كذبة المرافعة عن حقوق الأسرى الفلسطينيين!

قدّمت النيابة العسكرية لائحة اتهام ضد رجل فلسطيني من سكان مدينة بيت لحم تخللت تهما عديدة أبرزها حيازة وظيفة ومكانة بتنظيم غير قانوني وعضوية ونشاط في إدارة تنظيم غير قانوني. وحسب ما ورد في لائحة الإتهام فإن الحديث عن ناشط استمر نشاطه ضمن تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المعرّفة مدة 25 عامًا وحتى يوم اعتقاله. ويستدل من لائحة الاتهام بأن المتهم كان عضوًا في لجنة الأسير في تنظيم الجبهة وشارك باستقبال أسرى محررين من الجبهة الشعبية وباحتفالات ذكرى استشهاد نشطاء من الجبهة الشعبيّة وبمسيرات عسكرية وجنّد آخرين للمشاركة بهذه النشاطات. كما جاء في لائحة الاتهام أن المتهم مرر تعليمات لنشطاء آخرين من الجبهة الشعبيّة وقام بتزويدهم "بالمعدات" التنظيمية اللازمة للقيام بنشاطات معينة وجنّد أخرين لنشاطات في خدمة تنظيم الجبهة الشعبية. وتعرض لائحة الاتهام النشاطات التي شارك فيها المتهم والتي ارتدى فيها ملثّمون الزي العسكري ورفعوا الأعلام الفلسطينية وأعلاما وشعارات تنظيمية للجبهة الشعبية وصورا لقادة ونشطاء بارزين مثل الشهداء أبو علي مصطفى ومالك شاهين ورائد صالحي وآخرين.

أدانت المحكمة المتهم بتهمة العضوية والنشاط ضمن تنظيم غير قانوني وحكمت عليه عقوبة السجن الفعلي مدة 18 شهرًا (سنة ونصف!) إضافة إلى دفع غرامة مالية بقدر 4000 شيقل وذلك ضمن صفقة ادعاء توصل إليها الدفاع والنيابة العسكرية.

بمضي سنة على سجنه وكّلت من أجل المرافعة عن الأسير للتخفيف من حكمه وإطلاق سراحه المبكّر. نسب الانتماء والنشاط التنظيمي للأسير ضمن تنظيم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين يقلّل من احتمالات النجاح بإطلاق سراحه وذلك تماشيًا مع الفرضية التي وضعتها المحكمة الإسرائيلية بأنه لا مجال لاطلاق سراح مبكر لمن له انتماء أيديولجي ولم يثبت أنه عدل عنه. فطالما بقي انتماء الأسير إلى الجبهة الشعبية ولم يثبت أنه قام بإبطاله خلال فترة مكوثه بالسجن فهذا يعني أنه سيعود لتكرار أعماله التي ترتكز بأساسها على عقيدة أيديولوجية. قامت إدارة السجن بتصنيف موكلي داخل السجن كناشط في الجبهة الشعبية بناء على التهم والأعمال التي أدين بها وفقًا لاعترافه الواضح ضمن الصفقة التي أبرمها الدفاع مع النيابة. وكان واضحًا لدي بأن المرافعة لن تكون سهلة بسبب قضية الانتماء التنظيمي وعدم استيفاء شرط أساسي وضعته المحكمة العليا بقضايا إطلاق سراح مبكر للأسرى المصنفين كأمنيين.

في زيارتي الأولى للأسير وبعد إجراء التعارف الشخصي وأخذ المعلومات الأولية اللازمة منه قمت بوضعه بالصورة وعرض السيناريوهات المتوقعة بالمحكمة مرتكزة على ما جاء بلائحة الاتهام وتفاصيل قرار الحكم والصفقة التي أبرمها مع النيابة. وككل أسير يسأل عن احتمالات النجاح قمت بالإجابة الواضحة بأنه "زي ما بتعرف غالبًا ما بيعطوا تخفيض للأمنيين بس أنا بوعدك أعمل شو لازم ينعمل مهنيًا ودايمًا فيه مفاجآت. هون وهناك فيه نجاحات".

دقائق معدودة قبل بدء سماع مرافعتي للأسير توجّهت إلى غرفة الانتظار التي تواجد فيها مع عدد من رفاقه الأسرى وتبادلت معه بعض الكلمات تمهيدًا للمرافعة القانونية ومحاولة لرفع المعنويات خاصة أن احتمالات النجاح بإطلاق سراحه لم تكن عالية. وقبل دخولنا قاعة المحكمة سألته "انت شو بالزبط يعني كانت وظيفتك مع التنظيم؟ عندها أجابني بصراخ "أنا دي-جي... دي – جي". معنى جملة الأسير أن كل العمل التنظيمي "الإرهابي" الذي وصف أعلاه والذي شمل "تجنيد أخرين للنشاطات وتزويدهم "بمعدات" لم يكن سوى لغرض أدائه كدي-جيه (DJ) ولم يقف من ورائه أي هدف أمني أو عقائدي يهدد أمن الدولة كما وصفته لائحة الاتهام. خلال المحكمة نادى علي ليضيف لي معلومة مهمة إضافية" كنت أشتغل بالبلدية ب-1500 شيكل بتنظيف الشوارع. عندي زي ما حكيتلك 4 أولاد. اشتغلت دي-جي وكنت آخذ 1000 شيكل. عندي ولد مريض".

عرضت النيابة أمام المحكمة مسوغاتها الرافضة لإطلاق سراح الأسير المبكر بحجة أنه ما زال يشكّل خطرًا على أمن دولة إسرائيل نظرًا للأعمال العديدة الخطيرة المنسوبة إليه والتنظيم الذي ينتمي إليه. أسندت النيابة ادعاءاتها إلى تقرير المخابرات وقرارات المحكمة العليا التي تعزّز موقفها الرافض لإطلاق سراح الأسير وإعفائه من ثلث مدة الحكم المتبقية.

معلومة الدي-جي آلت بي لتغيير كل خط الدفاع محاولة إقناع المحكمة قراءة لائحة الاتهام وقرار الحكم وفقًا لهذه المعلومة التي لم يتم ذكرها في أي مستند قانوني معروض أمامهم. فلو وجدت هذه المعلومة البسيطة لوجدنا أن "المعدات" التي كان يعطيها الأسير لنشطاء آخرين ما هي إلا معدات الصوت والتسجيل وليس معدات تفجير على سبيل المثال. وأن تجنيده لفلان وعلان "لنشاط يخدم الجبهة الشعبية" ما هو إلا الاستعانة بالآخرين لإنجاح مهمّته بإحياء الحفل أو المسيرة ولا شأن بذلك بأي نية للقيام بنشاط يمس الأمن المزعوم للدولة. أربكت معلومة ال "دي-جي" المحكمة قليلًا ولم تستطع التماهي معنا فيها بذريعة أن "لا ذكر لهذا الشأن بلائحة الاتهام وقرار الحكم". في النهاية تم قبول الطلب والإقرار باطلاق سراح الأسير. إلا أن قرار إطلاق سراحه علل بتسويغات عامة لم تتطرق أبدًا إلى الفجوة الكبيرة ما بين الأعمال التي قام بالفعل الأسير بها ومحفزاته الحقيقية وبين الأعمال التي وصفت في لائحة الاتهام.

قد تكون قضية الدي-جي تكللت أخيرًا بالنجاح لمجرد إقناعنا المحكمة باستحقاقه التسريح المبكر من السجن ولمجرد وصوله بيته نصف سنة قبل موعد إطلاق سراحه الرسمي. إلا أن هذا النجاح مبني على سيرورة قضائية معيبة غطّت فيها الحقائق القانونية على الحقائق والوقائع الحقيقية. لم يكن الدي-جي يعلم ما الخطب بعمله الموسيقي من أجل لقمة عيش أطفاله الأربعة وزوجته ولماذا تم اعتقاله علمًا أنه كان "يدجج" علنًا ولم يحسب يومًا أنه يقوم بعمل غير قانوني. آلت به السيرورة القضائية للرضوخ لإملاءات قوانين الاحتلال والمحامين والاعتراف والتوقيع على صفقة محت كل ملامحه الشخصية والحقيقية لتقوم بتصويره كناشط لتنظيم غير قانوني يجند الآخرين ويزودهم بالمعدات (الموسيقية) للمس بأمن الدولة. دخل الأسير السجن "دي جي" يلهث وراء لقمة عيشه وخرج منه (قانونيًا) ناشطًا إرهابيًا وهو ما زال يقول "أنا يا عمي دي-جي".


مصدر الصورة المرفقة للمقال.

المحامية عبير بكر

محامية ومستشارة قانونية متخصصة في مجال حقوق الإنسان

شاركونا رأيكن.م