماعي أيضا عاملا ضاغطا على جيش الاحتلال من خلال بث النشطاء اشتباكات مسلحة أثناء الاقتحامات فباتت تظهر اسرائيل قلقا من هذا النشاط الاعلامي وقيل في بعض وسائل إعلامهم إن حفلة اعلامية ترافق كل اقتحام.
ويسجل من ظاهرة مخيم جنين أن هناك شبه استقلال بقرارات الشبان بعيدًا عن الفصائلية بما تحمله من تعليمات وتوجيهات وهذا عبء اضافي على اسرائيل التي أصبحت تتعامل مع شبان قرارهم من رأسهم وبشكل ذاتي داخل المخيم او المحافظة.
ويسجل أيضا عما يجري في محافظة جنين وتحديدا في المخيم أن هناك تلاشي لحساسية الفصائلية فهم يعملون بشكل موحد دون الالتفات الى انتماءاتهم الشخصية لذلك يعملون باسم المخيم أو جنين، لذلك لم تستطع اسرائيل أن تجد عنوانا واضحًا لاستهدافه وبالتالي التأثير على الظاهرة أو إضعافها.
وكنت في إحدى المحطات الإذاعية الفلسطينية في مداخلة حول ما يجري في جنين سألني الزميل المذيع بأن اسرائيل تهدد بتنفيذ عملية كبيرة ما يعني قد تشهد الفترة المقبلة تصعيدًا أكبر، فكانت إجابتي بأنه ماذا تبقى من تصعيد يمكن لإسرائيل أن تنفذه أكبر مما قامت به عبر تصفية واعدامات ميدانية واعتقالات مستخدمة ترسانة عسكرية ضخمة في مواجهة شبان لا يملكون الا القليل من السلاح.
ظهرت جماعات مسلحة فلسطينية في مدينة نابلس التي أيضا نالت نصيبها من التصعيد الاسرائيلي، بدأ باغتيال ثلاثة شبان على يد وحدات خاصة كانوا رفاق ابراهيم النابلسي الذي لاقى دعما شعبيا كبيرا، وأصبح أيقونة لكثير من الشبان.
بقي النابلسي ملاحقًا من قبل إسرائيل بعد أن نجا من محاولات اغتيال متعددة إلى أن تم اغتياله في البلدة القديمة في نابلس في شهر آب أغسطس المنصرم ليبرز بعد ذلك التاريخ اسم "عرين الأسود" وهي مجموعة مسلحة اتخذت من البلدة القديمة في نابلس مقرًا لها.
المجموعة تعرضت لهجمات إسرائيلية طالت العديد من قادتها وصولًا لاغتيال مجموعة من قادتها أبرزهم تامر الكيلاني ووديع الحوح بالتزامن مع حصار على مدينة نابلس الذي امتد لشهر في محاولة لخنق المدينة وضرب اقتصادها.
خلاصة القول إنه على مدى ما يزيد عن ثمانية أشهر من إعلان "كاسر الأمواج"، لم تصل اسرائيل الى مرادها في إنهاء ظاهرة مخيم جنين بل يشهد المخيم مزيدًا من التعبئة فحتى هذا اليوم يغلق المسلحون مداخل المخيم بالحواجز والعبوات الناسفة، والسؤال الآن هل اسرائيل أنهت المقاومة عقب العام 2002 بعد أن هدمت المخيم ودمرت الجزء الأكبر منه؟ أليس ما تواجهه إسرائيل اليوم في معظمه من شبان ولدوا بعد العام 2000؟
فهل ستدرك اسرائيل أن محاولات التطويع والحلول العسكرية لن تكون بديلا عن الحل السياسي عبر إعطاء الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته ووقف اقتحاماتها واعتقالاتها ورفع يدها عن الفلسطينيين؟
كاتب المقال: محمد أبو الرب وهو صحافي فلسطيني من مدينة "جنين"، مختص بتغطية الأحداث في الضفة الغربية.
الصورة: من موقع "فلسطين أون لاين".
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن "فارءة معاي" او القيمين\ات عليها.