خطاب الأصلانيّة والحالة الفلسطينيّة في الداخل
تميّزت سنوات التّسعين على الساحة الفلسطينيّة في الداخل بعدد من التحوّلات التي انعكست في الخطاب الحقوقيّ المتعلّق بالمواثيق الدولية وتطبيقه. ومن أبرز التحوّلات كانت اتفاقات أوسلو الّتي اعتبرتها مكوّنات كبيرة من الشّعب الفلسطينيّ وبالذات بين اللاجئين وفلسطينييّ48 تجزئةً للقضية ولأولويّات الحقّ. شهدت نشوء جيل جديد من المنظّمات الأهليّة والتشبيك ضمن مساعي بناء المؤسّسات وتنظيم المجتمع، والمنظّمات الحقوقيّة، كما شهدت تصاعد خطاب الحقوق الجماعيّة والهويّة الفلسطينيّة الذي بلغ أوجه في هبّة القدس والأقصى عام 2000. إضافة إلى المساعي لتدويل قضايا الداخل الفلسطيني ضمن مجمل الحالة الفلسطينيّة، وعدم حصرها ضمن ما يسمى ""شأن إسرائيليّ داخليّ"" حسب التعريفات الدوليّة، كما وشكّل المؤتمر الدوليّ لمناهضة العنصريّة (ديربان 2001) والعمل التحضيريّ الجماعيّ محليّا ودوليّا بيئة لتعزيز هذا الخطاب وهذه المساعي. وعليه كانت مشاركة واسعة ومكثّفة لمدّة عام في لجان الأُمم المتّحدة، وفي تعزيز العلاقات مع ممثّلي وممثّلات حركات شعوب العالم والتعرّف على قضاياهم وكذلك التفاعل والدعم المتبادل، بمن فيهم مع منظمات تعمل في إطار حقوق الشعوب الأصلانيّة وحقوق الأقليّات وحقوق المرأة وحقوق المجموعات السكانيّة المهمّشة، وغيرها. وقد ساهم هذا التفاعل المتعدِّد الأطراف في إثراء التجارب المحلّيّة وكذلك في توسيع الرؤية بشأن الإسناد المتبادل بين الشعوب، إضافة إلى الاستفادة من العلاقات الرسميّة سواء من الكتل الدوليّة في الأمم المتّحدة مثل المجموعة العربيّة والأفريقيّة والأوروبيّة والهند وشرق آسيا وغيرها، والهيئات الرسميّة في الأمم المتّحدة وبالاخصّ مفوضيّة حقوق الإنسان والمقرّرين الخاصّين بشأن فلسطين.
هناك رأيان أساسيّان ومختلفان ومنهما تتفرّع آراء عديدة فيما يتعلّق باعتماد مفردات وخطاب الشعوب الأصلانيّة فلسطينيّا؛ واحدٌ يقوم على اهمّيّة استغلال الخطاب لصالح الشعب الفلسطينيّ وبالذات في تشخيص حالة البدو في مواجهة سياسة سلب الأرض والتطهير العرقيّ والتهويد. وهو خطاب يجد له مساحات في منظمات حقوق الإنسان وحصريّا تلك الناشطة مقابل لجان الأمم المتّحدة ذات الصلة، والسعي إلى تضمين المفهوم غير المعرَّف للشعوب الأصلانيّة، بالخصوصيّات الفلسطينيّة أو مركّبات ضمنها. يقول هذا الخطاب باهمّيّة استغلال كلّ حقّ من حقوق الشعوب وتطعيمه بالحالة الفلسطينيّة. وكذلك استغلال كلّ فرصة لحماية حقوق الفلسطينيّين في الداخل، سواء كان حقّا للشعب الفلسطينيّ كلّه ويندرج ضمن حقّه بالتحرّر والعودة وتقرير المصير، أم حقًّا ينطبق على مجموعة سكانيّة منه لها مواصفاتها الخاصّة وفقا لمعايير المواثيق الدولية، لأنَّ حقوق الأَصلانيّين غير مثبَّتة قانونيّا في القانون الدوليّ وليست ملزمة، وإنّما يكون المسعى هو مراكمة نصوص بالإمكان استخدامها في الحملة لانتزاع اعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ، بما فيه المساعي المتواصلة لكسب اعتراف أمَميّ بفلسطينييّ ال48 جزءٌ من القضيّة الفلسطينيّة بالإضافة الى كونهم جزءا من الشعب الفلسطينيّ ومواطنين في إسرائيل.
مثلا ينطبق نمط التفكير هذا مع النقاش في هيئات الأمم المتّحدة بصدد حقوق الأقليّات، وهل نعتبر الفلسطينيّين في إسرائيل هم مجرّد أقليّة أم انّ حقوقهم مشتقّة من حقوق شعب فلسطين، وفي الجانب العمليّ يجري بالغالب الاستفادة من الأمرين ضمن المساعي لتعزيز وضعيّتهم خاصّة وأَنّ الحديث عن قيام منظمات مجتمع مدنيّ تعالج قضايا عينية وليس عن منظمة التحرير الفلسطينيّة التي تناضل على مجمل الحقّ الفلسطينيّ وتفاوض بشأنه وترسم إطار الحلّ. بينما ممكن رؤية ذلك نظريّا حالةً فيها تجزئة لقضيّة فلسطين، وحتّى إن كنّا بصدد منظّمات أهليّة، وفيه أحياناً مفاضلة بين حقّ أساس وحقّ أساس آخر للشعب، وعلى سبيل المثال، التنافر بين مبدأ العدل التوزيعيّ الذي يشمل حقوق الأقليّات وبين حقّ العودة واعتبار أملاك الغائبين حسب التصنيف الإسرائيليّ هي أملاك الشعب الفلسطينيّ ولاجئيه وتقع ضمن حقّ العودة واسترداد الأملاك، والرفض المبدئيّ والأَخلاقيّ لتقاسمها مع المجتمع الإسرائيليّ الذي تبلور ضمن المشروع الصهيونيّ الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين، والذي يسيطر فعليّاً على هذه الممتلكات.
يقوم الرأي الآخر المعارِض على اعتبار أنّ خطاب الشعوب الأصلانيّة مُضِرّ بالحالة الفلسطينيّة، لأنَّه يعتبر أنَّ الحالة تنطبق على البدو في النقب وفي مناطق (ج) حسب توزيعة وضعيّات الفلسطينيّين في الضفة الغربيّة بناء على أوسلو، وهذه المناطق تشمل الخان الأحمر ومسافر يطا منطقة الخليل والمنطقة E والتي لو تمّ طرد الفلسطينيين منها لأُلغِيَت كل إمكانيّة تواصل جغرافيّ بين جنوب الضفّة وشمالها. يعتبر هذا الخطاب أنَّ ما يميّز هؤلاء ليس أصلانيّتهم وإنّما فلسطينييّتهم وأنّ حقوقهم مشتقّة من كونهم فلسطينيّين وليس من باب الأصلانيّة. لأنَّ تصنيفهم أصلانيّين يسهم في شرذمة وتجزئة الشعب الفلسطينيّ ومركّبات القضيّة، وذلك بوضع أصلانيّة مجموعة فلسطينيّة مقابل اعتبار الشعب الفلسطينيّ كلّه ويشمل اللاجئين، هو الأصلانيّ بمفهوم أهل البلاد. باعتقادي أنّ من شأن مقال كلّ من يارا هواري وأحمد امارة في ""الشبكة""، ان يشكّل اجتهادا مرجعيّاً في هذا الصدد[1]، وكذلك الأمر بالنسبة لمقال سهاد بشارة في موقع صحيفة ""السفير"" حيث تحذّر من خطاب تحويل الفلسطينيّين إلى ""أقليّات أصلانيّة"" لكلّ منها خطاب منفصل عن السياق التاريخيّ لقضيّة فلسطين الواحدة.[2]
بينما نجد أنّ هنالك من تبنّى مفهوم ""أقليّة وطن"" في مسعى للتمايز والارتباط بالوطن وبقضيّة الشعب، مقابل من ينأى عن استخدام مفهوم الأقليّة باعتباره ينتقص من وضعيّة الشعب الفلسطينيّ الواحدة وحقوقه الجوهريّة الواحدة في كافّة أماكن تواجده ومن أنّ حقوق الفلسطينيّين في الداخل تتضمّن في أوجه كثيرة حقوق اللّاجئينَ أو مُجمَل الشعب مثل حقّ العودة وقضيّة المهجّرين في الداخل.
أمّا ميدانيّاً فالأمر يأخذُ مناحي مختلفة، ومثال آخر هنا لذلك هو الحقّ بالمياه أو بالرّبط بالبنى التحتيّة للدّولة مثل شبكة الكهرباء أو الحقّ بالخدمات الصحّيّة والتعليم، والّتي جرى الاستفادة من حقوق الشعوب الأصلانيّة، وكذلك من حقوق الأقليّات ومن الحقوق الاجتماعيّة الاقتصاديّة في نضالات الاعتراف بالقرى غير المعترف بها في النقب والجليل، سواء ما قامت به لجنة الأربعين في سنوات الثمانين وبالتعاون مع جمعيّة الجليل، أم لاحقا المجلس الاقليميّ للقرى غير المعترف بها في النقب. إلّا أنّ الأمر الحاسم لم يكن النصوص وإنّما النضال على أرض الواقع.
كما وهناك نظرة نمطيّة منتشرة في العالم وفي الغرب تحديدا باعتبار الأصلانيّة أقرب إلى ""البدائيّة"" أو إلى النظرة الإكزوتيّة، وهكذا تُعتمَد الصورة عن نمط حياة هذه الشعوب الأقرب إلى الزراعة الأوليّة والمراعي، وفي معظمها قد اندثرت نتيجة للاستعمار والعبوديّة والاتجار بالأفارقة وكلّ ما صاحب ذلك من أعمال إبادة ضدّهم، يُضاف إلى ذلك السكّان الأصليّين في مناطق شاسعة من الولايات المتّحدة والّذين يُطلق عليهم التوصيف الاستعماريّ الأوروبيّ منذ كريستوفر كولومبوس ""الهنود الحمر""، وكذلك لشعوب في استراليا وغيرها. كما يجري استخدامه لتوصيف الشعوب أو المجموعات السكانيّة والإثنيّة الأقرب إلى البداوة، ويشكّل نموذجا لهذا التعامل مع شعوب الروما في أوروبا وبالذات النَّوَر والغَجَر الرُحّل. وكثيرا ما يحصل أن يتمّ استدعاء أشخاص من هذه المجموعات إلى المَحافل الدوليّة والحقوقيّة بلباسهم التقليديّ كي يتم الحديث عنهم كحالة تراثيّة، وهذا يختلف تماما عن حضورهم ممثلّين لشعوب تطالب بحقوقها التاريخيّة والتعويض من المستعمرين عن الغبن التاريخيّ. تندرج هنا مسألة التمايز بين منحى تفكيك الواقع الاستعماريّ وتراكماته التاريخيّة وبين القبول به والعيش فيه، وبالذات عند الحديث عن المادة رقم 38 من الميثاق المتعلّق بالشعوب الأصلانيّة حيث يوارب النص مسألةَ تفكيك الواقع الاستعماريّ.[3]
هذه النظرة بات لها حيّز في وعي الشعوب الضحايا أيضا، وفلسطينيّاً أيضا، على سبيل المثال قامت جامعة القدس في العام 2015 بالاحتفاء بيوم الشعوب الأصلانيّة في عرب الجهالين، المهدّدة بالتطهير العرقيّ من منطقة الخان الأحمر المحتلّة، وهم أنفسهم من مهجّري منطقة تل عراد في النقب الشرقيّ أَي ضحايا مباشرين للنّكبة، بينما يتمّ التعامل معهم ضمن الشعوب الأصلانيّة. [4]
دون الانشغال بالتعريفات القانونية والمواثيق الدولية درج الفلسطينيّون في الداخل يستخدمون مفهوم ""أهل البلاد"" و""أهل الوطن""، وهي الجملةالافتتاحيّة لوثيقة مؤتمر الجماهير العربيّة المحظور اسرائيليّا في العام 1980 ""نحن أهل هذه البلاد ولا وطن لنا غير هذا الوطن""، وهذا في جوهره استخدام سياسيّ وكفاحيّ وكذا يندرج تسمية بعض الحركات الوطنية ""حركة الأرض"" و""أبناء البلد"" ضمن هذا المعنى.
في الحالة الفلسطينيّة هنالك تحدٍّ آخر وهو استخدام المستعمِر الصهيوني خطاب الأصلانيّة، فالصهيونيّة العلمانيّة تتحدّث بلغة التوراة والتلمود عن أرض الميعاد، وعن تاريخ يمتدّ إلى أربعة آلاف عام وعن خراب الهيكل وعن ""عودة الشعب اليهودي إلى دِياره"" وهو اسم إحدى أهم شركات الإسكان الّتي استولت على أملاك اللّاجئين ""عميدار""، كما أَنّ التعبير العبريّ لكلمة مستوطنين العربية مشتقّ من الجذور الدينيّة ومعناه ""الّذين يسكنون في أَرض آبائهم وأجدادهم"" (مِتْنَحليم) وفيه تأكيد على الإرث والوَرَثة. وهذا ما عزّز استخدام الفلسطينيّين والتأكيد على البعد الكنعانيّ العربيّ الأصلانيّ، في مواجهة الصهيونيّة.
في المحصّلة بدون نضال شعبيّ حقيقيّ على الأرض، لا أثر جديّ لأَيّ إنجاز في صياغات قرارات أممية، كما أنَّ إحراز انجاز لا يعني بالضرورة أنّه سيشكّل عاملا حاسماً لتغيير الوضع. ما يجري تحقيقه يتعلّق بالسياق والمعني الكفاحيّ على الأرض وعلى أساس تراكميّ وبوتيرة بطيئة ولكن ثابتة في معالجة قضايا مستعصية على الحلّ. وباعتقادي أنّ وضوح الرؤية والسياق واعتماد العمل الشعبيّ يجعل إمكانيّات الاستفادة الفعليّة من خطاب الأصلانيّة أكثر مناليّةً ودون التأثير على جوهر الحقّ الفلسطينيّ.
الاحالات:
""على الدول أن تتخذ، بالتشاور والتعاون مع الشعوب الأصليّة، التدابير الملائمة، بما فيها التدابير التشريعية، لتحقيق الغايات المنشودة في هذا الإعلان"".https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/Declaration_indigenous_ar.pdf
https://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=sMGXYDa668709271824asMGXYD
تصوير: المصور النقباوي وليد العبرة.
أمير مخول
باحث في مركز تقدم للسياسات