إذا اعتبرنا أن الكذب هو عدم قول الحقيقة كاملة عمدا، فالقول ""أنا بكذبش"" هي أكثر الأكاذيب شيوعا بين الناس. ليس أن كل الناس يكذبون بل يكذبون أنهم يكذبون.

ربما إن هذا النص يعتبر مرآة فاضحة تكشف المستور في حياة الناس النفسية والاجتماعية التي تسير وفق آليات واعية وغير واعية تخفي جوانب من الحقيقة عن صاحبها أولا وعن الآخرين ثانيا. ولتوضيح هذه الآليات لا بد من التحدث عن ""الدفاعيات النفسية"" وعن ""طرق المواجهة الاجتماعية"" السائدة في جميع المجتمعات.

الدفاعيات النفسية

علما بأن شخصية الإنسان تشمل مكونات غير متجانسة وغالبا ما تتعارض فيما بينها، فتأتي الدفاعيات النفسية لتهدئة الصراع بين هذه المكونات عن طريق الكذب على الذات بواسطة كبت أو إنكار بعض أطراف الصراع وإبعادها عن وعي صاحبها. فمثلا حين يشعر ولد بشعور سلبي تجاه أهله كالغضب مثلا، فمن شأن هذا الشعور أن يثير الشعور بالذنب والقلق لدى ولد تربى على ألا يقل أفٍ لوالديه. فلكي يتخلص من هذا القلق يقوم بكبت شعور الغضب وإنكاره وإبعاده عن الوعي ليبقى في وعيه متنكرا لهذا الشعور ويدعي أنه يحب والديه كما تملي عليه القيم التي تربى عليها وذوّتها.

هناك دفاعيات نفسية متعددة، تشمل الكبت والإنكار بل وتتعداها، نسرد بعضها هنا:

التبرير

كثير من مواقف الناس المعلنة تكون تبريرا للواقع المفروض عليهم. فإذا رفضت فتاة شابا طلبها للزواج مثلا، يقوم بإقناع نفسه والآخرين بأنه أصلا لم يكن مقتنع بها بل كان محرجا أمام أهله وأهلها، وأنها فعلت خيرا بأنها رفضته، وهكذا يتخلص من الشعور بالصدّ أو الدونية. آلية التبرير استخدمت على مد العصور لإقناع الشعوب التي استعمرت شعوبا أخرى بأنها فعلت ذلك ليس من باب الجشع بل من أجل نشر الحضارة أو الدين. هكذا قام الجنود المستعمرين بدورهم متنكرين للعنف الذين يقومون به ومقتنعون بأنهم يقومون بعمل إنساني. الجندي الإسرائيلي يبرر إطلاق الرصاص على الشباب المتظاهرين بأنه يقوم بهذا حماية لأطفاله من هؤلاء المخربين.

التماهي مع القاهر

هي دفاعية نفسية تساعد المرء على التعايش مع الظلم الواقع عليه وتحول دون شعوره بالظلم. فمثلا المرأة العربية الواقعة تحت سيطرة وقمع النظام الاجتماعي الذكوري والتي لا تستطيع مقاومته تنحرف دون أن تدري إلى تبرير القمع الواقع على المرأة، بل وتتخذ مواقف معادية من النساء اللواتي تجرأن على تحدي القيم الذكورية القامعة. آلية التماهي مع القاهر منتشرة جدا في المجتمعات القابعة تحت الاضطهاد أو الاحتلال فيتماهى المقهور مع تفكير وقيم القاهر ليخفف عن نفسه الشعور بالقهر وليوهم نفسه أنه منتمٍ للقاهر وليس المقهور.

الإسقاط

حين تكون أحد مكونات الشخصية غير مقبولة على صاحبها يقوم بإسقاطها على الآخرين ليعيش بانسجام مع نفسه. فمثلا إذا شعر شخص بغيرة من شخص آخر فيدعي أن الآخر هو الذي يغار منه ويكون مقتنعا بهذا الادعاء. وحين يشعر شخص بغضب أو كراهية تجاه شخص ما يدعي أن الآخر هو الذي يكرهه. هذه الآلية سائدة ومفضوحة جدا في عقول كثير من الإسرائيليين الذين ينكرون النكبة وجرائم الاحتلال وينسبون للفلسطيني صفة العدوان والتخريب والإرهاب وهكذا يكونون قد اعتمدوا في تهدئة ضمائرهم على آليات الإنكار والإسقاط وإلغاء الصفة الإنسانية عن الآخر.

التكوين العكسي

أحيانا لا يكفي أن يكبت الشخص مشاعره غير المقبولة عليه، ولا يكفي أن يسقطها على غيره فيقوم باختلاق مشاعر مضادة لتخفي هذه المشاعر المرفوضة. فبعض الأشخاص الذين يشعرون بميول جنسية مثلية لا يكتفون بإنكارها على أنفسهم بل يطورون مواقف معادية للمثليين وأحيانا يقومون باضطهادهم تأكيدا لأنفسهم أولا وللآخرين ثانيا أنهم ليسوا مثليين. ولادة ولد معوق تعتبر صدمة كبيرة على معظم الأهالي لأنها تتضمن خليطا من المشاعر المتناقضة: حب وشفقة وغضب. غالبية الأهالي يغلّبون الحب والشفقة على الغضب ويرعون الولد المعوق، وبعضهم يبالغ في حبه وشفقته كي يخفي عن نفسه الشعور بالغضب على هذا الولد، فيدعون أن ابنهم المعوق هو أحب الأولاد عليهم. هذه المبالغة تتضمن تكوينا عكسيا للمشاعر.

طرق المواجهة الاجتماعية

الدفاعيات النفسية هي بمثابة كذب على الذات لحل الصراعات بداخل النفس وللحفاظ على تماسكها، أما طرق المواجهة الاجتماعية فهي بمثابة كذب على الآخرين لتحاشي الصراع معهم وللحفاظ على التماسك الاجتماعي. هناك طريقتا مواجهة سائدة في المجتمعات الجماعية بما فيها المجتمع العربي وهما: ""المسايرة"" و""الاستغابة"".

المسايرة

المسايرة والمجاملة واحترام الآخر والطاعة وغيرها من طرق المواجهة تعتبر قيما عليا أو عادات مستحبة في المجتمعات الجماعية أو التقليدية وهي تشكل آليات رئيسية لتماسك هذه المجتمعات. إذا أمعنا النظر بهذه الآليات نجد أن جميعها تتطلب إخفاء عناصر أخرى في مشاعر أو رأي الشخص عمدا. فلكي تساير عليك أن تخفي رأيك الحقيقي وتتظاهر ""كذبا"" بأن توافق الآخرين. ولكي تحترم وتطيع والديك عليك أن تضبط نفسك وتتنازل عن مشاعرك ورأيك كي ترضيهم.

الاستغابة

هي آلية مكملة لآلية المسايرة إذ لا يستطيع المرء إلغاء نفسه دائما أمام الجميع، لذلك ترى الفرد يجد لنفسه دائرة اجتماعية للفضفضة والتعبير عما لم يجرؤ على التعبير عنه أمام الآخرين. فتجد مثلا بعض النساء تفضفضن فيما بينهن عما شعرن به من ظلم مع أزواجهن، وبعضهن عن مشاعر عاطفية لم تستطعن البوح بها، والأزواج من جهة أخرى يفضفوا فيما بينهم عما كبتوه من غضب أو غرائز جنسية وغيرها من المشاعر والغرائز. الاستغابة لا تظهر فقط بالفضفضة الكلامية بل السلوكية أيضا. فكثير من السلوكيات الممنوعة يجري إطلاقها سرا بعيدا عن المراقبة الاجتماعية كما يفعل كثير من العشاق في مجتمع يمنع العلاقة بين الجنسين قبل الزواج.

آليتا المسايرة والاستغابة هي آليات تحقق ما هو مستحيل في المجتمعات الجماعية: فهي من جهة تظهر معظم الناس بالمظهر اللائق أمام المجتمع، وفي نفس الوقت تمكنهم من التعبير عن أنفسهم بعيدا عن المراقبة أو العقاب، وهكذا يكون الوضع كمن أكل من الكعكة وأبقاها كاملة.

يمكن القول إن الدفاعيات النفسية هي سيرورات غير واعية وهي نوع من الكذب على الذات، أما طرق المواجهة فهي أقرب إلى الوعي وهي نوع من الكذب على الآخرين. غالبا يمارس المرء تشكيلة متنوعة ومتكاملة من الدفاعيات النفسية وطرق المواجهة التي تساعده على العيش بسلام نسبي مع نفسه ويتأقلم في الواقع الاجتماعي.

إخفاء الحقيقة أو أجزاء منها لا يقتصر على آليات الدفاع النفسية وعلى طرق المواجهة الاجتماعية التي ذكرتها، بل يرافق العديد من ممارسات الإنسان في العديد من مناحي الحياة. فهي قائمة في التكبّر والتواضع والابتسام والمزاح والسخرية واللعب والفن والإبداع والأزياء والمكياج والتجميل، وهي قائمة طبعا في ممارسة السياسة والمؤامرات بين القوى المتصارعة في العالم، وقائمة أيضا في الجدالات بين النظريات المختلفة في العلوم وبين الأيديولوجيات والأديان. إذن فالكذب هو ثوب لا بد من لباسه كي نستر ""عوراتنا"" بحسب تعريفنا أو تعريف الآخرين، ونظهر كما نريد أن نظهر، ونحمي أنفسنا من الأخطار. إذن هي آلية ""يتحلى"" بها الإنسان، دون الحيوان، من أجل تأقلمه في وحدات اجتماعية كبيره، قبلية أو قومية أو غيرها، تشكل شرطا ضروريا لبقائه.

بروفيسور مروان دويري

أخصائي نفسي علاجي وطبي وتربوى ونمو، وباحث في علم النفس العابر للثقافات

رأيك يهمنا