كيف نتكلم عن العنصرية والصحة؟

ماذا نعني عندما نتكلم عن العنصرية؟

العنصرية كفكر وممارسة هي موضوع كبير وخارج عن مجال مقالنا الصغير، سأحاول هنا ان أتكلم عن العنصرية في سياق الطب والصحة الجماهيرية. كامارا جونس، المديرة السابقة للجمعية الأمريكية للصحة الجماهيرية عرفت العنصرية على أنها منظومة لهيكلة الفرص وتحديد القيمة بناءً على التفسير الاجتماعي لكيفية ظهور المرء (وهو ما نسميه ""العرق"")، والذي يضر بشكل غير عادل ببعض الأفراد والجماعات، ويفيد بشكل غير عادل الأفراد والجماعات الأخرى، ويضعف قوة المجتمع أجمع من خلال هدر الموارد البشرية. هذا التعريف أصبح مقبولا في عالم الطب والصحة الجماهيرية وساعد في تحويل النقاش من نقاشات سخيفة وعقيمة عن ""من هو العنصري؟ من هو غير العنصري؟ "" لنقاش أوسع وأشمل عن منظومات كاملة داخل وخارج العيادات والمستشفيات والتصرفات الفردية والمقولات لفهم العنصرية بشكلها البنيوي؛ المؤسساتي والفردي وتأثيرها على الصحة.

العنصرية تنبع من كلمة عنصر؛ وفي الإنجليزية تفسر ك عرق ((race وليس (element) وفي العبرية גזע من كلمة جذع إشارة الي جذع الشجرة. كل هذا الكلمات تعبر عن فكرة أن الجماعات البشرية أو من نعرف كجماعة بشرية تصنف أو هي منتوج عناصر، أعراق أو (جذع شجرة) مختلفة كليا وجوهريا. تفسير من هو هذا العنصر أو العرق هو نتاج سياق اجتماعي سياسي ولا يمت للبيولوجيا والعلوم بأي صلة. لا يوجد فحص طبي لنوع العرق أو العنصر؛ هو ليس كنوع الدم. تحديد من هو العنصر، ومن هو العنصر الأفضل، هو منتوج سياقه الذي هو عادة عنصري. في أمريكا يأخذ طابع لون البشرة، شكل العينين أو الأصلانية، وفي تعداد السكان يتطلب منك الإشارة الى عرقك كأبيض؛ أسود، آسيوي، أصلاني أو آخر. في إسرائيل، الجماعات تصنف حسب الدين، يهودي أو غير يهودي، وهنا تصنيف اليهودي تشمل الأبيض والأسود والآسيوي والأوروبي، تعريفات في أماكن أخرى تعتبر مختلفة جهريا. وفي أوروبا بداية القرن العشين حتى بين البيض كان تصنيف العناصر مسيحيا مقابل يهودي؛ وفي آيرلندا بين المسيحيين البيض نفسهم الجماعات تعرف حسب كونك كاثوليكيا أو بروتستانتيا وفي سياقات أفريقية كونك تابعا لقبائل معينة وفئات لغوية وفي لبنان الشقيق حسب الملل المختلفة.

أستحضر كل هذه الأمثلة فقط لأشدد أن فكرة من هو ""العنصر""، وكل ما ينبع بعدها من هيكلة أنظمة تعطي لعناصر مختلفة امتيازات مقابل أخرى هي أفكار عنصرية مع أهداف سياسية واضحة. خلال عملية إنتاج وترتيب هرمية العناصر يتم إنتاج الظروف السكنية، اجتماعية، اقتصادية، نفسية وبالتالي صحية للمجموعات المختلفة.

ما لكل ذلك وللصحة؟

عدة نقابات صحية أمريكية أطلقت شعار أن العنصرية هي خطر ومأزق لصحة الجماهير (Racism is a public health crises (. لماذا؟

مع مرور الوقت وازدياد الأبحاث أصبح واضحا أن معظم المعطيات الصحية لجماعة معينة هي نتاج ما يسمي المحددات الاجتماعية للصحة أو social determinants of health وهي الظروف التي نخلق، نعيش، نمرض، نشيخ ونموت فيها. وهي تشمل الوضع الاقتصادي، التعليم، العمل، شكل الحارات والمتنزهات (إذا وجدت) وأمور أخرى تصقل طابع حياتنا. ببساطة أكثر هذا يعني أنه إذا أردنا فهم أو تحسين صحة الجماهير في بلدة معينة مثل الناصرة أو أم الفحم، علينا فهم ظروف حياة السكان هناك، من ناحية البيوت، الاكتظاظ السكاني، المواصلات، الفقر وانعدام الأمان. هذه العوامل تشكل وتؤثر على صحة الجماهير أكثر بكثير من مهارة الأطباء والخدمات المتوفرة مثل حداثة علاجات السرطان وأمراض القلب.

على مر العصور، الدوافع المركزية لتحسين صحة الجماهير كانت تغييرات لها علاقة في البنية والبنية التحتية مثل نظافة مياه الشرب، توفر الصرف الصحي، بيوت وشوارع آمنة، مساحات خضراء للتنزه والحركة وتحسن الوضع الاقتصادي والوضع التعليمي، كل استثمار في رخاء المجتمع ينعكس على الصحة أكثر بكثير من تحسن خدمات طبية معينة (باستثناء التطعيمات التي أحدثت قفزة جدية وخفضت الوفيات من أمراض معدية).

كل هذه المحددات الاجتماعية للصحة هي نتاج مباشر عن سياسات وأفكار عنصرية. في أمريكا أصبح واضحا أنه لا يمكن فهم الوضع الصحي المتدني للسود أو الافارقة الأمريكيين عن طريق فحص جيناتهم أو نمط أكلهم، تدخينهم ورياضتهم. يجب فهم صحتهم في سياق سياسي تاريخي أي فهم العبودية، العنصرية المتجذرة على مرور مئات السنين في الفصل السكاني، الإفقار، الحرمان من التعليم، السجن وعنف الشرطة، التهميش والصدمة النفسية المتوارثة من جيل إلى جيل. كل هذا شكل ما نراه اليوم من أن السود يعيشون أقل ب 3-4 سنين من البيض ويعيشون في حارات فقيرة، عنيفة ويموتون أكثر بأمراض القلب والعنف وعدة أمراض أخرى. الأمر نفسه ينطبق على السكان الأصلانيين في أمريكا، كندا، أستراليا ونيوزيلاندا حيث الاستعمار الاستيطاني والمستعمرون الأوروبيون قاموا بالمجازر وسرقة الأراضي والموارد الطبيعية وتشويه نمط حياة الأصلانيين، هذا بالطبع انعكس على الصحة. في كل لقاء بين مستعمر أوروبي وأصلاني، الأصلاني أصبح يعيش أقل ويمرض أكثر.

ما أريد إيصاله للقارئ أنه لا يمكن فهم صحة مجتمعنا من دون أن نفهم العنصرية كمنظومة كبيرة ومتشعبة. الصهيونية في صميمها وسياسات دولة إسرائيل مبنية على هرمية أنه يحق لليهودي ما لا يحق لغيره. هذا يبدأ من الحق في البقاء في هذه البقعة من الأرض (من يجب قتله أو تهجيره ويمنع عودته)، إلى تحديد ""عنصر"" معين كخطر على أمن الدولة وسلامة ال “عنصر الآخر"" ولذا يجب وضعه تحت حكم عسكري، سرقة أراضيه ومياهه، تحويل هذه الأراضي لبناء بلدات ل “عنصر"" آخر ومنع الفلسطينيين من سكن هذه البلدات، إفقار البلدات الفلسطينية وعدم الاستثمار في التعليم، فرص العمل والبنى التحتية وكل ما ينتج من ذلك. كل هذه السياسات هي التي تنحت شكل حياتنا وصحتنا كمجتمع لدرجة أنه أصبح لا يمكننا أصلا تخيل بلداتنا بشكل مختلف مع مساحات زراعية واسعة وبنية تحتية ومساحات تنزه ونمط زراعي.

جزء خطير وخبيث من العنصرية هو تذويتها. عادة يحصل أن من يقع تحت العنصرية مع الوقت يذوت أنه ك ""عنصر"" مختلف وأقل من الآخر. هي حالة من عقد النقص والإعجاب بالمستعمر التي تكلم عنها بتوسع فرانز فانون. عادة عندما تسأل أطباء فلسطينيين عن سبب تدهور الوضع الصحي في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، النقاش يتحول بسرعة إلى لوم الفلسطيني أنه مهمل، لا يأكل بشكل صحي، لا يمارس الرياضة وما إلى ذلك. الحقيقة البسيطة أنه كل أراضينا نهبت وأنه تحولنا من فلاحين نعيش بتوازن مع الطبيعة ونأكل منها إلى شعب مخنوق في كتل إسمنتية بدون أي حيز للتنفس والمشي إذ أصبحا خارج المعادلة. البعض يلوم النساء في النقب على إهمال الأطفال والتسبب بوضع صحي سيء مثل قلة الوزن أو ازدياد الوفيات دون التفكير أنهم يعيشون معركة بقاء يومية وأن جزءا كبيرا من بيوت النقب تحت الهدم أو محرومة من الكهرباء والماء وأبسط مكونات الحياة الكريمة.

لقد حان الوقت للفهم والتكلم عن العنصرية كمنظومة كبيرة وخطيرة تنهش في حيواتنا من الولادة حتى الممات ومحاربتها كجزء من الحق في الصحة.

د. أسامة طنوس

طبيب أطفال وباحث في الصحة الجماهيرية وباحث ضيف في مركز FXB للصحة وحقوق الإنسان في جامعة هارفرد

شاركونا رأيكن.م