آلام المسيح الشرقيّ، بحسب فيروز

فاتحة

متى نشأتَ في قريتي الجليلية[1] وحملتْ ذاكرتُك تفاصيل أواخر الطفولة من نهاية الستينات، كان أوضحَها على الأغلب فصلُ الربيع إذ يأتي متوّجًا بعيد الفصح، أو على الأصح أسبوع ترقّب "العيد الكبير"، (أسبوع الآلام). حين طفحت الكروم والحواكير بشقائق النعمان والصفّير خصيصًا لتلوين البيض. ورائحة المُستكى والـ"مِحلِب" في كعك العيد المخبوز بالـ"عجوة" زاحمت عبقَ الملابس الجديدة على وقعها في الذاكرة. كل هذا أتاك موشّحًا بصوت فيروز النافذ من كل الشبابيك: "أنا الأمّ الحزينة، وما من يعزيها"! تصحبه نغمات الأرغن المعدنيّة الموجعة كالمسامير. من هي هذه "الأم" الحزينة رغمَ بريق الملابس وبهجة السكّر المطحون على حبات المعمول؟ هل هي أمك؟ جدتك؟ جارتكم؟ ومن هي "فيروز" هذه التي ترسم لكل الأمّهات وجهًا واحدًا متألّمًا طيلة الأسبوع الربيعيّ المُشمس؟!

متى عُدتَ إلى قريتي الجليليّة بعد عشرين، ثلاثين أو خمسين عامًا، وحاولت أن تُلملِم منثورات الذاكرة الستّيناتية وجدتَ الحواكير قد تراجعت بأقحوانها وبرقوقها أمام الإسمنت، والبيضَ يُصبغ بالألوان الفوسفورية المصنّعة في الصين، والكعكَ أصبحَ يشترى جاهزًا معزولًا بالنايلون، ليبقى بريئًا من بعثِ ذكريات الـ"مِحلب" في المكان. حينها تدرك أن عالمكّ الروحيّ الأول قد تلاشى مع وجوه الراحلين، ولم يتبقَّ من كلّ ما ألِفتَ إلا ثابتٌ واحدٌ وحيد، هو "صوت فيروز" الذي لم يزل ينفذ من كل الشبابيك وبنفسِ الأسى: "أنا الأمّ الحزينة، وما من يعزّيها"، تصحبه نغمات الأرغن المعدنيّة الموجعة كالمسامير! 

مِن لبنان

في عام 1965 صدرت عن "صوت الشرق" في بيروت الأسطوانة: "الجمعة الحزينة، ترانيم دينية-فيروز". تحتوي هذا الأسطوانة على عشر تراتيل مرتبطة بأسبوع الآلام وعيد الفصح المسيحيين. قبل التطرق إلى أهمية وسابقية هذه الأسطوانة، وهي محور هذا المقال، تقتضي الإشارة إلى كون المدرسة الرحبانية أطلقت عام 1966 أغنية "غنّيتُ مكّةَ"، بصوت فيروز، وهي من ألحان عاصي الرحباني وكلمات سعيد عقل. الإطلاق كان عبر التلفزيون الكويتي، ومن ثم بثّها التلفزيون السعودي وكان ذلك أول ظهور لسيّدة على شاشة التلفزة السعودية.

أمامنا إذًا ظاهرة لافتة، حين تبادر تشكيلة من المبدعين اللبنانيين إلى هذين الإصدارين في عامين متتاليين، وكل إصدار منهما هو، بخصوصياته، بكريّ من حيث التخاطب فنيًّا مع شريحة دينية ما من شرائح المجتمع اللبناني، والعربي عمومًا. وما يوحّد هذين الإصدارين ويلعب الدور الأهمّ في نجاحهما هو "صوت فيروز" دون شك. قد تتضح معالم الصورة أكثر إذا تذكرنا أن الإذاعات اللبنانية والسورية احتضنت الأخوين رحباني ونهاد حداد منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، إلى جانب حليم الرومي، صبري الشريف وآخرين. هذه المجموعة الشابّة كانت واسعة الثقافة والاطلاع وقوية الانتماء أيضًا. من تطلّعاتها كان رسم ملامح خاصة لصوت وشخصية الوطن اللبناني، الشابّ حينها. أو مهمّة إثبات جدارة لبنان بالتحول من "جبل لبنان" كإقليم سوري، إلى "دولة لبنان" المستقلة بكلّ شيء بما فيها الموسيقى والفنون! هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى التمسك بالوشيجة العربية، بل العروبية، لهذا الوطن وتوكيد عدم تناقضها مع الانفتاح على الثقافة والفنون العالمية. وللخلاصة فإلى جانب التنوّع الديني والمذهبي واقترابه من التوازن، أكثر من أي دولةٍ أخرى، فإنّ استقلال لبنان كدولة جديدة، بإذاعة وأصوات جديدة، أوجبَ خلق رُؤًى ثقافية ومقولات فنية جديدة لكي لا يبقى استقلالاً "على الورق". من هذا العنفوان ومن هذا الشغف المحسوس بكسر الجمود الفني السائد ولدت "المدرسة الرحبانية".

"صوت فيروز" لماذا؟!

في صوت نهاد حدّاد توفرت مزايا خاصة ساعدت على ولادة "فيروز" المُثلى في خمسينيات القرن الماضي. إلى جانب جمال الصوت، دقّة الأداء ومخارج الحروف يأتي ضبط النفْس والتعبير المحايد والمتمنّع عن الإفشاء بأية أحاسيس آنيّة أو بأي انفلات شعوري (قارن مثلًا مع صوت أم كلثوم في عشرينيات عمرها)، فيبدو أن عاصي بحث عن صوت "موضوعي" نتائجه مضمونة، عن صوت مدروس مهندَس إلى حدٍّ ما، بمعنى أنه غير خاضع للمزاج اللحظي، كما أنه صوت مقتصد جدًا بالحليات الشرقية، وتلك لا تأتي إلّا عفويّةً ومرتجَلة. أرادهُ صوتًا يصدح خارج المُعجَم "الشرقي التطريبي" المتوارَث والمألوف حدّ الإنهاك، وللخلاصة أراده صوتَ المغنيّة لا المطربة! ولولا تبنّي نهاد حدّاد لهذه المعايير وتذويتها بالكامل لما ولدَت "الأغنية الرحبانية". سريعًا سيأتي الاقتناع الجماهيري بفكرة "الصوت الملائكي" وبالشخصيّة المرفّعة عن الملموس اليومي والعادي.

هكذا لم تمر أكثر من عشر سنوات على زواج فيروز من عاصي (1955) حتى كانت المدرسة الرحبانية قد أثبتت أصالتها الفنية وصدقيّتها الشعبية بل والإنسانية، إلى حد جعل فيروز الصوت الأنسب، إن لم يكن الوحيد القادر على تخطي كل الحواجز الدينية والقومية دون أي تردد أو تلكّؤ، ودون إثارة أيّ استهجان، مثلًا، لقيام سيّدةٍ سريانيّة الديانة، بأداء "غنيتُ مكّةَ أهلَها الصِّيدا"، من ألحان زوجها، الأرثوذكسي، وكلمات سعيد عقل، الماروني! تمامًا كما ستغني لاحقًا من أعمال نفس الشاعر والملحن "سيفٌ فليُشهَر-أجراس العودة فلتُقرَع"، ولعلها من أكثر الأغاني حماسةً لفلسطين، إن لم تكن أكثرها. المراد هنا أن صوت فيروز طرح نفسه على العالم كقطعة بلّورٍ أمينة، تتلألا فيها جميع الرؤى الحداثية التي شكّلَت المناخ اللبناني يومها. وهو كما نرى مناخ تقدّمي يطرح معايير حديثة للنغم والفكر، لجمال الطبيعة والإنسان كما لجمال الروح والعقيدة. وهو مناخ وحدويّ يبحث بصدق عن المشترك لجميع شرائح مجتمعه ودياناتها.

أهمّ التجديدات التي تضمّنها إصدار "أسطوانة الجمعة الحزينة"[2]

• صوت المرأة.
هناك تحفظ تاريخي شديد على استخدام صوت المرأة في القداس الإلهي المسيحي (ليتورجيا). وهذا يشمل عموم الكنائس المسيحية شرقيةً كانت أم غربية. مع ذلك أصبحت الكنائس مؤخرًا تبدي بعض الليونة بخصوص مشاركة أصوات النساء في تراتيل المواسم (پاراليتورجيا)، وتسمى بالعربية "رُتبة" تمييزًا لها عن "قداس". والفارق هو أن القداس هو الطقس الرسميّ ويتمحور حول تقديس القرابين (الخبز والنبيذ) والمناولة، وهو يقام أساسًا أيام الأحد وفي صباحات الأعياد الهامّة. في حين أن صلوات الـ"رُتبة" لا تتضمّن تقديس القرابين، وتقام إحياءً لأحداث تاريخية دينية، مثل مدائح السيدة العذراء في فترة الصيام الأربعيني، وينتهي بـ"أسبوع الآلام" الذي يتضمن صلوات رُتَب: "خميس الأسرار" و"الجمعة الحزينة".
قد يختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة للكنيسة السريانية والمارونية حيث تفيد الشهادات بأن إدماج صوت المرأة هناك هو عادة قديمة وليست مستحدثة. كذلك الأمر بخصوص استخدام الآلة الموسيقية في الكنيسة، وهو معتاد لدى السريان والموارنة في حين بقي محظورًا في الكنائس البيزنطية حتى يومنا.
• دمج مواريث كنسية لطوائف مختلفة، بل متباينة! بدليل أنها لم تأتلف من قبل.
بهذا الإصدار تم توكيد المقام المشترك (بازدواج المَعنى) لترانيم معظم الكنائس المتواجدة في منطقتنا. إلى درجة أنه يصعب اليوم على كثير من المسيحيين، حتى المرتلين، أن يمايزوا ما بين الأصول المذهبية لتراتيل هذه الأسطوانة.
• نقل هذه التراتيل من الحيّز الديني-كنسي إلى الحيّز الفني-ثقافي العاّم، وباللغة العربية!
لا مانعَ دينيًا من نشر التراتيل والصلوات المسيحية عبر الأسطوانات أو الإذاعة، مع ذلك لم يبادر أحد في الشرق إلى إصدار كهذا من قبل. ومن لحظة إصدار هذه الأسطوانة أصبح بمقدور أي شخص أن يستمع إليها في كل زمان وكل مكان يشاء ولم تعُد محصورة بفترة، طائفة أو دور عبادة معيّنة. بمعنى تعميم هذه المواريث المسيحية-شرقية وتقريبها من جميع ناطقي العربية في العالم على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم.
بالنتيجة تحولت هذه الأسطوانة إلى أيقونة روحيّة-فنيّة تلخّص عِبَر "أسبوع الآلام" بكل ما فيها من ألم، تضحية وفداء منذ الستينيات حتى يومنا[3]. وبذلك ساعد هذا الإصدار على توطين المسيح كشخصية بطولية-تراجيدية في ثقافتنا العربية وترسيخ ملامحه الشرقية المنتمية لمناخاتنا، بخلاف المخيال الغربي-هوليوودي القائم على شخص أشقر الشعر وأزرق العيون. وناهيك من أن أداء فيروز لهذه التراتيل أصبح أنموذجًا يقلّده بعض المرتلين والمرتلات في الكنائس، فبعض المستمعين الشبّان أصبح يعتقد أنها "فيروزية" الأصل!

"آلام المسيح الشرقيّ، بحسب فيروز"

انتقاء التراتيل وترتيبها في الأسطوانة يكشف المستمع إلى طيف ديناميكي واسع من الأحاسيس والشخصيات والمواقف. ابتداءً من صوت الأم، إلى صوت الابن، إلى انفعالات الجمهور المحيط، وصولًا إلى الذروة الدرامية لهذا العمل وهي موقف الصلب نفسه: "اليوم علّق على خشبة"، بعدها تراتيل الدفن والرثاء، وتُختتم ببهجة القيامة وهي خلاصة وزبدة هذا الركن الأساسي في العقيدة المسيحية: عيد القيامة.
1. "أنا الأمّ الحزينة، وما من يعزّيها"، بلسان مريم العذراء. موروث سرياني/ماروني.
2. "طرق أورشليم نائحة"، وصف عام لمشهد المدينة وخلوّها من الفرح. كلمات وألحان الأخوين رحباني، مع أن اسمهما لا يظهر على الأسطوانة.
3. "يا شعبي وصحبي أين عهدُ الإيمان"، بلسان السيد المسيح. لحنها يشابه، بل يطابق "الأم الحزينة"، ما يرجح كونهما من مصدر واحد. سرياني/ماروني.
4. "قامت مريم بنتُ داود حذاءَ العود"، بلسان المشاهدين للعذراء وهي تبكي ابنها. موروث سرياني.
5. "واه حبيبي، أي حالٍ أنت فيه"، رثائية بلسان عذارى أورشليم. هي غالبًا من الموروث اللاتيني وقد تكون عُرِّبَت وانتشرت عبر الكنيسة المارونية. وما يدعم هذا التحليل هو وجودها ضمن تراتيل الكنائس اللاتينية بلغاتٍ أجنبية. [4]
6. "اليوم عُلِّقَ على خشبة"، وصف مهيب لمشهد الصلب. موروث بيزنطي. [5]
7. "يا يسوعُ الحياة، في قبرٍ وُضِعتَ"، مشهد الدفن. كلمات الأصل اليوناني واللحن للأبّ السوري رومانوس الحمصيّ المرنّم (ت 560م.). بيزنطي.
8. "كامل الأجيال تُقرّبُ التسبيحَ". رثائية. بيزنطي.
9. "استنيري-إنّ الملاكَ تفوّه نحوَ المُنعَمِ عليها، أيتها العذراءُ النقيّةُ افرَحي"، تبشير للسيدة العذراء بقيامة ابنها. كلمات الأصل اليوناني للقديس يوحنا الدمشقي (ت 749م.). بيزنطي.
10. "المسيح قام من بين الأموات"، كلمات الأصل اليوناني للقديس يوحنا الدمشقيّ. بيزنطي.

رغم أن الأسطوانة لا تحمل اسم "الأخوين رحباني" إلا أن أسلوب الأداء والتوزيع يحملان بصمات عاصي بوضوح، وهنا نقول إن جمع هذه المواريث المختلفة في إصدار واحد أتاح لعاصي الاستفادة من: حريات وليونة توفرها التقاليد السريانية/مارونية، مثل استخدام الآلات بحرية، ودمجها بأصوات الجوقة المختلطة. هذا إلى جانب الفائدة الجوهرية المكتسبة من عراقة الموروث البيزنطي، خاصةً فيما يتعلّق بموضوع "القيامة"[6]، وهو ما يلمسه المستمع عند الانتقال من التراتيل الخمس الأولى، السريانية/مارونية، إلى الخمس الأخيرة، البيزنطية، وهي صوتية محضة وتبتدئ من ترتيلة "اليوم علّق على خشبة".

بالنتيجة ومن تتبّع التسلسُل الدرامي لمواضيع التراتيل كما استعرضناها أعلاه، نرى أن عاصي قصد بهذا تقديم "مُغنّاة دينيّة" أو "مُصَلّاة" شرقيّة عربيّة، وهي سابقة أخرى في محيطنا الشرقيّ رغم كونها معتادة في الموسيقى الأوروبية الدينيّة منذ قرون. حيث قام بعض كبار موسيقيي أوروبا بتناول روايات دينيّة من الكتب المقدّسة وتلحينها بشخصياتها وحواراتها، وتقديمها على المنصّة بمشاركة مغنّين ومغنيّات وجوقات وأوركسترات موسيقية. وهذا دون أي استخدام لحركة أو ديكور أو باقي العناصر والمؤثرات "المسرحية". هذه الروايات الدينية المغنّاة سميّت "أوراتوريو"، تمييزًا لها عن "الأوپرا" العلمانية والمُمَسرحة. وفي هذا المضمار اشتهرت بشكل فارق أعمال باخ الذي تناول "آلام المسيح" تحديدًا، طبقًا لرواياتها في الأناجيل الأربعة، ووصلنا منها: "الآلام، بحسب متّى" وأيضًا: "الآلام، بحسب يوحنّا".

أما أسطوانتنا هذه فليست تتبع سردًا أو نصًّا إنجيليًّا بعينه، وما يوحّد جميع فقراتها هو صوت فيروز. بالتالي قد لا نخطئ إذا أسميناها: "آلام المسيح الشرقيّ، بحسب فيروز".

بين البيزنطية وسائر المواريث الكنسية الشرقية

الكنيسة البيزنطية: هي امتداد للكنيسة الجامعة/المسكونية الأولى التي تمأسست في القسطنطينية[7] عاصمة البيزنطيين عام 330م. وضمّت تحت لوائها جميع مسيحيي العالم الروماني، حينها. وبقيت تسمى بيزنطية اصطلاحًا بعد سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين عام 1453م. وتحوّلها إلى إسطنبول.

هي كنيسة كانت وبقيت "شرقية" بالمنظور الأوروبي عمومًا، وبقيت "أرثوذكسية" مقارنةً بكنيسة روما (الفاتيكان) التي انشقّت (1054م.) ونأت بنفسها عن مسمّى "الأرثوذكسية". ونشير إليها هنا اصطلاحًا بـ"الكنيسة اللاتينية".

وهي "بيزنطية" مقارنةً بعدة كنائس "أرثوذكسية شرقية" هامّة وعريقة كانت قد انفصلت عن الكتلة البيزنطية-ملكانيّة منذ عام 451م. (إثر ما يعرف بمجمع خلقيدونية)[8]، وهي الكنائس: السوريّة (سريانية)، القبطية، الأرمنية والإثيوبية.

الموروث السرياني-ماروني

بمنأى عن الخلافات اللاهوتية المؤدية لتلك الانفصالات داخل الأرثوذكسية نفسها فهذه الكنائس الشرقية التي استقلّت بعد "خلقيدونية" كانت كما نلاحظ ذات طبيعة قومية/عرقيّة. وفي حين بقيت طقوس الكنيسة البيزنطية الأُمّ تحت هيمنة اللغة اليونانية[9] وتشبثت بمواريثها وألحانها الموحّدة ككنيسة مركزية ذات تاريخ إمبراطوري متواصل (يمتد على ألف عام!)، عادت الكنيسة السريانية وباقي الكنائس القومية إلى أوطانها، وبكل معنى الكلمة. أي إلى توظيف لغاتها الأصلية وألحانها القومية-الشعبية في طقوسها الدينية[10]. بالنتيجة حملت ألحان هذه الكنائس ملامح جميع الأقاليم التي انتشرت وتواجدت فيها، وعلى مختلف مراحل تطوّر موسيقات تلك الأقاليم وشعوبها بطبيعة الحال. فاللحن الديني يأتي حتمًا من اللغة النغمية للمجتمع، ذاتها! حتى لو امتاز اللحن الديني بمبنى خاص أو بملامح قد يفرضها الطقس أو النص، فمبناه المقامي-نغمي سيكون مطابقًا للمقامات المألوفة والرائجة في موسيقى هذا المجتمع، لا محالة. ولنا إذًا أن نتخيّل التنوّع الهائل من المواريث الموسيقية التي تشرّبتها طقوس الكنائس السريانية المختلفة، والمنتشرة من جبل لبنان غربًا إلى أطراف الجزيرة العربية شرقًا، بل ومناطق من بلاد فارس.

الطائفة "المارونية" هي طائفة عربية الجذور، نشأت لاحقًا ودون علاقة مباشرة أو واضحة بالانشقاقات المذكورة أعلاه، وطقوسها هي فسيفساء تاريخية للكنائس الشرقية القديمة. فرغم ائتلافهم المبكر جدًا مع البابا (القرن الحادي عشر) بقيت طقوس الموارنة أشبه موسيقيًا بطقوس السريان الأرثوذكس منها بالطقس اللاتيني. هذا الارتباط الماروني الوثيق بالجذع السرياني ساهم في نشر التراتيل القديمة في لبنان وباللغة العربية أيضًا، إلى درجة أن محاولة تمييز وعزل التراتيل المارونية عن تلك السريانية أصبحت اليوم صعبة جدًا وعديمة الجدوى.

الألحان البيزنطية

تشكلّت نواتها بدايةً من مجموع تراتيل الكنائس الأولى والسابقة للكنيسة البيزنطية المركزية، مثل الأقباط والسريان والأرمن واليونان والكبادوكيين.. إلخ. في الكنيسة المركزية تم تنقيح التراتيل وتصنيفها كـ"ألحان كنسية"، ومن ثم إعادة نشرها وتعميمها على جميع كنائس الإمبراطورية البيزنطية[11]. هذا المزيج المشرقيّ الضخم من الألحان الكنسية، هو ما صار يعرف بـ"الألحان البيزنطية". طبيعة الحال أن تلك الألحان تعرّضت لتغييرات كثيرة خلال هذه القرون السبعة عشر، خاصةً وأن التدوين الموسيقي للتراتيل لم يبتدئ قبل القرن الميلادي التاسع. وحتى بعد ذلك استخدمت أساليب تدوين تلميحية مُبهمة ويستعصي على الخبراء فك رموزها حتى اليوم، ثم مراحل تدوين معقّدة حدّ الغموض، وهكذا.. حتى ظهور "إصلاحات النظام والتدوين الموسيقيين" عام 1830م.، ما يعني بعد مرور أربعة قرون على انهيار الإمبراطورية البيزنطية ونشوء الدولة العثمانية! غني عن القول إن تلك الألحان "البيزنطية المُحدثَة"[12] كانت قد تشبّعَت بالمقامات الموسيقية الرائجة في إسطنبول العثمانية، وهي مقامات شرقيّة عربيّة، كالبيات والحسيني والسيكاه..إلخ.، لا تختلف بجوهرها عن مقاماتنا الشرق أوسطية اليوم، ولا عن مقامات الطقوس السريانية-مارونية.
خصائص للتراتيل البيزنطية تتجلّى في الأسطوانة

منذ بداياتها وحتى اليوم تعتمد التراتيل البيزنطية الصوت البشري فقط، دونما تساهل أو استثناء. وهذا ما تراعيه هذه الأسطوانة بوضوح، حيث نلاحظ انعدام وجود الآلة الموسيقية منذ الترتيلة الخامسة وحتى النهاية.

أساليب الأداء تتنوّع ما بين ترتيل منفرد، أو "تبادلي" بين مجموعتين (antiphonal)، أو "تجاوبي" ما بين فرد ومجموعة (responsorial). هذه التشكيلات الصوتيّة هي مشتركة لجميع الكنائس، وقد ورثتها الديانة المسيحية عن أساليب عبادة قديمة كالطقوس العبرية والتسابيح الفرعونية.

الإيصُن Ison: النغم المَديد. هي نغمة أساسية لمقام الترتيلة (قد تكون النغمة الأولى، الرابعة أو الخامسة)، تقوم المجموعة بغنائها (مقاطع بدون كلمات) بشكل متواصل طيلة زمن الترتيلة، بحيث ترافق، تدعم وتُثري لحن ونص الترتيلة التي يؤديها المرتل أو المجموعة أخرى. هذا الأسلوب من التناغم الصوتي، أو الهرمونيا الأوليّة، يمايز التراتيل البيزنطية حصرًا منذ فجرها ولم يزل.

في هذه الأسطوانة يستخدم عاصي تقنية الـ"إيصُن" ببعض التصرف، في جزء من تراتيل القسم الثاني، البيزنطي. خاصةً "اليوم علّقَ"، و"استنيري". وخارج تراتيل هذه الأسطوانة أيضًا نلمح تأثيرات مشابهة مستقاة من الأسلوب البيزنطي يوظّفها عاصي في مواقف معيّنة، مثل مشهد "الزواج" من كتاب "النبي" لجبران خليل جبران. مع بداية غناء فيروز: "ولدتما معًا وتظلّان معًا، حتى في سكون تذكارات الله"، نسمع أن أسلوب اللحن، وتوظيف النغم المديد (الإيصُن) من الجوقة وأيضًا التوزيع الآلي المُحاكي لرنين الجلاجل، يأتلفون لخلق مشهد صوتي كنسيّ بيزنطي.

بيزنطية النغم، كاثوليكية الولاء

الانشقاق الكبير ما بين الكنيسة اللاتينية وبين الكنيسة الأرثوذكسية تزايد وتفاقم وتحوّل إلى عداوةٍ تامّة بعد الحروب الصليبية التي استهدفت الشرق بمسلميه ومسيحييه على حدٍ سواء. وهذه العداوة قد تكون بلغت أوجها في العصر العثماني حين قام بابا روما (1724م.) باستقطاب جزء من الأرثوذكسيين "العرب" إلى طائفة جديدة هي "الروم الكاثوليك"، وهؤلاء حوّلوا ولاءهم إلى البابا، لكنهم حافظوا على كنائسهم بطقوسها وألحانها البيزنطية المعهودة. فلم تقم روما بفرض لغةٍ أجنبية ولا ألحانٍ دخيلة على مواريثهم. طائفة "الروم الكاثوليك" هي عربية وحصرية لبلادنا الشرق أوسطية، ويشار إليهم تعميمًا بالـ"كاثوليك" ما قد يتسبب بالخلط بينهم وبين كنائس "روما الكاثوليكية" الغربية، التي أشرنا اليها هنا اصطلاحًا بـ"اللاتينية"، من باب الإيضاح.

خاتمة

من باب "خان الزيت" صعودًا على "درب الآلام"

في 4 كانون الثاني (يناير) عام 1964م. قام قداسة البابا بولس السادس بزيارةٍ تاريخية للبلاد المقدّسة ومحورها مدينة القدس[13]. هي "تاريخية" لعدّة أسباب، أولها: تلك كانت أول مرة يسافر فيها البابا خارج حدود إيطاليا منذ حوالي 150 عامًا امتنع البابوات طيلتها عن السفر، احتجاجًا على سياسات داخلية متعلّقة بالحكومة الإيطالية وتقليصها لمناطق نفوذهم.

السبب الثاني: في القدس التقى البابا (بطريرك روما) ببطريرك الكرسي القسطنطيني، أثيناغوراس. وتمّت بذلك مصالحة تاريخية، ولو شكليّة، ما بين الشقّ الأرثوذكسي والشقّ اللاتيني ولأول مرّة منذ الانشقاق الكبير عام 1054م. والمذكور أعلاه.

السبب الثالث والأهم لموضوعنا: من بين الوفود التي وصلت إلى القدس للاحتفاء بالزيارة، تضمن الوفد اللبناني كلًا من فيروز وعاصي يرافقهما حوالي مائة راهب-مرتّل من فرقة "معهد الروح القدس-الكَسليك".

خلال تلك الزيارة مشى البابا على "درب الآلام"[14]، كعادة الحجاج المسيحيين منذ قرون، ولكن في هذه المرّة وقفت "فيروز" هناك أيضًا، ورتّلَت على الملأ: "أنا الأمُّ الحزينة". وكما قال عاصي، الذي رافقها بالعزف على الـ"هرمونيوم" (الأرغن المتنقل)، في مقابلةٍ صحافية حينها:

"..وقد استطاعت فيروز أن تغطي ثلاث مراحل من مراحل الآلام، وهي السادسة والسابعة والثامنة.. وكانت التراتيل تسبق موكب البابا من مرحلة إلى مرحلة، أما فيروز فقد بقيت مكانها واصطف الرهبان على جانبي الطريق، وتوزعت مكبرات الصوت طيلة المراحل الثلاث وبقي قداسته يستمع إلى التراتيل من فيروز، وكأن الصوت يأتي من الصخور..".

لا يبقى لنا سوى أن نتخيّل مهابة وجمال ذاك الموقف، حين يمشي "الحَبرُ الأعظم" للكنائس الغربية على قدميه، محاطًا بالحُشود وميكرفونات الإذاعة وكاميرات التلفزة العالمية. ومع صُعودِه من "طريق الواد" إلى "باب خان الزيت"[15] يأتيه راجعًا من الحجارة المَقدسيّة العتيقة رنينُ لحنٍ سريانيّ بكلمات عربية وصوت امرأة، هي فيروز ترتّل: "أنا الأمّ الحزينة، وما من يُعَزّيها"! تصحبها نغمات الأرغن المعدنية، تلك الموجعة كالمسامير.

 

نشر ايصًا في موقع "الأخبار" اللبنانية.

 

الاحالات:

1. هي قرية "الرّامة" في الجليل الغربي، شمال فلسطين.
2. تاريخ الإصدار الرسمي هو 1965، التراتيل سُجلت على ثلاث مراحل: 1962، 1964 و 1965.
3. يقتضي التذكير بكون هذه الأسطوانة تفوّقت، شيوعًا وأهميّةً، على "ترانيم الميلاد" التي صدرت بصوت فيروز، لكن جميعها معرّب عن أصول وألحان غربية لا تنتمي للمنطقة.
4. يجدر التنويه إلى كونها بالأصل أغنية علمانية بالفرنسية عنوانها: (Que ne suis-je la fougère?)، تُنسَب للملحن الإيطالي المعروف جيوڤاني پيرچوليزي (1710-1736). وقد تبنتها الكنيسة اللاتينية بعد استبدال كلماتها بكلمات دينية. يمكن الاستماع إلى الصيغة الأصلية عبر يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=D-oQjzpVsRk.
5
. الصيغة اليونانية المعاصرة لترتيلة "اليوم عُلِّقَ": https://www.youtube.com/watch?v=9kjFnPziRP0، وأيضًا صيغة عربية بأداء المرتّل اللبناني ديمتري كوتيا: https://www.youtube.com/watch?v=3ZQ-FwYAXYA. أيضًا يمكن الاستماع إليها بالصيغة البيزنطية القديمة، من العصور الوسطى: https://www.youtube.com/watch?v=WTKDz25z8dQ.
6
. من أهم مصادر فخر الكنيسة البيزنطية هو احتضانها واعتمادها لـ"تيپيكون القيامة، Typikon of Anastasis". وهو المرجع النموذجي والمفصّل لكل ما يتعلق بتقاليد وصلوات الصوم الأربعيني وأسبوع القيامة، حسب الطقس الأورشليمي القديم. هذا التيبيكون تولّد عن مواريث كل من كنيسة القيامة ودير مار سابا العريق، حيث عاش وتنسّك القديس يوحنا الدمشقيّ، ويُعَدّ أعظم ناظمي التراتيل في الكنيسة البيزنطية.
7. قبل ترميم قسطنطين لها كان اسمها القديم: بيزنطة.
8. خلقيدونية: بلدة تقع في تركيا، عُقِدَ فيها المجمع الكنسي المذكور.
9. لم يُسمَح بتعريب الطقس البيزنطي من اليونانية قبل بداية القرن العشرين!
10. يقتضي التنويه إلى كون السريانيّة اللغةَ الأولى التي تبنّتها الكنيسة المركزيّة للتراتيل والصلوات، وذلك قبل اليونانية واللاتينية بفترات طويلة.
11. وهنا مثلًا يبرز بشكل خاص اسم الأب أفرام السوري (أنطاكية) الذي ساهم في هذا المشروع (365م.) بمجموعة هامّة وأساسية من التراتيل باللغة السريانية، والقائمة على ألحان سورية قديمة ومألوفة، نُظمَت عليها نصوص دينية.
12. الإصلاحات المذكورة أجرتها لجنة من المختصّين بتوكيل من البطريرك وبرئاسة المطران خريزنثوس، ومنذها أصبحت تعرف بــ"الموسيقى البيزنطية المُحدَثة، Neo-Byzantine Music". ويذهب من خبراء الموسيقى المتطرّفين إلى ما هو أبعد من ذلك فيسمونها "ما بعد البيزنطية، Post Byzantine"، رافضين إطلاق مسمّى "بيزنطية" عليها لكونها مبنية على عناصر موسيقية عربية، فارسية وعثمانية.
13. قبل حرب 1967 كانت القدس والضفة الغربية تحت وصاية المملكة الأردنية.
14. درب الآلام، أو درب الصليب: هو مسار يمتد اليوم على كيلومتر واحد داخل أسوار القدس ويتضمن 14 محطة، مشاه السيد المسيح حاملًا الصليب بعد محاكمته، وصولًا إلى موقع الصلب "الجلجثة" ثم القبر، ويقعان في محيط كنيسة القيامة.
15. "طريق الواد" و"خان الزيت" هي أسماء شوارع داخل القدس القديمة، تتخلّلها المحطات 6، 7، 8 والمذكورة في كلام عاصي الرحباني.


عن الكاتب خالد جبران:
من مواليد عكا 1961، نشأ في الرامة. عام 1984 انتقل من دراسة الطب إلى الموسيقولوجيا في الجامعة العبرية-القدس، من ثم إلى دراسة التأليف، قيادة الأوركسترا ونظرية الموسيقى في أكاديمية روبين. عام 1993 عمل في المعهد الوطني للموسيقى-فلسطين، حيث قام بتأسيس قسم الموسيقى الشرقية وقسم النظريات إضافةً إلى تعليم العود والبزق. كذلك أشغل وظيفة أستاذ نظرية الموسيقى والتأليف الشرقي في أكاديمية "روبين". عام 2002 عمل على تأسيس "مركز الأرموي لموسيقى المشرق"، ومن خلاله قام بإنتاج ألبومين موسيقيين: "مزامير" و"بريدج". عام 2009 بدأ ببحث وتأليف "الدليل إلى المقام الشرقي"، وهو كتاب شامل يتتبع نشوء وتبلور الأبجدية النغمية للموسيقات المشرقية (عربية، فارسية، تركية). بين عامي 2012-2015 قام ببحث وتأليف كتاب "آذان إلى بحور العرب". يعمل حاليًا على سلسلة أبحاث حول: 1- الموسيقى الفلكلورية الفلسطينية. 2- موسيقى الشعائر والطقوس الدينية المشرقية: إسلامية، بيزنطية، سريانية وقبطية.

*شكر خاص لكل من:
الأستاذ أكرم الريّس، بيروت.
الأستاذة جيهان نخلة، الرامة.
الأستاذة مريم عبدالله، زحلة.

 استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]

خالد جبران

من مواليد عكا 1961، نشأ في الرامة. عام 1984 انتقل من دراسة الطب إلى الموسيقولوجيا في الجامعة العبرية-القدس، من ثم إلى دراسة التأليف، قيادة الأوركسترا ونظرية الموسيقى في أكاديمية روبين. عام 1993 عمل في المعهد الوطني للموسيقى-فلسطين، حيث قام بتأسيس قسم الموسيقى الشرقية وقسم النظريات إضافةً إلى تعليم العود والبزق. كذلك أشغل وظيفة أستاذ نظرية الموسيقى والتأليف الشرقي في أكاديمية "روبين". عام 2002 عمل على تأسيس "مركز الأرموي لموسيقى المشرق"، ومن خلاله قام بإنتاج ألبومين موسيقيين: "مزامير" و"بريدج". عام 2009 بدأ ببحث وتأليف "الدليل إلى المقام الشرقي"، وهو كتاب شامل يتتبع نشوء وتبلور الأبجدية النغمية للموسيقات المشرقية (عربية، فارسية، تركية). بين عامي 2012-2015 قام ببحث وتأليف كتاب "آذان إلى بحور العرب". يعمل حاليًا على سلسلة أبحاث حول: 1- الموسيقى الفلكلورية الفلسطينية. 2- موسيقى الشعائر والطقوس الدينية المشرقية: إسلامية، بيزنطية، سريانية وقبطية.

شاركونا رأيكن.م