الأزمة إسرائيلية والثمن فلسطيني
كُتِب الكثير من القراءات والتحليلات للتحولات السياسية في إسرائيل وعن تبوّؤ حكومة نتنياهو والصهيونية الدينية مقاليد الحكم. وقد تراوحت القراءات ما بين اعتبارها امتدادًا طبيعيًا تلقائيًا للحكومات السابقة وبين اعتبارها تحوّلًا جذريًا في الحالة الإسرائيلية، بكلّ انعكاساته على الحالة الفلسطينية. باعتقادي أنّ الرد على هذا السؤال ليس بالجزم بأنها امتداد أو تحوّل، بل إن التحول هو امتداد وقد يختلف جوهريًا عما هو امتدادٌ له، حتى ولو عاد كلا الأمرين إلى الحالة ذاتها، من حيث الجوهر الذي ينبثق عنه أكثر من احتمال، بل وحتى احتمالات متناقضة. فالجوهر الإسرائيلي الصهيوني الاستعماري العنصري يحتمل حالات متباينة من حيث وطأتها على الفلسطينيين. وذهبت بعض القراءات إلى احتمال اندلاع حرب أهلية اسرائيلية بينما نفى بعضها هذا الاحتمال بالمطلق. وباعتقادي أن لا مكان لحرب أهلية تؤدي إلى المخاطرة بتفكيك الدولة، لأن الإجماع الصهيوني على وجود الدولة اليهودية شامل. ثم أتت الخطوات الأولى للحكومة وفيها تكثيف لسياساتها الانقلابية على نمط المنظومات الحاكمة، وحصريًا على الجهاز القضائي، إضافة إلى المسعى الحثيث لتطويع المؤسسات الأمنية لسياسات الوزراء المسؤولين. كما استولت أحزاب الصهيونية الدينية الفاشية الثلاث (عوتسما يهوديت والصهيونية الدينية ونوعم) على المنظومات التي تحدد مساحات واسعة من حياة الفلسطينيين، سواء في الضفة الغربية أم القدس أم الداخل، وبحيث لا تعترف هذه الأحزاب بـ"الخط الأخضر"، بل أن عقيدتها مبنية على "أرض اسرائيل الكاملة" بالمفهوم التوراتي المجيَّر سياسيًا. وبناء عليه، اعتماد السياسات ذاتها في أنحاء فلسطين كافة ليكون، على سبيل المثال، مشروع التهويد في المناطق المصنفة (ج) في الضفة الغربية، وهي غالبية المساحة، وتشجيرها بالزيتون (الصهيوني)، هو ذاته مشروع التهويد في النقب أو الجليل. وإن كان قد تم تطبيقه في الماضي بأدوات مختلفة حسب الوضعية القانونية، فإنها تعتمد راهناً الخطاب ذاته والأدوات ذاتها. كما تتعامل خطوطها العريضة مع فلسطينيي الـ 48 بمثابة عدو وجبهة قتال من حيث الجوهر وبأنهم يدعمون العدو في حربه ضد إسرائيل. وعلى الصعيد ذاته، تعتبر أن توجّه م.ت.ف والسلطة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية بمثابة "إرهاب دبلوماسي" وهجوم عدوانيّ على إسرائيل يتطلب منها الرد. وللحقيقة والتاريخ، فإن هذا الموقف ليس وليد الصهيونية الدينية بل وليد حكومات اسرائيل من شمعون بيرس إلى نتنياهو. يجدر التنويه بأنه وبعد إعلان الحكومة فلا معنى لحصر الأمور في ممارسات بن غفير وسموطريتش والصهيونية الدينية، بل إن كل ممارسة إرهابية لهؤلاء باتت ممارسة حكومية رسمية، وكل حصر للمواقف بهؤلاء يعني تبريرًا للحكومة برئاسة نتنياهو.
بعد خطواتها الأولى، بانت بشكل أكثر وضوحاً نوايا الحكومة في مسألة إضعاف الجهاز القضائي سواء على مستوى المستشار القانوني للحكومة أم المحكمة العليا وصلاحياتها، أم تعيين القضاة. وفي صلب ذلك، النيّة المعلنة بالقضاء على الكوابح التي تقف أمام الحكومة ووزرائها. لم تكن المحكمة العليا ملاذًا لحماية حقوق الفلسطينيين أينما كانوا، بل قامت جوهريًا بتبرير السياسات الإسرائيلية وتوقفت عند رتابة الإجراء، لا البتّ بالجوهر، إلا أنها كانت منصة أو حلبة يدير فيها فلسطينيو48 معركتهم الحقوقية والمعركة على شرعية دورهم السياسي. وإذ شكلت حلقة جوهرية من المنظومة الإسرائيلية القاهرة، إلا أنها شكلت منصة لبلورة الخطاب الحقوقي المتحدي لها وللمنازلة ما بين قوة الحق لدى الضحايا وباطل فائض القوة الحاكمة. هذه المساحة كانت ضرورية ليس في توخّي الفلسطينيين العدالة منها، وإنما لتحدي محدودية القضاء الإسرائيلي وجوهره وللاستفادة من ذلك في تعزيز المواقع ذاتيًا، محليًا وإسرائيليًا ودوليًا، وهو ما يطلق عليه مركز "عدالة" اسم "المرافعة الاستراتيجية" التي تمهد بدورها للمرافعات الدولية باشتراط استنفاد الإجراءات المحلية. كما ساعد اللجوء للإجراء القضائي في بلورة روايتنا، كما حدث بشكل بارز مع "لجنة أور"، والمقصود هنا خطاب الضحايا المناضلة وخطاب الحق والبعد الشعبي الذي تعاظم حول ذاك الحضور.
من سمات حكومة نتنياهو والصهيونية الدينية أنها حكومة "الشؤون الداخلية" والأفق الضيق لكن الخطير، وهي غاية في السطوة الترهيبية وفي إزالة كل الكوابح حتى الشكلية منها، كي يتفرّد كل وزير بإملاء سياسته ومواقفه الشخصية الذاتية والعقائدية على المنظومات التي تقع تحت مسؤولية وزارته، ولتصبح كل وزارات أحزاب الصهيونية الدينية بمثابة وزارات سيادية مرجعيتها هي الاتفاقات الائتلافية التفصيلية وليس رئيس الحكومة. ويتحكم هؤلاء، بموافقة نتنياهو، بمقاليد اتخاذ القرار في كل ما له علاقة تماس مع الفلسطينيين، ويستخدمون منظومات الدولة لفرض عقيدتهم الفاشية، ناهيك عن وزراء الليكود أنفسهم، وهذا مؤشر على أن هذه الحكومة تسير بوتيرة متسارعة نحو تصعيد غير مسبوق تجاه الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل، ليس بسبب مواقفهم أو خطوات يقومون بها وإنما لمجرد وجودهم وحضورهم السكاني.
من اللافت أيضا أننا بصدد نهاية حقبة نتنياهو بصفته "الرجل القوي" أو "الساحر" في إسرائيل، بل اتضح كم هو قابل للابتزاز من شركائه في الائتلاف، وبالذات الاحزاب التي ذكرت آنفا، وخضوعه لدرجة تفكيك منظومات دولة وجيش وشرطة لخدمة مصالح ائتلافية، لدرجة بات فيها حتى حزب الليكود على حافة الغليان الداخلي لمجرد احتمال أن يورث نتنياهو أعضاء الليكود حزبا هشّاً متآكلا بعد انتهاء حقبته التي بدأت مؤشرات اقترابها. ومؤشرات المرحلة أيضًا السعي إلى الحسم، بأسرع وقت ممكن بل فوري، في جميع التغييرات الجوهرية الدستورية وفي منظومات الحكم، قبل فوات الأوان حسب اعتبارات الائتلاف الحاكم، إذ يدركون أن نتائج الانتخابات الأخيرة لم تكن "قضاءً وقدرًا" بل استغلال فرصة تاريخية بعودة أقصى اليمن إلى الحكم وبقدرته، وحده، على تشكيل حكومة مع الأحزاب الدينية الحريدية. كما تدرك أحزاب الصهيونية الدينية أن قوتها واستدامة وجودها في الحكم ليست مسائل مفروغًا منها وفي حال جرت انتخابات فلا تملك أية ضمانات لبقائها في الحكم. وكذا الأمر بالنسبة لنتنياهو الذي تآكل دوره القيادي شعبيًا وحزبيًا. كما أنه في حال لم تتسارع وتيرة حسم الإجراءات والتشريعات المعنيين بها فستصبح مهمتهم أصعب، إن لم نقل غير ممكنة.
لقد جاءت استفاقت المعارضة الإسرائيلية الصهيونية بسرعة غير متوقعة وبزخم شعبي قوي جدًا، لتهدد قدرة الائتلاف الحاكم على المضي في خطواته بالاعتماد فقط على الغالبية البرلمانية الراهنة. وقد تكون هذه المعارضة الشعبية هي الحاسمة في حماية الجهاز القضائي مثلًا، وهي ليست مجرد معارضة عددية بل من ورائها قوى جدية من يهود الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية والنخب الاقتصادية الإسرائيلية، وبالذات صناعات الهايتك، ومن رؤساء الجامعات ونقابات هامة، وبالذات نقابة المحامين كما تظهر لغاية الآن وهي بذاتها مستهدفة من الحكومة وكذلك من قبل الكثير من رؤساء البلديات. إن صوت النخب الاقتصادية يقلق نتنياهو ويرى رؤساء صناعات الهايتك بأن صناعاتهم هي المحرّك للانتعاش الاقتصادي وبأنّ المس بالمحكمة العليا وبالتشريعات من شأنه أن يؤدي إلى عزوف الكثير من الاستثمارات الهائلة عن إسرائيل وتراجع التدريج الائتماني، وليشكل هذا بيئة استراتيجية مؤاتية لحركات المقاطعة وسحب الاستثمارات من اسرائيل. وبحسب التقديرات، قد يعيد الاقتصاد الإسرائيلي 30 سنة إلى الوراء. وهذا يعني في الواقع أزمة اقتصادية عنيفة وعميقة لم تشهدها الدولة منذ أربعة عقود. ليس من المتوقع أن تؤدي المعارضة الإسرائيلية إلى سقوط الحكومة، التي لا يجمعها الثقة المتبادلة ولا التناسق بل المصالح الحزبية الحياتية لمركباتها، لكنها قد تردعها عن تطبيق سياساتها.
إذا ما ضعف وزن الصهيونية الدينية الشعبي ووزنها السياسي فإنها لا بد أن تنتقل إلى العنف السياسي والأعمال الدموية، بما في ذلك المظاهرات العنيفة وحتى الاغتيالات السياسية لن تكون امراً غيرَ متوقعٍ. هذا داخل المجتمع الإسرائيلي، فكم بالحري تجاه الجمهور العربي الفلسطيني. كما باتت هذه الأحزاب تدرك أن نتنياهو يهاجم المعارضة لكنه بدأ ينصاع إلى صوتها. وفي حال انصاع لصوت المعارضة بشكل واضح فقد يؤدي ذلك إلى بناء ائتلاف بديل إذا ما وافق غانتس على ذلك. إلا أن الصهيونية الدينية، وبالذات حزب عوتسما يهوديت الفاشي، قد أقامت بنية متكاملة من الميليشيات المسلحة الرسمية وشبه الرسمية التي تعمل بإمرته وبالذات في المدن الساحلية والنقب لمحاربة الوجود العربي، ومن المتوقع أن يسعى لتفعيلها.
رغم تعاظم دور المعارضة الإسرائيلية وشعبية مطالبها في الحفاظ على المنظومة القائمة، ورغم تطوّر شعاراتها من مظاهرة إلى أخرى، إلا أن أجندتها ليست أجندة الفلسطينيين في الداخل الذين يريدون أولًا حماية أنفسهم وحقوقهم وحقوق شعب فلسطين كله. فلا المعارضة الإسرائيلية معنيّة بهم وبصوتهم السياسي، كما أن المعارضة الإسرائيلية الاقصائية لهم ولمطالبهم ليست بيتهم السياسي. فلا بد من السير بمسارين كيانين مستقلين، حتى ولو تقاطعا في مواقع مختلفة في مواجهة حكومة الفاشيين لكن يبقى لكل كيان مرجعياته ومواقفه ونمط كفاحه، بل وحصريًا مع هذه الحكومة التي ترى بكل الفلسطينيين أعداء وجبهة قتال وتستهدفهم في إطار نظرة سافرة واحدة وسياسات واحدة، فإن المطلوب هو التنسيق الفلسطيني الفلسطيني في كل فلسطين التارخية الخاضعة للسيطرة الاحتلالية والاستعمارية الإسرائيلية. وهذا يحفّز أيضًا على خوض المعركة على المحافل العربية والاقليمية والدولية.
هناك واقع متغيّر تواجهه هذه الحكومة، فهي مأزومة دوليًا بخلاف حكومة لبيد بنيت التي كانت مأزومة داخليًا ومنفرجة دوليًا. بل إن الحالة الفلسطينية التي أراد نتنياهو تجاوزها تعود بقوة كبيرة إلى الواجهة، سواء بفعل الشعب الفلسطيني وبالذات بعد انتقال مركز الثقل في مناهضة الاحتلال إلى الضفة الغربية، والفعل الدولي وبالذات التوجه إلى المحافل الدولية، في حين أن كل إجراء تصعيدي تجاه أي مركَّب من القضية الفلسطينية بات مسألة لها أبعاد استراتيجية إقليمية ودولية. هكذا مع اقتحامات الاقصى ومع منطقة الخان الاحمر ومع الأسرى وغيرها. ثمّ أن ما أراد نتنياهو استبعاده من جدول أعمال إسرائيل، أي تجاوز قضية فلسطين والتطبيع مع العرب، فإن أحزاب الصهيونية الدينية الشريكة له مشغولة حصريا بقضية فلسطين، وقد جعلتها أكثر محوريّة في جدول الأعمال الإسرائيلي الذي سعى إلى تغييبها، وهذه الأحزاب غير مكترثة للمواقف الدولية ولا حتى العربية التطبيعية.
في المحصلة فإننا بصدد حكومة تبدو الأكثر تصعيدًا وخطورة في الشأن الفلسطيني، إلا أنها حكومة مأزومة استراتيجياً، فلا أفق لديها لا دوليًا ولا فلسطينيًا حتى ولا عربيًا، بل بتنا أمام دولة تغوص في شؤونها الداخلية المأزومة وهي دولة أضعف استراتيجيًا لكنها أخطر تجاه من يقعون تحت سيطرتها، أي الفلسطينيين. هؤلاء ليسوا جزءًا من المعارضة الإسرائيلية وعليهم تحديد دورهم، بينما الأشد خطرًا في هذا الصدد هو ضعف الحركة السياسية سواء في الداخل الفلسطيني أم على مستوى شعب فلسطين، وذلك قبل سطوة الفاشية الصاعدة، وهذا ما ينبغي أن يكون أولويتنا.
*المقالات المنشورة تعبّر عن آراء كاتبيها.
أمير مخول
باحث في مركز تقدم للسياسات