مساءَلات ساخنة في مسألة تجميد البويضات

أدّى تزايد أعداد الناجين والناجيات من أمراض السرطان إلى تزايد الوعي الطبّيّ لضرورة تطوير تقنيّات لحفظ الخصوبة. فالخصوبة عنصر مهمّ وغريزيّ لدى الإنسان، يتجلّى بإنجاب الأولاد وإنشاء الأسرة. ويمسّ هذا الأمر – على وجه الخصوص – البالغين من الشباب والمراهقين والأطفال دون سنّ البلوغ، ذكورًا وإناثًا على حدّ السواء.

هذا وإنّ أنواعًا مختلفة من علاجات أمراض السرطان قد تُضرّ بالقدرة على الإنجاب، ومنها الجراحة والأشعّة، وأخطرها العلاجات الكيماويّة. كما أنّ الأنثى تختلف عن الذكر، إذ تولد مع عدد محدود من البويضات، يُستهلك خلال فترة الخصوبة وينخفض بالتدريج مع تقدّم السنّ، إلى أن يتدنّى إلى حدّ ينقطع فيه الطمث وتنتقل المرأة إلى مرحلة ما بعد الخصوبة، المتعارف عليها بمصطلح ""سنّ اليأس""، مع التحفّظ على التسمية ودلالاتها. هذا وقد تُضرّ علاجات السرطان المذكورة أعلاه بمخزن البويضات، حيث إنّه – في بعض الأحيان – لا يعود إلى وضعه الطبيعيّ حتّى بعد انتهاء العلاج. ولهذا، يُعتبر حفظ الخصوبة جزءًا مهمًّا في كلّ خُطّة علاج لمريضات السرطان.

إثر تطوير تقنيّة تزجيج البويضات والأجنّة، وإثر ارتفاع نسبة نجاح إزالة التجميد إلى معدّل يتعدّى الـ 85-90%، أصبحت هذه الطريقة هي الفرصة الأمثل لحفظ الخصوبة في الحالات المناسبة، من حيث عمر المريضة ووضعها الاجتماعيّ والقبول المجتمعيّ. ومن هذه النقطة سأتجاوز الحديث عن الفئات العمريّة الصغيرة من أطفال ومراهقين، وعن التقنيّات الأخرى، كما عن حفظ الخصوبة عند الذكور؛ وسأحاول طرح نقاش حول توسيع أسباب وأغراض تجميد البويضات.

نشهد – في الآونة الأخيرة – ثورة في استخدام تجميد البويضات، بما يبدو أنّه تجلٍّ واضح لحالة تدفع فيها تقنيّة طبّيّة نفسها دفعًا لفتح مجالات لم تكن يومًا في الحسبان. فكلّما قَدُمَت وسيلة العلاج وزادت الثقة بها وبنجاعتها، وتأكّدت قلّة آثارها الجانبيّة وتعقيداتها، رغب العاملون في المجال في فحص أغراض ومجالات أخرى لاستعمال هذه الوسيلة. وبالفعل، تجميد البويضات هو حلّ جيّد لحالات طبّيّة قد تعرّض المرأة إلى فقد سريع لمخزن البويضات؛ منها – على سبيل المثال لا الحصر – بعض حالات بِطانة الرحم المهاجرة، كروموزوم X القابل للكسر، استئصال أكياس أو أورام حميدة من المبايض. ولكن، في مرحلة مبكّرة ومباشرة بعد دخول تقنيّة التزجيج حيّز الاستخدام السريريّ، بدأ الحديث عن تجميد البويضات من دون دواعٍ طبّيّة، وإنّما لحفظ الخصوبة نتيجة التقدّم في السنّ. وذلك كوسيلة تأمين لمستقبل الخصوبة للمرأة الّتي تختار أو تُضطرّ إلى تأجيل الإنجاب إلى مرحلة متأخّرة من العمر.

عام 2014 وفّرت شركات مثل ""أﭘـل"" و""فيسبوك"" تمويل تجميد البويضات كجزء من الحوافز لموظّفاتها، ما أثار – في تلك المرحلة المبكّرة – جدلًا واسعًا حول تدخّل صاحب العمل فيما يُعتبر قرارًا شخصيًّا، وأين يضع هذا التوجّه حرّيّة المرأة حقًّا، وما هي شروط المنافسة الجديدة بين النساء والنساء وبين النساء والرجال. بدأ الجدل ولم ينتهِ؛ فنحن بصدد تقنيّة علاجيّة أثبتت نفسها وتملك كلّ مقوّمات المنطق الطبّيّ والعلاجيّ، ليثور السؤال: ما هي الحالة الّتي نعالجها هنا؟ وهل يحتلّ الطبّ مساحة جديدة في حياة الناس، يتحوّل فيها وضع طبيعيّ أو اجتماعيّ إلى حالة طبّيّة؟ وهل هي حالة جديدة أم استثنائيّة؟

تَعالج الناس منذ القدم لأسباب عدّة، لم تكن كلّها – بالضرورة – مَرضيّة، بالمعنى المتّفق عليه، أي وضع يُضرّ بالعمل الطبيعيّ لأعضاء الجسم ويمنعها من أداء وظائفها، أو وضع يسبّب موتًا عاجلًا أو آجلًا. وقد بحثوا، دائمًا، عن تحسين الأداء وتعزيز الصحّة والقوّة، والعافية والخصوبة والجمال. لكنّ الثورة العلميّة والصناعيّة والتقنيّة أوجدت وسائل حديثة ناجعة وقويّة في الوقت ذاته؛ لم تعد تنتظر تأطير المشكلة من خلال المجتمع أو أهل الاختصاص، بل أصبحت هي بذاتها تحدّد مجال اختصاصها وتُدخِل في دائرة المرض أو ""غير الطبيعيّ"" ما كان مقبولًا وطبيعيًّا. يمكن وصف التغيير بالتقدّم والسعي لجودة حياة أفضل، ولهذا وجه حقيقيّ، بلا شكّ؛ لكن لا يجوز أن يسكِت النقاش المجتمعيّ العامّ، المتعدّد الأوجه والتخصّصات حول ضرورة الاستعمال وعقباته. وفيما يخصّ تجميد البويضات لحفظ الخصوبة لدى المرأة، أعتقد أنّ هناك مستوييْن على الأقلّ للتقييم؛ مستوى المرأة الفرد ومستوى المجتمع، وفي كلّ منهما يشتبك العامل الطبّيّ بالاجتماعيّ، والقيميّ والدينيّ والاقتصاديّ.

ولنبدأ بتعريف نوعيّة العلاج الطبّيّ الذي يندرج تحته تجميد البويضات؛ هناك جدل قائم حول التعريف، ينعكس، أيضًا، في المقالات العلمية التي تبحث في الأمر. إحدى التسميات المقبولة هي ""تجميد بويضات اجتماعيّ""، ويعود أصل التسمية إلى أنّ قرار التجميد يُتّخذ لأسباب اجتماعيّة تخصّ المرأة، تتعلّق بظرف أو خِيار شخصيّ أدّى إلى تأجيل الإنجاب. وإنّ أحد أوجه النقد لهذه التسمية أنّ لفظ ""اجتماعيّ"" يعطي انطباعًا غير دقيق عن أنّ عمليّة التجميد تعود بفائدة عامّة على المجتمع، بينما هي خِيار شخصيّ فيه رغبة واضحة وشرعيّة في استمرار الذات. وهناك اقتراح آخر مُفاده إضافة كلمة ""الوقاية"" وإدراج عمليّة التجميد تحت الطبّ الوقائيّ؛ لكنّها الوقاية من ماذا؟ من الانخفاض الطبيعيّ في عدد البويضات لدى المرأة مع التقدّم في السنّ؟ أم الوقاية من عدم الإنجاب؟ فهل يعرّف ذلك عدم الإنجاب كمرض أو كحالة طبّيّة تستدعي الوقاية؟ وإذا كان مشكلة اجتماعيّة فمن حدّد أنه كذلك؟ ومتى ولمن؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يبقى خِيارًا شخصيًّا تتكلّف المرأة نفقته وتبِعاته الجسديّة والمادّيّة؟ وهل يمكن الاتّفاق على أنّه ""عمليّة اختياريّة غير طبّيّة""، تقوم بها المرأة لتأمين قدرتها على الإنجاب متى أتاحت لها الظروف. وفي هذه الحالة ما هو دور الاستشارة الطبّيّة؟ وما هي المسؤوليّة الطبّيّة عند تحوّل تدخّل طبّيّ إلى خِيار شخصيّ؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل هو ميزة لنساء مقتدرات يستطعن القيام به ودفع ثمنه؟ وإذا لم يحقّق النتائج المرجوّة وكان وهمًا كبيرًا لم يؤتِ استحقاقه – في نهاية المطاف – فهل من مسؤول ومن هو؟

أجد نفسي – في نهاية المقال – مع كمّ من الأسئلة من دون إجابات، في تمهيد لموضوع معقّد وشائك، له جوانب عدّة لمسنا بعضها لمسًا من دون خوض حقيقيّ في معانيها. ولربّما هي أكبر ممّا يحتمله مقال عامّ، مع العلم أنّ النقاش المجتمعيّ – في بعض المجتمعات – نشِط وحيّ، خصوصًا في تشعّبه الأخلاقيّ والإنسانيّ. وأعتقد أنّ المنطق من وراء تجميد البويضات منطق واضح ومعقول، لكنّ التجربة قصيرة والتقنيّة اجتاحت وغزت الوعي العامّ من دون تدرّج كافٍ؛ فالمساءَلات المهنيّة والاجتماعيّة وتقدير الفوائد والأضرار الممكنة ستكون بعد أن يكون القطار قد انطلق من المحطّة وقطع شوطًا بعيدًا، في القسم الشِّماليّ الغربيّ من الكرة الأرضيّة، على الأقلّ. وللحديث بقيّة، أرجو أن تكون في مقالات أخرى نطرح فيها طرحًا أعمق وأدقّ.

د. نيڤين سمارة

طبيبة نساء وأخصائية في مشاكل الإنجاب والإخصاب الخارجي. تحضر حاليا للقب ثاني في مجال الاخلاقيات الطبية

شاركونا رأيكن.م