ما بعد الحقيقة وخيانة اللغة

افترضوا وجود خمسة أشخاص مُثبّتين على سكّة حديديّة ولا يستطيعون الفرار، في حين أنّ قطارًا يتّجه نحوهم بسرعة وبدون إمكانيّة للتوقُّف. الفرصة الوحيدة لإنقاذ هؤلاء الأشخاص هو إذا اخترت أنت القارئة أو القارئ أن تدفعي بشخص آخر سادس تحت عجلات القطار لإيقافه. هل لديكم الاستعداد للقيام بهذا الفعل؟

هذه المعضلة الأخلاقيّة هي صيغة لمعضلة معروفة في أدبيّات فلسفة الأخلاق وعلم النّفس عُرفت بإسم ""معضلة العَرَبة"" (trolley dilemma). وهي معضلة تتناول المفاضلة بين الأخلاق المُطلقة وبين الأخلاق النّسبيّة أو التوجّه النّفعي، فبهذة الحالة اعتماد توجّه الأخلاق المُطلقة يشدّنا إلى تفضيل عدم دفع الشّخص إلى موته لأنّه يُعتبر فعل قتل مباشر وهو مُحرّم وَفق هذا التوجّه، في حين أن التوّجه النّفعي يؤدي إلى تفضيل التّضحية بالشّخص من أجل الحصول على النّتيجة النّهائيّة أي إنقاذ عدد أكبر من النُّفوس. لهذا المخاض الفلسفي الأخلاقي إسقاطات كثيرة وهو مثير بحدّ ذاته، ولكن، لمبحثي في هذه المادّة أريد الإشارة الى تساؤل آخر يدخل في باب نظريّة المعرفة (epistemology)، والتي تُعنى بكيفيّة بناء المعرفة وعلاقتها بمفهوم الحقيقة أو الواقع: هل يُمكن أن يحمِل إنسان معيّن آراء مُغايرة تجاه هذه المعضلة بذات الوقت؟ وإذا كان هذا هو الحال فما هي تَبِعات هذا الأمر؟ وهل يُمكن التّلاعُب بالحُكم الأخلاقي للبشر عن طريق تغيير عوامِل سياقيّة وبيئيّة؟

للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر بعيدًا على المنطق، الاعتقاد بأنّ أحكامنا الأخلاقيّة واتّخاذ القرارات المصيريّة خاصّتنا هي سائلة ومتأثّرة بعوامِل سياقيّة هو مُريب، فهو يبعث الشّعور بعدم الاتّزان وفقدان السّيطرة على النّفس. بالرّغم من ذلك، تُشير الأدلّة على أنّ الأحكام البشريّة واتّخاذ القرارات هو شديد التّأثُّر بالعوامِل السّياقيّة. مثلًا، في سنة 2014 أجرت مجموعة من الباحثين في اللّسانيّات الإدراكيّة تجربة بها تمّ طرح معضلة العَرَبة على عيّنات من أشخاص ثُنائيّي اللّغة (مثلًا: إنجليزيّة وإسبانيّة)، في حين قُسّمت العيّنة الى مجموعتين، الأولى خاضت المهمّة بلغة الأمّ (الإنجليزيّة)، والمجموعة الأخرى خاضتها باللّغة الثّانيّة (الإسبانيّة). بشكل مُثير، أظهرت النّتائج فرقا واضحا بين الأحكام الأخلاقيّة بين المجموعتين، فنسبة الأشخاص الذين أبدوا تفضلا للتضحية بشخص واحد من أجل إنقاذ الخمس الآخرين كانت 20% في المجموعة التي خاضت المهمّة بلغة اللأمّ، في حين ارتفعت هذه النّسبة الى 33% عند المجموعة التي تداوَلت باللّغة الثّانية. فسّر الباحثون هذه النّتائج عن طريق ربطها بدراسات دماغيّة أخرى تُظهر فاعليّة أكبر لمناطق عاطفيّة في الدّماغ عند استخدام لغة الأمّ مقارنةً بلغات مُكتسبة لاحقًا في حياة الأشخاص.

هذه التّجربة العينيّة هي بمثابة تجسيد لفرضيّة سابير-وورف، المُسمّاة أيضًا بالنّسبيّة اللُّغويّة، والتي تزداد شعبيّتها منذ سنوات التّسعين في القرن السّابق، وهي فرضيّة تقول بوجود تأثير جبري للّغة على التّفكير. بالرّغم من وجود جدل مُعيّن حول هذه المقولة، بات واضحًا في العقدين الأخيرين في عالَم اللّسانيّات والعلوم الإدراكيّة أنّه لا يُمكن افتراض وجود تفكير حُرّ ومُجرّد من البيئة المحيطة، وأنّ هذا التفكير هو محدود بحدود الأدوات الحِسيّة والإدراكيّة واللّغويّة. يلعب هذا التّوجّه دورًا مفاقِمًا لأزمة مؤسّسة التعقُّل والعقلانيّة، لأنّ العقلانيّة بنفسها هي بنت اللّغة والسّياق. وعليه، قد يبدو أنّ المُحاولة للحديث بمنهج التعقُّل عن حقيقة مُطلقة أو عن واقِع مُتّفَق عليه في عصر العَولَمة وتعدّد الثّقافات هي سُدى وبلا جدوى.

لا بدّ أن يكون هذا التّراجُع في مكانة الحقيقة (أنطولوجيًّا) مرتبطًا باختيار لفظ ""ما بعد الحقيقة"" (post truth) لتكون كلمة العام 2016 لمعجم أوكسفورد، حيث بلغت أوجها ظاهرة الرّئيس الأمريكي دونالد ترامب وصراعه مع وسائل إنتاج المعرفة المُعارضة لسياساته في الولايات المتّحدة. وورد في تعريف مصطلح ""ما بعد الحقيقة"" على يدّ المعجم أنّه ""مفهوم يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية ذات تأثير أقل على تصميم الرأي العام من تأثيرها على الانفعال العاطفي والاعتقاد الشخصي"". وهو تعريف يفترض كذبًا وجود اتّفاق واصطلاح شامل على تعريف ""الحقائق الموضوعيّة""، في حين أنّه بالواقع هو افتراض يعزو الحقّ في تملّك وتصميم مفهوم الحقيقة لفئة سياسيّة واحدة من دونها. وتتمّة لما ذكر سابقًا، يمكن اعتبار فلسفة ما بعد الحقيقة عَرَضًا لأزمة ضياع الحقيقة بين حانا ومانا، بين اللّغات والثّقافات والأديان المُختلفة، مِما أدّى لفتح بابًا واسعًا لسياسة الإنتهاز والشّعبويّة في عالمنا المُعاصر.

إذن، فالصورة الموصوفة إلى الآن تنسب اللّغة ومفاهيمها إلى منطق صراعات القوى، مِمّا يُحاكي توجّه ميشال فوكو تجاه تحليل الخطاب والتّداوُليّة (discursivity) القائل إنّ للخطاب قوانين يُمكن تتبّعها لفهم علاقات القوّة في المجموعة أو بين المجموعات. يتكلّم أيضًا المنظّر الماركسي أنطونيو غرامشي عن اللّغة كأداة سيطرة في يدّ الهيمنة (Hagemony)، أي المجموعة المُسيطرة بأدوات عُنفيّة رمزيّة ناعمة، والّتي تُشكّل منظومة سُلطة وقمع كاملة تشمل البيروقراطيّة والقانون الى جانب اللّغة في ممارساتها ضدّ المجموعات الأخرى. وهنا يشير غرامشي الى أنّ المنطق (common sense) المُتعارَف عند الهيمنة قد يعمَل أيضًا كأداة تبرير للممارسات الظّالمة للمجموعة. لهذا السبب، يتعسّر على المجموعات المُناضلة أن تُعارض وتُناهض الهيمنة بطرق شرعيّة، وهذا لاستحواذ الهيمنة على أدوات تعريف ما هو شرعي وما هو غير شرعي وَفق مصالحها ورغباتها. مثال من واقعنا على هذه المُمارسة هي تعامُل الاستعمار الإسرائيلي مع معجميّة الجِهاد والشّهادة، والتي في حين أنّها ذات دلالات إيجابيّة وسامية في اللّغة والثّقافة العربيّة والإسلاميّة، يجدها مُتكلّم العبريّة الصهيونيّة المُعاصرة ذات دلالات سلبيّة ترتبط بالتّخريب والإرهاب وبقتل النّفس. وأخطر من ذلك، قد تتغلغل هذه القراءة الصّهيونيّة إلى العقل العربي الذي يُمارس اللّغة العبريّة المُعاصرة بشكل كثيف ومتواصل ضمن نظام الدّولة الإسرائيليّة (وهي قضيّة تمّت مُعالجتها بتوسُّع في كتاب ""اللغة العربيّة في النّظام الصّهيوني"" للباحث إسماعيل ناشف).

إذن، إلى أيّ مدى قد تكون اللّغة نفسها مُتورّطة في صراعات القُوى والمصالح؟ وهل غايتها الأساسيّة هي السّيطرة والقَمع؟ من منظور السّيميولوجيا فإنّ الألفاظ اللّغويّة هي بمثابة علامات دالَّة ومُؤشِّرة على مدلولات مؤشَّر عليها من أجل التّواصل والتّنسيق بين الجماعات البشريّة. كلّما اتّسع الفضاء بين هذه العلامات ومدلولاتها تغدو اللّغة أداة ضلالٍ لا دلال. هذا الوصف للمنظومة اللّغويّة على أنّه ""ربط"" و""وصل"" بين الدالّ والمَدلول، يثير التّفكير باستعارة العَقد والتّعقيد في مفهوم العقيدة في الدّين الإسلاميّ، فالعقيدة وِفق المعاجم المُختلفة هي مجموعة من الثّوابت المُحكمة التي يعقد عليها القلب ويطمئنّ إليها. إذا تأمّلنا هذه الاستعارة اللغويّة المتمثّلة في عَقد الخُيوط كتشبيه للإيمان (وكذلك في استعمالها في مصطلح ""العَقد الإجتماعي"")، يمكن الاستنتاج بأنّ عمليّة عَقد الخُيوط، الحقيقيّة أو المجازيّة على حدّ سواء، هي عمليّة تحتاج لمجهود من قِبَل العاقدين، فالحالة الطّبيعيّة أو الأوّليّة للخيوط هي الانحلال والرّخاء. ورصد هذه الديناميكيّة (أي ضرورة بذل الجُهود المستمرّة لإعادة الرّبط والعَقد) هي ليست بحديثة، فقد اصطلح العَرب على لفظ ""اللَّغو"" الّذي يعني الكلام عديم المعنى أو عديم الفائدة، وهو لفظ ذو معنى قريب جدًا من جذر كلمة اللّغة – ""ل.غ.ا""، ومعناه بحسب المعاجم العربية ""اللَّغْو واللَّغا: السَّقَط وما لا يُعتدّ به من كلام وغيره ولا يُحصَل منه على فائدة ولا على نفع"" و-""اللَّغْو واللَّغا واللَّغْوى ما كان من الكلام غير معقود عليه."" (لسان العرب والقاموس المُحيط). وبوحي من هذا النّسق، بحال التقاء العقائد التّداوليّة (discursive) المغايرة في باحات العَولمة تكون هناك حاجة لعَقد عقود جديدة نحو عقيدة شاملة وثابتة تلائم العصر.

نهايةً، إذا أجمعنا على احتماليّة خيانة المنظومة اللّغويّة لغايتها لتُصبِح لَغوًا، فمن الممكن أن تحلّ هذه الخيانة في كلّ وقت، أيضًا خلال كتابة هذه المادّة أو خلال قراءتها، فما العمل؟ هل هناك قاعدة معرفيّة أمتَن وأكثر استقرارًا من القاعدة اللّغويّة؟ ربّما قد تدلّنا قراءتنا للتّجربة التّاريخيّة على أنّه ليس ثمّة مخرج من خيانة اللّغة إلّا العودة إلى الحِسِّيّة بهدف التّواصُل مع العالَم، وهذا عن طريق اعتزال اللّغة أو الصّيام عنها - ""قال عمر: ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو والحلف"". فمثلًا، عند تأمُّل تعامُل القرآن الكريم مع اللَّغو نرى أنّ التوصية هي الإعراض والابتعاد عنه وليس الخوض فيه؛ ((وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) (الفرقان: آية 72). وهنا نستذكر قصّة أبو حامد الغزّالي، الملقّب بحُجّة الإسلام، والّذي حاجج الفلاسفة وألّف عشرات الكتب شديدة الأهمّيّة في الفقة والفلسفة، والّذي لم ينجح في الفِرار من فخّ اللَّغوَ إلّا بالعُزلة والتزهُّد، كما وصف في سيرته الذّاتيّة بكتابه ""المنقذ من الضّلال"":

""ثم لاحظت أحوالي؛ فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب؛ ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدریس والتعلیم - فإذا أنا فیها مقبل على علوم غیر مهمة ولا نافعة في طریق الآخرة. ثم تفكرت في نیتي في التدریس فإذا هي غیر خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصیت؛ فتیقنت أني على شفا جُرُف هار، وأني قد أشفیت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال. ... ثم دخلت الشام، وأقمت به قریبًا من سنتین لا شغل لي إلا العزلة والخلوة؛ والریاضة والمجاهدة، اشتغالاً بتزكیة النفس، وتهذیب الأخلاق، وتصفیة القلب لذكر الله.""

وقد نستطيع تلخيص هذه النّظرة تجاه اللّغة واللَّغو بمقولة لمُعلّم الطاو جوانغ زي (Zhuangzi)، في المئة الثالثة والرّابعة قبل الميلاد: ""خُلقت صنّارة السّمك لأجل السّمك، إذا حصلنا على السّمك يُمكن نسيان الصنّارة. وخُلقت مصيدة الأرانب لأجل الأرانب، إذا حصلنا على الأرنب يُمكن نسيان المصيدة. وخُلقت الكلمات لأجل المعاني، إذا حصلنا على المعنى يُمكن نسيان الكلمات… أين هو الّذي نسي الكلمات لنتبادل أطراف الحديث."".

إحالات:

Costa A, Foucart A, Hayakawa S, Aparici M, Apesteguia J, et al. (2014) Your Morals Depend on Language. PLoS ONE 9(4): e94842.

جاد قعدان

باحث في حقل اللّسانيّات الإدراكيّة وعلوم الثّقافة في مرحلة الدكتوراة

شاركونا رأيكن.م