حكومة إسرائيل الجديدة، فارءه مع مين؟

يصدر هذا العدد الخاص بمناسبة مرور عامين على إطلاق منصة "فارءه معاي" ويحمل عنوان "حكومة اليمين بالكامل وتوجهاتها حيال العرب والقضية الفلسطينية". وقد يعكس هذا العنوان بذاته طبيعة الإشكال الذي نعاني منه، نحن المواطنين العرب في إسرائيل. فالأحجية الأساسية أو التساؤل الأصح يتعلق بتوجهات العرب والفلسطينيين حيال هذه الحكومة، حكومة اليمين بالكامل، وليس العكس، وخاصة فيما يتعلق بتوجهاتنا، نحن المواطنين العرب الفلسطينيين مواطني الدولة، وكيف سنواجه سياساتها المعلنة تجاهنا. أقول هذا لأنني أرى أن توجهات هذه الحكومة وما تعدّه لنا وللفلسطينيين في الأراضي المحتلة معلنة ومكشوفة ولم تترك لأي مجتهد أو مفكر مجالًا للالتباس حولها.

لم يبدأ الانهيار السياسي داخل المجتمع اليهودي بشكل فجائي؛ فعملية الانزياح تجاه هذا اليمين المتحوّر بنزعتيه الخطيرتين، قوى دينية متزمتة إلى جانب مجموعات تحمل الفكر الفاشي الواضح، هو نتاج سيرورة لم تغب تداعياتها الخطيرة، عبر السنين الماضية، عن بال وأقلام الكثيرين من المتابعين والمهتمين بما يحصل. وعلى الرغم من وضوح الصورة ومخاطرها، لم ننجح كمجتمع مهدد بشكل مباشر باجتراح رؤى سياسية جديرة ولا وسائل نضالية كفيلة بمواجهة تلك المخاطر وبحماية مجتمعنا قبل وصولها إلى نقطة الحسم التي نقف عندها في هذه الأيام.  

حاول ويحاول الكثيرون بيننا التعاطي مع أسباب هذا القصور والفشل، مفترضين أننا كمجتمع نملك مؤسسات ومفاعيل سياسية واجتماعية ومدنية قادرة وراغبة، على مستوى النظرية، أن تفرز من داخلها تلك الرؤى والوسائل الموازية لفداحة الخطر المتوالد داخل المجتمع اليهودي وما تفرزه من قوى سياسية جديدة، بينما كان واقعنا أكثر تعقيدًا وعاجزًا عن أداء تلك المهمة؛ فأساس مشكلتنا كان، واليوم صار أوضح، أننا كمجتمع مارسنا حالة انزلاق خطير ولم نشعر أو لم نعترف بأننا نفتقد تلك المؤسسات الواقية الحقيقية ومضينا نمارس حياتنا بين وهمين: الأول قبولنا بما هو قائم من أحزاب وحركات سياسية ودينية تقليدية أدخلتنا إلى دوائر مفرغة، هي بذاتها كانت تولد أسباب فقداننا لمناعاتنا الاجتماعية والسياسية وقدراتنا على التصدي لجميع التحديات الناشئة في علاقاتنا الداخلية، بين بعضنا البعض. وفي الوقت نفسه، التحديات في علاقاتنا مع المجتمع اليهودي المتغيّر ومؤسسات وقوانين الدولة التي يفرزها ذلك المجتمع . والثاني، وهو ما نتج عن تفاقم الحالة الأولى، هو اقتناع قطاعات واسعة من المواطنين العرب بأن سياسة الدولة تجاههم تشي بقرار صناع القرار فيها باتباع سياسة "التمييز الإيجابي" لصالح تلك القطاعات واستيعابهم في مرافقها التشغيلية وتحسين أوضاعهم المهنية والمعيشية، مما أبعدهم عن مواجع مجتمعاتهم ودخولهم إلى قلب "فقاعة"، سرعان ما سيجدونها هشة وغير مستدامة.  

من غير المعقول أن تغطي هذه العجالة محطات تلك السيرورات؛ وإن كنت، مثل غيري من المتابعين، قد حذرت من خطورتها، وأكدت أننا نواجه في الحقيقة منزلقين خطرين، هما النزعة الفاشية التي تتحكم بممارسات قطاعات واسعة داخل المجتمع اليهودي واقتراب تلك القوى من التحكم بالنظام السياسي الاسرائيلي؛ والثاني، هو انهيار مؤسساتنا السياسية والاجتماعية وعجزها عن حماية هوية مجتمعنا وحصانته، وكذلك عجزها عن مواجهة سياسات اليمين الجديد وحكومته المتوقعة ومخاطرها الوخيمة التي تخطت مرحلة الاختمار وأصبحت قيد التصرف والإنجاز .   

لقد راهن البعض على أن الفرصة أمام هيئاتنا القيادية، "لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب" والأحزاب السياسية والحركات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني ومجالسنا المحلية، ما زالت متاحة، وكل ما ينقصها هو بعض الإجراءات التصحيحية داخل هياكلها التنظيمية، إضافة إلى إعادة نظر بعضهم في برامجهم السياسية ومعتقداتهم الناظمة لعلاقاتهم مع الدولة اليهودية.  وإن كنت انمنى حدوث تلك المراجعات، وخاصة فيما يتعلق بـ "لجنة المتابعة العليا" وداخل "الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة"، إلا أنني كنت قد توصلت إلى قناعة بأننا أمام حالة مستعصية تستوجب منا وقفة جديدة لنقرر كيف يمكننا مواجهة خطر الفاشية؛ وقد اقترحت في حينه التفكير في صياغة عدة بدائل من أهمها العمل الفوري على بناء الجبهة العريضة ضد الفاشية لتضم كل القوى العربية واليهودية المستعدة لخوض هذا النضال.

وللأسف، لم تلق هذه الصرخة تجاوبًا جادًا ومسؤولًا وعمليًا بيننا، فباستثناء بعض المحاولات من قبل قياديين، لا سيما من داخل الجبهة، وعل الأخص ما يقوم به النائب أيمن عوده ومعه مجموعة من نشطاء وقياديين جبهوييين، مارسَت معظم القيادات السياسية والدينية لغة الصمت أو التأتأة؛ ومثلهم فعلت أكثرية نخب المثقفين العرب وغيرهم. 

عندما أطلقت ندائي بضرورة الشروع في بناء "الجبهة ضد الفاشية"، لم أكن واهمًا بأن جميع الأطر السياسية والاجتماعية المهيمنة داخل مجتمعنا، ورغم شعور الجميع بأننا سنكون أول ضحايا النظام السياسي المتشكل داخل إسرائيل، ستسارع للانضمام إليها، وذلك لمعرفتي أن مجتمعنا العربي يفتقر عمليًا إلى مثل تلك الأطر المؤمنة بضرورة ممارسة الديمقراطية كأساس لنظام سياسي يريدون تطبيقه لو هم حكموا في دولتهم، وكذلك لأن بعضهم لا يرى ولا يشعر بالفاشية خطرًا مطلقًا يتوجب مواجهته بدون قيد أو شرط، وذلك لأن بعضهم ببساطة يحمل أفكاراً وعقائد لو أطلقت لها الأعنّة، في دولة هم يحكمونها، لكانت ستتطابق والفكر الفاشي بتعريفاته العلمية. وبلغة أخرى أقول، وأعرف أنني سأستفز كثيرين، نحن مجتمع لا نمارس الديمقراطية مهما تحاورنا على صورها وأشكالها، فهي دخيلة على ثقافتنا وموروثنا، وبعض تياراتنا المؤثرة يتبنى قيمًا فاشية، حتى لو لم يسموها كذلك.       

من اللافت، في المقابل، أن نرى داخل المجتمع اليهودي استنفارًا شعبيًا واسعًا ونخبويًا متناميًا ضد الحكومة اليمينية، يتمظهر في المظاهرات الجماهيرية الضخمة التي تنظم في بعض المدن الإسرائيلية. كنت أرغب في أن نرى مثل هذه المظاهرات في الناصرة وفي سائر مدننا وقرانا، وهذا هو واجب قياداتنا ودورها في التأثير على منظمي الحراك ضد الحكومة الاسرائيلية؛ ولكنّ هذا لا يحدث.  فقرار معظم الهيئات والمؤسسات المتنفذة داخل المجتمع العربي مقاطعة هذه المظاهرات، لأنها حسب بعضهم، ليست أكثر من صراعات داخل المجتمع اليهودي ويجب ألا تعنينا. وقد كان محمد بركة، رئيس "لجنة المتابعة العليا" كتب على صفحته: "لسنا عبثيين كي لا نرى أهمية هذا الحراك في إسرائيل لضعضعة حكومة الفاشيين بقيادة بنيامين نتنياهو، لكن هذا الحراك ليس كافيًا ويبقى خارج الملعب الاساسي". وإن كان الرأي كذلك، فكيف هو الحراك الكافي وأين سيكون ملعبنا الأساسي؟ 

أسأل وأعرف الجواب.. فهل سنعرفه بعد خراب "بصرانا"؟


الصورة: من موقع "لجنة متابعة قضايا الجماهير العربية" في الداخل.

المحامي جواد بولس

محام وكاتب فلسطيني

شاركونا رأيكن.م