ماذا نحيي في اليوم العالميّ للشعوب الأصلانيّة: هل تُنسى الجرائم؟

تحيي الأمم المتحدة أو تحتفل بحسب لغتها باليوم العالميّ للشعوب الأصلانيّة الذي يوافق التاسع من آب. المتابع لهذا اليوم يشهد غالبََا يومََا ممتلئًا بمظاهر الاحتفالات والألوان، الرقصات والزركشات، والعروض المختلفة لمجموعات من الشعوب الأصلانيّة حول العالم، والتي يقدر عددها اليوم بحوالي 500 مليون نسمة. تظهر النساء والشيوخ، الشيب والشباب بألبسة تراثية على أنغام موسيقى وأغاني باللغات الخاصة والمهددة بالانقراض، كما وتُعرض بعض المقتنيّات الخاصّة بتلك الشعوب إلى جانب خطابات بعض الشخصيات السياسيّة والدوليّة التي تشدّد على أهمّيّة هذا اليوم وعلى أهمّيّة الحضارة والتراث الأصلانيّ مع الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على هذا الإرث. ما يغيب ذكره في هذا اليوم هو التاريخ الاستعماريّ والممارسات الاستعماريّة التي جعلت من تلك الشعوب ومن حضاراتها، ثقافاتها، ولغاتها، إرثََا مهدَّدًا بالانقراض. كيف لا، وقد تمَّت إبادة تلك الشعوب وإبادة حضاراتها بشكلٍ شبه كامل من قبل الدول الاستعماريّة الأوروبيّة منذ نهاية القرن الخامس عشر. ما لا يتمّ ذكره ليس فقط التاريخ الوحشيّ، بل أيضََا الحاضر الوحشيّ وما يجري اليوم من ممارسات من قبل القوى الاستعماريّة اتّجاه تلك الشعوب وأراضيها: ما يجري في كندا، وفلسطين، وأستراليا، والولايات المتّحدة، وغيرها. ما يغيب ذكره أيضََا هو مسألة ضرورة تفكيك المستعمرة: إرثها وبنيتها الّتي جعلت المستعمر في تلك المكانة وأعطته القوّة والثروة ووفّرت له الظروف لضمان استمراريّته هيمنته على حساب الأصلانيّين. هذا الغياب غير المبرّر في الحديث عن التاريخ الاستعماريّ لا يمكن تجاوزه باحتفالات شكليّة. كيف نتحدّث عن الشعوب الأصلانيّة بدون التعرّض إلى التاريخ الاستعماريّ الذي أوجدها أصلًا؟

فلسطين والأصلانيّة

كان على الدوام تعاملنا مع الصهيونيّة والانتداب البريطانيّ كقوّة أجنبيّة استعماريّة تسعى لسلب الوطن، وكان التعامل مع ذاتنا كأصحاب البلاد وأهلها طبيعيًّا وتلقائيًّا، دون الحاجة إلى أيّ إملاء دوليّ أو تعريف قانونيّ من عُصبة الأمم أو الأمم المتّحدة لاحقًا على أَنّنا شعوبٌ أصلانيّة. ربّما أهمّ تعريف لمن هو الأصلانيّ هو طبيعة علاقته وتماهي هويّته مع الأرض والمكان بما يحملانه من معاني ودلالات. ينتمي الأصلانيّ إلى المكان، وينتمي له المكان عضويًّا، يتشابهان ويكمل أحدهما الآخر، وهنا يكمن التحدي الذي تواجهه الحركة الصهيونيّة والتي تسعى إلى بناء المكان الجديد الذي يساعدها على أصلنة اليهوديّ، وهكذا تسعى لتشريع حقّه في الأرض.

تختلف الصهيونيّة عن حالات وحركات استيطانيّة واستعماريّة أخرى، خاصّة في محاولة تعريف نفسها كحركة تعيد الإصلانييّن إلى الوطن الذي حافظت على تواصل دينيّ معه لأكثر من ثلاثة آلاف سنة. ومن المثير أنّ المؤسّسين المركزيّين للصهيونيّة لم ينكروا حقيقة مشروعهم كمشروع استعماريّ وكمشروع يعمل في فلك الاستعمار. عملت القيادة الصهيونيّة على تحقيق مشروعها عن طريق الحصول على دعم من القوى الاستعماريّة آنذاك: بريطانيا، فرنسا وألمانيا، ووصل ذلك إلى حدّ محاولة تخصيص إحدى المستعمرات البريطانيّة (شرق أفريقيا- أوغندا) للمشروع الصهيونيّ، وما يجدر الإشارة إليه هو أنّ مؤسّسات الحركة الصهيونيّة كانت تعرّف على أنّها مستعمرات. فقد نص كتاب هرتسل على عبء الرجل الأبيض بتأسيس المستعمرة لصالح الأصلانيّ، وتباهى حاييم وايزمان بأنّ ما فعله اليهود للعرب في فلسطين لا يقارن بما فعلته القوى الاستعماريّة للشعوب الأصلانيّة من محو وإبادة.

تبدّل هذا التعامل وتغيّر مع التبدّلات الدوليّة بشأن الاستعمار، فبعد أن كان الاستعمار الركيزة الأساسيّة للعلاقات الدوليّة في القرون الأخيرة كمؤتمر برلين 1885 في تقسيم الثروات والأراضي في القارة الإفريقيّة بين القوى الاستعماريّة، غدا الاستعمار منذ الخمسينيّات، وبلغ ذروته في السبعينيّات، كمنظومة محطّ شجب واستنكار لانتهاكها حقوق وكرامة الشعوب. أتى هذا بالمقابل مع تطوّر مبدأ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا يفسّر وصول عدد الدول اليوم في الأمم المتّحدة إلى 193 بعد أن كانت 51 دولة فقط عند تأسيس الأمم المتّحدة في العام 1945.

مع إنكار ورفض الصهيونيّة وصفها بالحركة الاستعماريّة، فهي تسعى دومًا إلى خلق هوية الأصلانيّ عن طريق الهدم والمحو للوجود والهوية الفلسطينيّة واستبدالها بالجديد، وما يرافق ذلك من تغيير الأسماء وتشكيل تاريخ جديد وتوظيف علم الآثار والخطاب لذلك. يبقى الفسطينيّ في هذا الفضاء كعابر سبيل وكمُؤتمن بأفضل حال على ""أرض إسرائيل"" في سنوات غياب اليهود عنها. وبالعودة للفرق بين العضويّ والطبيعيّ من جهة، وبين الدخيل والمصطنع من جهة أخرى، يظهر لنا الأخير عند النظر للجغرافيا الفلسطينيّة وبين من يدّعي كونه الأصلانيّ في هذا المكان. أكثر من ذلك، فقد وصل الحدّ ببعض الباحثين تعليقًا على الادّعاء بأنّ البدو الفلسطينيّين في النقب هم أصلانيّون، بأن يقولوا إنّ اليهود هم الشعب الأصلانيّ الفلسطينيّ وأنّ للبدو صفات مشتركة تجمعهم أكثر مع المستعمرين الأوروبيّين نتيجة عمليّات السطو الّتي قام بها البدو على القرى وسلبها بحسب ادّعاءهم.

من جهة أخرى، يجب التنويه أيضََا إلى بعض الأصوات الفلسطينيّة المعارضة للتعريف الأصلانيّ بالذات في السياق الذي يخصّ المجتمع البدويّ الفلسطينيّ، ويرافق هذه المعارضة عدم المشاركة وعدم إحياء اليوم العالميّ للشعوب الأصلانيّة. لكن من أين تنبع هذه الأصوات المعارضة؟

يكمن هذا الاعتراض بالأساس بسبب التشديد على الهويّة الثقافيّة على حساب الهويّة الفلسطينيّة القوميّة، وعلى تصوير الصراع كمحسومٍ وبأنّنا في حالة ""ما بعد الصراع"" وفي وضعيّة الهزيمة. ولا ننكر بأنّ بعض الأصوات الفلسطينيّة الرافضة للمقارنة مع الشعوب الأصلانيّة الأخرى، هي كي لا تظهر ""بدائيّة"" أو ""وحشيّة"". يجب علينا التدقيق في تلك المسألة لأهمّيّتها. فالشعب الفلسطينيّ هو الأصلانيّ، صاحب البلد، وتشكّلت هذه المكانة مع وجود ووصول المستعمر، وإنّ الصهيونيّة هي حركة استعماريّة. لكن، تكمن الإشكاليّة الجدّيّة في منظومة القانون الدوليّ وأُطُر الأمم المتّحدة المختلفة، وفي إعلان الأمم المتّحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلانيّة عام 2007. تعمل تلك الأطر على تقبّل عام للدول وللمنظومة الاستعماريّة والقوّة القائمة دون العمل على تفكيكها بشكلٍ جادّ. بل وأكثر من ذلك، وعلى الرغم من قائمة الحقوق المحميّة المهمة في إعلان الأمم المتّحدة إلّا أنّه يتعامل مع الدولة ككيانٍ قائمٍ وطبيعيٍّ، وبأنّه يجب حماية سيادة الدولة ووحدتها الجغرافيّة. ولذا يكون حقّ تقرير المصير للشعب الأَصلانيّ ضمن إطار الدولة القائمة. ولخصوصيّة الحالة الفلسطينيّة من ناحية التقسيمات والتجزئة داخل إسرائيل والضفة والقطاع والشتات، لا يوفّر الإعلان الحلول المرغوبة بشأن حقّ تقرير المصير وتأسيس الدولة وعودة اللاجئين، ولاختلاف المشروع الفلسطينيّ السياسيّ المهيمن في الداخل وفي الضفة وفي القطاع، تزداد الإشكاليّة بين مشروع ""المساواة"" ومشروع ""الدولة على جزء من الوطن.""

كما ويمكننا عزو هذه الإشكالية الفلسطينيّة مع التعريف الأصلانيّ إلى التبدّلات في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ ولهيمنة الهويّة القوميّة التي غابت في حالات أصلانيّة أخرى، حيث عاشت شعوب وأممٍ على أراضيها معتبرةً ايّاها مملكتها الخاصّة كما وتقدّسها دون انتهاج خطى القوميّة أو مشروع تأسيس دولة قومية حديثة. أمّا الحالة الفلسطينيّة، فعملت على استقلالها القوميّ منذ الحكم العثمانيّ في الإطار العربي الأَوسع، وعلى الاستقلال الفلسطينيّ بشكل أكبر من الاحتلال البريطانيّ والصهيونيّة. عندما كان الصراع الفلسطينيّ بالأساس مشروع تحرّري ضدّ-استعماريّ في الستينيّات والسبعينيّات، كانت الأصلانيّة مرتبطة بشكلٍ مباشر بالاستعمار ومناهضته، لكن بعد أوسلو أصبح المشروع مشروع دولة وصارت حينئذ الإشكاليّة أَكبر إذ ارتبطت الأصلانيّة بالدولة والقانون الدوليّ. بذلك، تحوّلت الأصلانيّة من الحقل السياسيّ وحقيقة كونها كعلاقة قوّة واستعمار إلى كونها مصطلحََا قانونيََّا يرتبط ببعض الحقوق ضمن الدولة القائمة ويشدّد على الهويّة الثقافيّة، ويعمل على تغييب الاستعمار الماضي والحالي ولا يسعى إلى تصحيح 500 عام من السلب والنهب والقتل والاستعباد، وأضحى يكتفي بالشكليّات.

""نحن مدينون للشعوب الأَصليّة بدين عمره أربعة قرون. لقد حان دورهم ليصبحوا شركاء كاملين في تطوير كندا أكبر. والمصالحة المطلوبة قد لا تكون مسألة نصوص شرعية بقدر ما هي مسألة مواقف قلب"" –روميو ليبلانك.

وبالعودة إِلى الحالة الأصلانيّة العامّة، تفتخِر بعض الدول ببداية التصحيح والعدالة التاريخيّة معتبرة أن صراعها مع الشعوب الأصلانيّة قد انتهى وأنّها تعترف بالظلم الّذي حلّ بهم. لكن تلك السياسات بعيدة كلّ البعد عن إجراء أَيّ تصحيح ذي معنى. فكولومبوس ما زال رمزََا يُحتذى به، وتسمّى الشوارع والولايات والساحات باسمه، وله يوم احتفاليّ خاصّ، وفحوى رسالته ما زالت تطغى في التعامل مع الشعوب الأَصلانيّة.

لا يمكن أيّ تصحيح دون الكشف عن الحقيقة أَوّلًا، فجرائم السلب والنهب والإفقار والإبادة والمحو كثيرة. ووجب الربط في نفس السياق بين الاستعمار، والأصلانيّة، والعبوديّة كمثلّث الجريمة الكبرى الذي امتَدَّ من أفريقيا إلى أوروبا وإلى الأمريكيتين مثلََا برحلات الموت والاستكشاف (الاستعمار). فقد تمّ من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر شحن نحو 12 مليون أفريقيّ لمشروع عبوديّة، مات منهم 1.5 مليون فقط على متن السفن التي أقلّتهم من قلاع العبوديّة على الساحل الإفريقيّ، هذا عدا من مات على طرق الاستعباد خلال النقل إلى تلكَ القِلاع. أَمّا من تمّ إبادتهم من الشعوب الأصلانية في القرن الأوّل للاستعمار في الأمريكيّتين فيصل بالتقدير إلى 130 مليون شخص- فعن أَيّ تصحيحٍ يتحدّثون وأيّ ذكرى بالضبط التي يتمّ إحياؤها؟

كلّ يوم لمن يقبع تحت الاستعمار هو يومه العالميّ، يومه ليناهض تلك السياسات ونتاج تاريخ العبوديّة والإبادة. هو يومه ليقاوم سلطة الاستعمار على كرامته وحقوقه، فاليوم العالميّ للشعوب الأصلانيّة يجب أنْ يتحوّل من الألوان والزركشات التي تغذّي وتقوّي الصور النمطيّة والقوالب الفكريّة عن الأَصلانيّين إلى نمط يُعبّر عن وحشيّة المستعمِر وليس وحشيّة الأصلانيّ، وإلى ما يشير إلى الظلم المستمرّ وحتميّة التحرّر. ولتُواصل الأصلانيّ الطبيعيّ مع الطبيعة فتحرير الأصلانيّ وحضارته سيساهم في حماية واستدامة الطبيعة وحرّية الأمّ الأرض من استعمار رأس المال وثقافة الاستهلاك.

ملاحظة: الشكر لملكة عبد اللطيف على المساعدة ومساهمتها في البحث.

الصورة المرفقة: لتلغراف من الجمعيّة الإسلاميّة -المسيحيّة – يافا للحكومة البريطانيّة، 1919 (وجب القراءة بعد كلمة ""stop"")"

د. أحمد أمارة

محاضر في جامعة نيويورك (تل-أبيب) وباحث في العيادة القانونية في جامعة القدس (ابو ديس). يبحث في الجغرافيا وتاريخ فلسطين القانوني، وبشكل خاص قانون الأراضي العثماني والأوقاف. محامٍ في مجال حقوق الإنسان والمرافعة الدولية، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ والدراسات الإسرائيلية من جامعة نيويورك

شاركونا رأيكن.م