حاجز إيرز وأصبع "الروج" المكسور

يكاد المسافر يجد كل شيء في طريقه الجديد وغير المألوف ليكتب عنه، عن جمال وروعة الطرقات الجديدة، العالم المفتوح أمامه، المحطات المبهرة.. الكثيرون من عرب وعجم، المطارات التي تفرض هيبتها واستهلاكيتها أيضًا.. الكثير في جعبة المسافر ليحكيه ويرويه ويكتبه وقد يصل حدًا يكاد أن يكتب مذكراته عن العالم اللامتناهي والأسفار والأوجه السمراء والبيضاء والعيون الحالمة بأيام جميلة وحماسية!

لكني حين عبرت حاجز "إيرز" (معبر بيت حانون) بعد ست سنوات من المنع غير المبرر، فقط بسبب قيود الاحتلال الإسرائيلي المزاجية، تلك التي لا تنضوي تحت الشرعنة الدولية، ولا أي أنظمة لحقوق الانسان.. لقد عبرت، وما أسهل هذه الكلمة، بل لقد مررت بحاجز مقسم إلى عدد من الحواجز والممرات والأبواب الحديدية الإلكترونية، تلك التي لا علاقة لها بالإنسانية لدرجة جعلتني أتغافل عما شعرت به لأكثر من شهرين فيضج برأسي مرة أخرى كالمطرقة.. ولكي يبدو التوصيف متسلسلًا سأعود إلى ذلك الركن المظلم حيث أتخلص من شوائب الاحتلال وممارساته الغبية التي نعيشها يوميًا بين أضغاث حياتنا في غزة...!

انتقلت بسيارة أجرة من غزة إلى حيث يقطن "حاجز ايرز".. منطقة عسكرية مغلقة بكل ما في الكلمة من معنى، تجاوزت النقطة الفلسطينية الخاضعة لسلطة غزة، ثم النقطة الثانية التابعة لسلطة رام الله، وهما عبارة عن صالة كبيرة مليئة بالمقاعد البلاستيكية، وما يشبه تلرات البنوك المنظمة، كل شيء هادئ ومنظم وسريع لم يأخذ أكثر من ربع ساعة لكليهما، ثم حصلنا على نسخة من التصريح ونقلنا باصٌ إلى البوابة الإسرائيلية، بدون المرور بممر يمتد مسافة طويلة ومغطى بأكمله بالأسلاك والبوابات الحديدية. وصلنا إلى نقطة التفتيش الأولى، ما الذي نحمله معنا...!! حسنًا لقد بدأت الأوامر العسكرية التي تتعامل معنا بعقلية المحتل مسبقًا. الممنوع جلبه وحمله أكثر من المسموح. هل يمكنني أن أتذكر ما هو مسموح به...!! حسنًا.. لنجرب ...! ممنوع جلب حقيبة يمكنها أن تريح المسافر وتسير بعجلات!! ممنوع جلب حقيبة بلاستيكية أو قماشية طالما يمكنك جرّها. أي أن أي حقيبة تصلح للمطار لا تصلح هنا، فقط حقيبة يدوية (كالحقائب الرياضية التي تصلح للـ"جيم" فقط) لا يوجد فيها حديد أو عظم أو عجال...! حقيبة واحدة فقط، وزن ما فيها لا يزيد عن 20 كيلوغرامًا، ممنوع كل أنواع الماكياج، العطور ممنوعة، الكريمات ممنوعة، زجاجة الماء أو العصير ممنوعة، ممنوع الأكل، عليك ألا تحمل أي شيء من غزة هدايا ثمينة، ساعات، منحوتات خشبية.!! إياك أن تغفل وتنسى علبة مقص الأظافر أو القصافة أو أي شيء يشبه السلاح الأبيض، حتى لو كان استخدامًا بشريًا متعارفًا عليه في كل العالم وإلا، فستصبح إرهابيًا، وبدلًا من أن تجد نفسك مسافرًا لاستنشاق شيء من الحرية، قد تجد نفسك محاكمًا وفي سجون الاحتلال، فقط لأنهم لا يفهمون معنى أن تكون إنسانًا عاديًا بسيطًا...!! أي شيء قد يعرّضك لأن تواجه المزيد من الصعوبات، لو فكرت بجلبه أو مخالفته. وربما لن تحصل على تصريح مرة أخرى...!! عقلية الاحتلال المريضة والمهووسة بالحفاظ على الأمن لا تتوقف عن وضع المزيد من القيود على أنفاسنا نحن الفلسطينيين أهل وأصحاب هذه الأرض، فقط لتبرير أفعالهم الشنيعة وجرائمهم التي لا تنتهي...!!

ممرات كلها حديدية.. كاميرات في كل مكان، بوابات لن تستطيع دخولها إلا في حال أضاءت الأزرار المقابلة باللون الأخضر، وإن بقيت حمراء عليك أن تظل مكانك، لا تلتفت يمينًا ولا يسارًا.. لقد تعمدت أن أبقى قاعدة. أصبع "روج" قديم يكاد أن ينتهي ولم يكن فيه غطاء ولا يحتوي إلا على بقايا "الروج" ذي اللون الوردي. لا شيء آخر...!! مررت بكل البوابات وبعد التفتيش مررتُ أيضًا عبر ماكينة بالأشعة فوق البنفسجية. وهنا أيضًا يجب أن تسأل ألف سؤال عن التعليمات مسبقًا، لما يجب أن ترتديه قبل أن تفكر بالسفر عبر "معبر إيرز". عليك ألا ترتدي لا الأزرار الحديدية ولا الأحزمة على الوسط. الأصوات تتقافز في رأسي مرة أخرى...!! ابتعدي عن أي ملابس داخلية قد تبدو كأنها معادن، لا مشدات على البطن، فالأشعة على جهاز الفحص لن يعجبها سوى الهيكل العظمي الذي يملكه الواقف فيها وذراعاه أعلى رأسه وقد وقف وتصلب انتظارًا للسماح له بالمرور إلى بوابة معدنية أخرى.!! الحذاء، انتبهي كي لا يفتح شهية الماكينة التي لن تكف عن الصراخ وكأنها اقتنصت فريسة جديدة...!! إن حدث غير ذلك، فقد تُجبَرين على التفتيش اليدوي الذي لا ترحم المجندات الاسرائيليات فيه ويتبجحن بالتفتيش الإجباري فيؤذين النساء بصرامتهن وغبائهن اللامتناهي، إذ يقمن بالعمل القذر وكأن شيئًا لم يكن...! الإهانة والحط من الكرامة هي وسم لـ"حاجز ايرز". فحتى تصل إلى الحاجز ما قبل الأخير، تُجبَر على خلع حذائك وتمشي حافي القدمين، كان بردًا أو حرًّا، عليك أن تمشي حتى تعبر وتنتظر أن تجد أشياءك أو تنتظر وقتًا إضافيًا حتى تأتي حقيبتك الملتاعة، فتجد ما تمكنت من جلبه مبعثرًا في صناديق بيضاء بلاستيكية كبيرة؛ كل شيء وقد قلب رأسًا على عقب، بعض الهدايا البسيطة وجدتها ممزقة، بعضها قد لا تجده. ماذا ستفعل؟! ومن ستسأل؟!

لا أحد ...! الإجابة التي تأتي من هنا وهناك.. ألقيت في القمامة.! أعدت ترتيب ما لدي دون أية رغبة في الترتيب وكنت أبحث عن حذائي وعن أصبع "الروج" المكسور، وجدت الحذاء وارتديته بعد أن أصابتني القشعريرة الباردة من الأرض الصلبة، كان هنالك بعض الأجانب لم يخلعوا أحذيتهم. فقط الفلسطيني هو من يُجبَر على خلع حذائه. ترى ماذا فعلت المجندة ببقايا أصبع "الروج"؟ هل ألقته في القمامة؟ ألهذا الحد سيهتز أركان الاحتلال من أصبع "روج" مكسور وبالكاد فيه بقايا لون باهت، كما جعل الاحتلال حياتنا باهتة لا لون ولا شغف فيها...!!

"حاجز ايرز" هو حاجز المصائد. هو فخ بامتياز. فخ لإحكام السيطرة على أنفاسنا وفخ حيث أنه المعبر الوحيد للمرور إلى خارج قطاع غزة، بالإضافة إلى "معبر رفح" البري الذي يعد المعبر الثاني للخروج من قطاع غزة وبدونهما لا إمكانية لمغادرة قطاع غزة، لكن في "معبر رفح" بإمكاني، على الأقل، حمل علبة العطر والمرطب وأصبع "الروج" المكسور، كما يحمل الطفل دميته التي يحبها ويبادلها مشاعر البشر...!


(تصوير: مؤسسة چيشاه-مسلك)

هداية صالح شمعون

كاتبة وإعلامية فلسطينية من قطاع غزة

شاركونا رأيكن.م