ضلوع الأطباء في إسرائيل بخروقات حقوق الأسرى والسجناء

يقبع الأسير المقدسيّ ي.د في العزل الانفرادي مدة لا تقل عن 3 سنوات ليس إلا للادعاء بأنه يشكل خطرًا على أمن وسلامة السجناء والسجّانين ومحاولته في الماضي الاعتداء على سجّان. في لقائي الأول مع الأسير قبل سنتين كان من الواضح أنه يعاني اضطرابات نفسية جدّية وبدا ذلك من خلال الجمل غير المترابطة والمنطقية التي تخللت حديثنا. أبدى الأسير رغبته بالخروج من العزل والرجوع إلى الأقسام العادية وشاركني عياء الوحدة المستميت والحاجة للحديث لشخص ما. بناء على رغبته ومعاناته الواضحة للعيان تم بناء الاستراتيجية القانونية للمرافعة القانونية المطالبة بإخراجه الفوري من العزل والتصدي لمطلب النيابة العامة تمديد فترة عزله الانفرادي مدة 6 أشهر إضافية.

طالبت النيابة العامة تمديد عزل الأسير مدة 6 أشهر إضافية بالتماس امتد بالكاد صفحتين تخلل بعض السطور عن حكم الأسير والمخالفات القانونية التي أدين بها إضافة الى توصيف عام عن الأسير بأنه يشكل خطرًا على أمن وسلامة الأسرى والسجّانين على حد سواء. تستند النيابة عامة بمثل هذه القضايا إلى تقارير سرية نمنع كمحاميّات وكمحامين بالاطلاع عليها والتي تصف سلوكيّات الأسير والمبررات لعزله. إضافة إلى ذلك تستعين النيابة بالتماسها بتقارير اجتماعية وطبيّة التي من المفروض أن تعرض وضع الأسير الاجتماعي والطبي ومدى تأثير العزل عليه.

من ضمن الأوراق التي أسندت النيابة مطلبها عزل موكلي الأسير المقدسي كان تقرير الطبيب العام للسجن الذي أقر فيه بسطرين "لا توجد أي موانع طبيّة وصحيّة لاستمرار عزل الأسير". وفيما بعد تم بناء على طلبي من المحكمة تقديم تقرير مقتضب من قبل أخصائي علاج الأمراض النفسية أقر فيه بأن الأسير يعاني من الاضطرابات النفسية وتم تشخيصه كمريض بمرض الانفصام الشخصي. على الرغم من ذلك لم يتطرق الأخصائي النفسي لخطورة استمرار عزل الأسير المريض على وضعه الصحي ولم يفسر كلا الطبيبين، العام والنفسي، الأساس العلمي اللذان ارتكزا عليه حينما تجاهلا تأثير العزل السيء على صحة الأسير وأعطوا الضوء الأخضر لاستمرار ممارسات مسيئة لصحة الأسير المريض. تخيلوا على سبيل المثال أن يطلب مريض بمرض السرطان من طبيبه تصريحًا لااستمرارالتدخين ويأتي الطبيب ويصرّح "ليست هناك موانع طبية أو صحيّة في استمرار المريض بالتدخين" على الرغم من إدراكنا جميعًا بأن التدخين مضر لصحة كل شخص وكم بالحري المريض! هل كنا سنغفر لمثل هذا الطبيب ونؤمّنه على ضمان سلامة أنفسنا وأجسادنا؟ فكما يسيء التدخين لصحة المدخنين المعافين والمرضى ولا يجوز لأي طبيب إتاحته رسميًا للمريض بأي شكل من الأشكال، كذلك يسيء العزل للصحة النفسية لكل السجناء كانوا معافين أم مرضى ولا يجوز لذلك لأي طبيب المشاركة بوضع الأسير بالعزل الانفرادي.

لم تقتنع المحكمة بالتقارير الطبية الذي قدّمناها باسم جمعية أطباء لحقوق الإنسان وبالاستعانة من خبراء مختصين كلّفوا من قبل الجمعية زيارة الأسير ونص تقرير عن وضعه النفسي وتأثيرات العزل الانفرادي عليه. أجمع المختصون من قبل الجمعية بأن عزل الأسير قد يكون المسبب بتفاقم تردي وضعه النفسي وحتى بالكشف عن مرضه النفسي بحيث يولّد الضغط والتوتر الناتج عن العزل المستمر الكشف عن أمراض نفسيّة كالانفصام بالشخصية. وأردف المختصون بتقاريرهم بأن العزل ليس فقط مضر بصحة الأسير العيني وعامة وإنما يحظر جعله أداة علاجيّة معتمدة لفترات طويلة بحجة ضرورة لجم وضبط سلوكيّاته كما تفعل مصلحة السجون.

تواطؤ أي طبيب مع أي جسم كان بما يتنافى مع مصلحة المريض سواء سجينًا كان ام لا يعتبر انتهاكًا فظًا لحق المريض بالصحة والكرامة وخرق أخلاقي سلوكي للطبيب لقواعد مهنتة الأخلاقيّة والتي تعتبر قواعد شمولية عامة لا يمكن لقوانين السجون او الدولة أن يغيروها. وفي سياق عزل السجناء المرضى النفسيين فقد أصدرت نقابة الأطبّاء العالميّة (The World Medical Association) عام 2014 ورقة موقف تطرقت فيها إلى التأثيرات السلبية للعزل على صحة السجناء وأوصت بحظر العزل بالذات للسجناء المرضى النفسييين [1].

وتحظر قواعد وأخلاقيّات مهنة الطب في إسرائيل مشاركة الأطباء في أي ممارسة ينم عنها خطر على صحة السجين وعلى وجه التحديد تحظر على الأطباء مساهمتهم بالسّماح باستخدام العزل كوسيلة عقوبة داخل السجن [2]. كما تلزم قواعد المهنة الطبيب بأن لا يسمح بعزل الأسير إلا بالحالات التي يلزم فيها الأمر حفاظًا على صحة الأسير وصحة الآخرين ولفترات وجيزة. وإن لمس الطبيب خطرًا على صحة الأسير جرّاء العزل فلزوم عليه القيام باستخدام صلاحيّته والمطالبة بوقف عزل الأسير على الفور.

أترافع منذ أكثر من 10 سنوات بقضايا الأسرى المعزولين وقد مثّلت العشرات منهم أمام المحاكم الإسرائيلية بالمطالبة بكف العزل عنهم. أستطيع أن أقر بشكل قاطع بأنني لم أصاف يومًا أي طبيب يقدّم خدمات لمصلحة السجون حاول التدخّل لمنع استمرار عزل أسير سياسي أم سجين مدنيّ حفاظًا على حياة وسلامة السجين. فحتى بعد أن نقوم بالمطالبة بتقديم تقرير صحّي يصف مدى تأثير العزل على الأسرى، خاصة المرضى منهم، تقوم مصلحة السجون بالاستعانة بأطبائها الداخليين لينصوا من أجلها تقارير مقتضبة يفاد منها أن لا مانع لاستمرار عزل الأسير ولا ضرر بذلك على صحته. بذلك يقوم الأطباء بخرق أسمى وأهم قواعد مهنة الطب متجاهلين إخلاصهم لقدسية مهنتهم، مهتمّين فقط بولائهم لمصلحة السجون والذّرائع الأمنية.

ولا بد هنا من الإشادة للموقف التي اتخذته نقابة الأطباء الإسرائيلية عام 2015 תالتي عارضت بشدة القانون الذي أتاح الإطعام القسري للأسرى المضربين عن الطعام معلنة بأن أطباءها لن يقوموا بخرق قواعد المهنة بمحاولة ثني الأسير عن إضرابه عن الطعام مستندة إلى نفس قواعد المهنة التي تطرقت في بنود أخرى لموضوع العزل. ولا شك في أن هذا الموقف الذي أربك مصلحة السجون جعل إمكانية الإطعام القسري شبه مستحيلة على الرغم من اقرار المحكمة العليا بأن الإطعام القسري مباح وفقًا للقانون. إلا أن قضية الإطعام القسري لا تقتصر فقط على أطباء السجون بل يجب إقرارها على يد لجنة مكونة من مندوبين بعضهم أطباء لا يخضعون لأوامر السجون ولذا معارضتهم المبدئية تحول مسبقًا دون اي محاولة لإطعام قسري لأي سجين. وأما قضية العزل فالتقارير الطبية التي تجيز استمرار العزل مصدرها أطباء السجون الموالين أولًا للسجن ومن ثم للمريض مما يفسر تماهيهم المطلق مع السجن وتوقيعهم على تقارير طبية تضر بمصلحة السجين الصحية بما يتنافى مع كل قواعد المهنة الأخلاقية.

وعلى الرغم من معارضة قسم الصحة النفسية بوزارة الصحة الإسرائيلية بالاستعانة بالطبيب او الاخصائي النفسي لشرعنة العزل، تستمر مصلحة السجون باستخدام الجهاز الطبي كذراع لشرعنة ممارسات غير قانونية وتعسفية بحق السجناء دون أي رقيب أو أداة محاسبة للأطباء.

لا تخلو السجون من السجناء ذووي العوارض والاضطرابات النفسية التي قد تجعل من سلوكهم خطرًا على البيئة المحيطة لهم لعدم تمكنهم تحكيم الرأي وفهم عواقب أعمالهم. إلا أن معالجة الموضوع بواسطة عقوبة العزل الانفرادي المستمر لما هي إلا عقوبة قاسية وغير لائقة بحقهم كأسرى وسجناء مرضى خاصة أنه تتوفر وسائل أخرى للتقليل من خطورة السجين من جهة وضمان صحته النفسية وعدم المساس بها من جهة أخرى. فوضع السجين في مصحة طبية وبمناخ علاجي ملائم كما يحدث في دول عديدة في الولايات المتحدة الأمريكيّة والتي تخصص وحدات سكنية خاصة للسجناء المرضى وتقوم ببناء خطة علاجية تأهيلية للسجين هدفها توفير العلاج الصحي له من جهة وضمان أمن السجن من جهة أخرى. وبدلًا من العزل المتواصل دون توقف كما الحال مع الأسير ي.د وألأسير أحمد مناصرة وغيرهما فبعض الدول تبنت نموذج العزل مع إمكانيات الاندماج التدريجي مع السجناء الآخرين. بمعنى أنه يتم ايقاف العزل لساعات معينة خلال الأسبوع يتم فيها إخراج السجين من غرفة العزل ودمجه مع أسرى آخرين لساعات معدودة أو دمجه بنشاطات اجتماعية تأهيلية مع آخرين لبضع الساعات إلى حين يتم استقرار وضعه النفسي بشكل تدريجي. تبنت إسرائيل في الماضي مبدأ الدمج التدريجي إلا أنها ترفض اليوم ان تراه حلًا واقعيًا ليس لعدم نجاعته انما لعدم رغبتها بتخصيص الموارد والطاقات البشرية العلاجيّة للأمر وتفضيل احتجاز الأسير المريض مدة لا تقل عن 23 ساعة في غرفة كحل سريع أول وأخير لمنع تكرار خروجه عن "طاعة" السجّان والتسبب بتردي حالته النفسية والجسدية. ضلوع الأطباء بمثل هذه الممارسات لا يختلف عن ضلوعهم بشرعنة التعذيب بحيث كان للأطباء دورًا فاعلًا بإتاحة استمرار التعذيب للمعتقلين قبيل وبعد دخولهم أقبية التحقيق لدى أجهزة المخابرات في إسرائيل ودول أخرى.

تشعر المحاكم الإدارية في إسرائيل براحة تامة وعدم الشعور بأي تأنيب للضمير مجرد استندوا على تقارير طبية مضلله مفادها بأن لا مانع صحي من استمرار عزل الأسير. وبذلك يكون الأطباء شريكين فاعلين ليس فقط بتعذيب الأسرى وإلحاق عقوبة سجن تعسفية بحقهم وإنما بتشويش عمل الجهاز القضائي وتقديم تقارير مضللة لا تخدم سوى الولاء للأجهزة الأمنية بدل الولاء لنزاهة المهنة وأخلاقياتها.

 

الإحالات:

  1. https://www.wma.net/policies-post/wma-statement-on-solitary-confinement/

  2. https://www.ima.org.il/main/viewcontent.aspx?categoryid=11363 (المصدر باللغة العبرية)


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م