من "الاستيطان في القلوب" إلى احتلال الدولة: استراتيجية اليمين الاستيطاني في الصراع على الهيمنة في إسرائيل
لم أخطط خلال بحثي لنيل شهادة الدكتوراه حول "منظمات المجتمع المدني والصراع على الهيمنة في التربية للمواطنة في إسرائيل"، الذي أجريته في منتصف العقد الماضي في جامعة تل أبيب، أن ادرس وأتعمق في استراتيجية تيارات المستوطنين المنتمين إلى الصهيونية-الدينية لتأسيس هيمنتهم في إسرائيل. لكن حب الاستطلاع لدي كناشط وكباحث منعني من التوقف في البحث والاكتفاء بمعلومات عينية بحثت عنها حول نشاط تربوي لإحدى الجمعيات اليمينية التي نشطت بقوة في التعليم الرسمي العام في الوسط اليهودي خلال البحث الذي أجريته. فقررت أن أدرس قصة هذه الجمعية وحيثيات إقامتها. تبين خلال البحث أن من أقامها هم مجموعة من المستوطنين في الخليل الذين كانوا وراء الحملة التي أطلقت في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي ضد إخلاء مستوطني الخليل والتي توجهت إلى الجمهور اليهودي عامة، وإلى الفئات الليبرالية والعلمانية منه خاصة، تحت شعار "الخليل من الأزل إلى الابد" ("חברון מאז ולתמיד").
تعقّب حيثيات إقامة هذه الجمعية (التي أقيم بعدها مئات من شبيهاتها) يقود إلى النقاش الفكري العميق الذي دار داخل التيارات الاستيطانية في الصهيونية الدينية، بين قادتهم ومنظريهم، على منصات مختلفة كان منها مجلتهم الشهرية "نقطة" (נקודה). هناك كتب الحاخام "يوئيل بن نون"، أحد منظري التيار الاستيطاني الديني (وهو من مؤسسي حركة جوش إيمونيم/ גוש אימונים) ، مقالته الشهيرة قبيل انتخابات الكنيست في العام 1992 "لم ننجح في الاستيطان في القلوب". وقد استوقفت بن نون صورة رئيس الحكومة الليكودي وقائد اليمين آنذاك، يتسحاق شمير، جالسًا في مؤتمر مدريد أمام الوفد الفلسطيني لمناقشة عملية السلام برعاية دولية. وقد هزت هذه الصورة المستوطنين، الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك في الضفة الغربية وقطاع غزة المئة ألف مستوطن، فتساءلوا كيف يحدث أن توضع قضية الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967 على طاولة المفاوضات في عصر حكومة الليكود وزعيمها المتشدد شمير. وهنا بدأت عملية تفكير معمق واستنتاج عِبر ودروس لتساعدهم في صياغة استراتيجية واضحة لتعزيز قوتهم وتأثيرهم وتعزيز هيمنتهم والسيطرة على مقاليد الحكم. يصل قيادات أحد تيارات المستوطنين إلى استنتاج مفاده أن حركة البناء الاستيطاني لوحدها لا تكفي لحسم الصراع بين "اليمين" و"اليسار"، ثم مستقبل المناطق المحتلة بالتالي، ولا بد من حراك مقابل لتجنيد تأييد وتعاطف من المجتمع اليهودي ذاته. ولهذا، ركزت حركات المستوطنين على الاستثمار في البناء ولم تستثمر في إقناع الإنسان اليهودي بمشروع الاستيطان. هذا التيار ركز على علاقة "الصهيونية الدينية" بباقي أجزاء المجتمع اليهودي. دعا قادة هذا التيار إلى بناء استراتيجية جديدة لتربية المجتمع اليهودي من جديد في مواجهة خطرين كبيرين: انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وإخلاء المستوطنات وتبنى الثقافة الغربية، بتأثير العولمة والتغييرات المتسارعة التي تجلبها. وتدعو هذه الاستراتيجية إلى اقناع "الأعداء" بقضية المستوطنين من خلال الاستثمار بالجانب التربوي- الروحاني. حول هذا يكتب بن نون: "الاستيطان في القلوب، لتقريب إخوتنا- أعدائنا، لتليين معارضتهم، لإقناعهم". ويضيف: "إذا لم يكن الشعب معنا، فلن تنقذنا أي كمية من البيوت" (ص 30، 1992).
بعد توقيع اتفاقية أوسلو، دعا بن نون إلى نشاط أكثر فعالية فكتب في مقال آخر في المجلة نفسها: "لا يكفي الاستيطان في القلوب، وإنما يجب الاندماج في جهاز الدولة"، وفقط هكذا يمكن تحقيق النصر: "هذه هي المعركة الحقيقية، والتي يجب ألا نتعب منها أو ننسحب، ولو حتى للحظة واحدة. فالنصر لن يتحقق بالضربة القاضية وإنما بالنقاط وعلى مدار الزمن" (ص 43، 1994).
حاخام أخر من مستوطني الصهيونية الدينية هو يهودا هنكين كتب بالتوجه نفسه مقالًا بعنوان "خط الدفاع ليهودا والسامرة يمر من تل أبيب"، أكد فيه على ضرورة حسم الصراع الثقافي بين "اليمين واليسار" وأن هذه المعركة هي التي ستحسم مستقبل الدولة. وأضاف: "عندما تعود العجلة السياسية إلى الوراء، فإنها تتطلب صحوة مكثفة في التربية والصحافة وقيادة الجيش". ويكتب هنكين أيضًا: "علينا محاربة الثقافة المناهضة للقومية وممثليها بكل الطرق. اتضح أن خط الدفاع عن بلدات يهودا والسامرة يمر بالذات عبر تل أبيب وأشكلون وأوفكيم، وهذا الخط كان مهجورًا من قبلنا حتى الفترة الأخيرة. لم يعد بالإمكان بناء البلاد بدون بناء الشعب الذي فيها" (هنكين، ص 34:1994). وقد أضاف عدد من الكتاب مساهمات أكدت على ضرورة العمل في مجال التربية "لبناء الشعب من جديد" واستغلال القدرات التي نمت في هذا المجال من أجل "احتلال القفار الروحانية" (أريئيل، ص 17، 1994).
في أعقاب هذا النقاش الاستراتيجي بين طروحات مختلفة، بدا أن التوجه الذي طالب "ببناء الجسور مع المجتمع اليهودي" و"الاندماج" في أجهزة الدولة قد ترك أثرًا كبيرًا على استراتيجية عمل اليمين بشكل عام، وعلى ناشطي الصهيونية الدينية بشكل خاص. فقد أقيمت مئات المؤسسات التي تعمل وفق مقولة "الاستيطان في القلوب" لتقريب اليهود إلى اليهودية وإلى أفكار المستوطنين، وخصوصًا فكرة العلاقة التاريخية مع البلاد، بشكل "ناعم". لقد صبت هذه الجمعيات والمؤسسات جل نشاطها في التعليم العام الرسمي حيث يتعلم معظم الطلاب المحسوبين على العلمانيين اليهود. مهم التذكير هنا أن للصهيونية الدينية تيارًا تعليميًا رسميًا يتمتع باستقلالية داخل التعليم الرسمي حيث يجري التدريس في هذا التيار وفق روح الصهيونية الدينية. إلى جانب نشاطات الجمعيات الواسعة، استطاعت الصهيونية الدينية، منذ العام 2009 ولغاية يومنا هذا، التأثير بشكل كبير على مناهج التعليم وبشكل خاص تلك المتعلقة ببناء الهوية.
إلى جانب التربية والتعليم والاعلام والثقافة، تنبه التيار الاستيطاني في الصهيونية الدينية إلى المجتمع المدني كساحة صراع، إلى جانب قيادة الجيش وأجهزة الدولة العميقة. فإلى جانب تأسيس الجمعيات والمؤسسات والشركات وتجنيد التمويل لها من ميزانية الدولة ومن ممولين صهاينة يهود وغير يهود من إسرائيل وخارجها، شرع هذا التيار بحرب لاحتلال المواقع المهمة في أجهزة الدولة المختلفة. من خلال مراكز القوة هذه يقود اليمين الاستيطاني حربًا في اتجاهين: ضد كل ما يخالفه في شتى الميادين بهدف إضعافه، من خلال المس بشرعيته ومصادر تمويله والتضييق عليه، ومن أجل تثبيت روايته وترسيخ قوته بسيطرته على المؤسسات ووضع ترتيبات مؤسساتية وقوانين وحسم الصراع والملفات المفتوحة، وخصوصًا المتعلقة بالأراضي المحتلة منذ العام 1967 والسعي لضمها وتثبيت وتعميق يهودية وعرقية الدولة بروح توجهاته والتضييق على المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل.
ولم تكتف استراتيجية اليمين بهذا المركب الساعي لإقناع "الأعداء" واحتلال المواقع، بل اتسعت لتشمل مركبات صدامية، وخصوصًا بعد "خطة الانفصال" التي قادها زعيم اليمين أريئيل شارون. ولعل مجموعات "شبيبة التلال" ونهجها الذي بات ظاهرًا في شتى النشاطات هي مثال جيد على ذلك. مع الوقت، أخذت هذه الاستراتيجية تتطور وتتشعب. فهناك من يعمل بنعومة من أجل "الاستيطان في القلوب" وهناك من يهاجم ويضيق العيش على الأعداء في شتى المجالات وهناك من يلاحق العرب والـ "يسار" وهناك من يدير "حرب المواقع" وهناك من يفكر كيف يعزز التمثيل البرلماني لهذه القوة من خلال جذب أصوات إضافية لتيار "الصهيونية الدينية" وتعميق التأثير في أحزاب اليمين الأخرى، وبالذات الليكود الذي يصوت له ربع المستوطنين. كل هذا النشاط يجري مع زيادة كبيرة لأعداد المستوطنين الذين تحولوا إلى كتلة ضخمة مستفيدين من غلاء المعيشة وأزمة السكن فيتم جذب سكان لا ينتمون بالضرورة للتيارات الاستيطانية لكن مصلحتهم الموضوعية والاقتصادية تتلاقى مع تيارات الصهيونية الدينية، وخصوصًا في كل ما يتعلق بضم أراضي 67 إلى اسرائيل.
مرّ حوالي ثلاثين عامًا منذ أن نشر بن نون مقاله حول الاستيطان في القلوب، ويبدو أن التيارات الاستيطانية في الصهيونية الدينية قد نجحت في بلورة استراتيجيات ساهمت في إخراجها من المكان الذي كانت فيه إلى مكان ضاعفت فيه من قوتها وتأثيرها بشكل يفوق حجمها بكثير، مستفيدة من كل الأحداث التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية. اليوم، وبعد أن استطاعت إحكام سيطرتها على مواقع هامة في أجهزة الدولة العميقة، وبناء قوتها في المجتمع المدني والصحافة والتربية وغيرها، تبدو الطريق للوصول إلى أهدافها أسهل وتبدو التهديدات على الفلسطينيين وعلى معارضي نهجها في الوسط اليهودي أكبر. لكن، واستمرارًا لأفكار ومساهمات غرامشي وغيره حول الهيمنة، وحول الصراعات والتناقضات داخل المجتمعات، لا بد من التذكير بأن عجلة التاريخ لن تتوقف عند هذه النقطة أو تلك وأن هناك عوامل كثيرة تؤثر على مجريات الأمور، منها ما يحدث على الساحة الفلسطينية والعالمية، وأن هناك صراعًا قائمًا على الهيمنة تتعلق نتائجه بلعبة القوة وبنائها، والتي لا تتوقف.
(استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected])