"هل تكذب ماما؟ لماذا يكذب بابا؟ طفلك يستكشف!"
رنّ هاتفي وسمعت صوت امرأة مذعورة تتحدث والقلق يجتاح صوتها، قالت لي: "أحتاج مساعدتك في الحال، الأمر غير قابل للتأجيل!"
هدّأت من قلقها وسمعتها بكل جوارحي ووعدتها أن نتساعد قدر المستطاع لحل التحدي الذي تواجهه. بعد مكالمة طويلة مليئة بالمشاعر الجياشة فهمت من الأم أن ابنها البكر والذي يبلغ من العمر 7 سنوات "يكذب"، بل ويكذب كثيرا ويؤلف قصصا وحكايات من نسج خياله حسبما قالت.
أبديت تفهمي الخالص لمشاعرها وقلقها اتجاه ما يحصل وأوضحت لها أني أشاركها إياه كأم وأتعامل معه كثيرا كمهنية. قلت لها "أن يكذب الطفل فهذا أمر طبيعي ومتوقع وجزء من مراحل التطور المختلفة التي يمر بها، لكن علينا فهم الأسباب ومعالجتها في الوقت المناسب كي لا يتخطى حدوده ويعود بالضرر عليه".
وافقتني الرأي وبدى على صوتها الهدوء. ثم قالت لي: "بتعرفي ليه أنا هيك متصعبة من اللي صار؟ لأني أنا انسانة صادقة، كل حياتي واجهت مصاعب وتحديات كثيرة بسبب صدقي ومع ذلك أؤمن بأهمية تمرير هاي القيمة لأطفالي وبعمل كل جهدي، فكيف صار هذا الخلل؟ أنا خايفة وصعب عليّ اتقبل هذا السلوك ومجرد تفكيري فيه بشعر بالضيق والتوتر، يا الله كيف هيك صار؟!"
كانت هذه الأم ككثير من الأمهات والأهالي الذين يبذلون جهودا كبيرة لتربية أطفالهم تربية صالحة بتمرير القيم والمبادئ التي تشعرهم بالطمأنينة والرضا عند سلوك أطفالهم سلوك جيد ومقبول، وبالمقابل يشعرون بالقلق والخوف عند حدوث مواقف سلبية أو غير مقبولة من طرف أطفالهم.
الكذب عند الأطفال يكون له أسباب ودوافع مختلفة تختلف حسب العمر والظروف، ويمكن التعامل معها بطريقة سلسة وهادئة حتى جيل 10 سنوات تقريبا وبعد ذلك يجب وضع حدود واضحة وصارمة واتخاذ خطوات ثابتة لمنع الظاهرة.
بعض هذه الدوافع هي بسيطة وساذجة وبعضها أكثر حكمة وقصد، منها يأتي كتعرف الطفل على فكرة الكذب واختبارها كأي سلوك جديد يتعرف عليه ويرغب بتجريبه، أو يمكن أن يبالغ باستعمال الخيال فنراه كذبا، كجزء من انغماسه في عالم الخيال الطفولي، ويمكن أن يتفاخر بوصف نفسه بما لا لديه ليزداد تقديرا واحتراما أو أن يضخّم بعض الأوصاف والسلوكيات ليكسب الإعجاب، يمكن أن يخاف من ردة فعل الأهل أو أن يتجنب العقاب، يمكن أن يتجنب القيام بمهمة ملقاة على عاتقه ويمكننا أن نجد الكثير من الإمكانيات التي تكمن وراء الحاجة بالكذب.
جميع هذه الأسباب والدوافع يتم استيعابها والتعامل معها بأريحية في حال كانت تميّز عالم الأطفال الذين ما يزالون قيد التطور، والنمو الذهني، والعاطفي والاجتماعي. أما إذا كان الكذب من سمات الكبار والبالغين وبالذات الأهل منهم فإنه سيكون سلوكا سيئا ومسيئا.
هل تعلمون لماذا؟
لأن الأهل هم قدوة ونموذج يحتذى به فهم يؤثرون على أطفالهم وعلى ثقتهم بأنفسهم ونظرتهم للأشخاص وللحياة من حولهم. الأهل هم مصدر المعلومات ومرجعية أساسية بحياة الأطفال بكل مراحل العمر.
أحيانا يدّعي الأهل أن الكذب هو عبارة عن "كذب أبيض" يهدف لحماية الطفل ومنع تعرضه لأحداث مؤذية أو خطيرة، لكن الواقع يثبت غير ذلك، فالكذب كذب بغض النظر عن لونه سواء كان أبيض أو أسود أو رمادي، والأهم هنا هو فحص الدافع أو الحاجة عند الأهل بتغيير الحقيقة أو إخفاء أجزاء منها أو تشويهها. في هذه الوضعيات يكون الادعاء من الأهل أنهم يرغبون بحماية أطفالهم، لكن الدافع الأصح هو لحماية أنفسهم وتجنب الصراعات والتذمر والإلحاح وتخفيف نوبات الغضب والبكاء الشديد، وهذا يعني أننا حرمنا أطفالنا من مواجهة مشاعرهم وخيباتهم والتعامل معها بشكل صحي وسليم. هذا سلوك غير صحيح ويعود بالضرر الكبير على أطفالنا، لأن التدرب على مهارات الحياة المختلفة يبدأ في البيت والعائلة كمحطة أساسية.
بعض الأمثلة على ذلك – كأن يقول الأهل لطفلهم أن السينما اليوم مغلق رغم أنه مفتوح، أو يقولون لطفلتهم ان أسنانها ستسقط إذا لم تنظفها، أو أن الماما والبابا يحبون بعضهم البعض رغم وجود خلافات دائمة ومستمرة وواضحة للعين.
لنتذكر أن الأطفال أذكياء ويستطيعون ملاحظة ما يحصل وسماع ما يدور من كلام محكي وغير محكي. فلا تستهينوا بقدراتهم العقلية والعاطفية!
أما أن يختار الأهل الإدلاء بجزء من المعلومات أو الاقتضاب بإعطاء معلومات دون تغييرها أو تشويهها فهذا يدلّ على التفكير بالموقف الموجود أو السؤال المطروح والمحاولة لملائمة التفاعل بما يتناسب مع الطفل ومرحلة تطوره، هذا يعني أن نصبّ تركيزنا على احترام الطفل، عقله وقدراته وعدم التشكيك بقدرته للفهم والادراك. هذا سلوك محبذ وصحيح ويعود بالفائدة على أطفالنا، لأنه يقدم المعلومة بسياقها المناسب.
تذكروا أن أطفالنا يستطيعون التعامل مع غالبية الخيبات في حال ساندناهم ووقفنا إلى جانبهم، إلا خيبة واحدة وهي فقدان الثقة بالأهل أنهم والتشكيك بكل قول أو فعل في حال كررّ الأهل الكذب واستعملوه كأسلوب حياة.
في الختام، أنصح الجميع بعدم الكذب على الأطفال، لان الصدق نجاة. في حال حدث موقف اضطركم للكذب بسبب ضغوطات معينة أو توتر أو نسيان، اشرحوا للطفل حقيقة ما كان والدافع وراء هذا السلوك ثم اعتذروا ووعدوه بأن تحافظوا على قول الصدق دائما.
كاتبة المقال: رباب قربي وهي مرشدة أهالٍ متخصصة في مجال الوالدية، العائلة والجنسانية ومديرة مركز "محطات".